د. عـزة مـازن
في روايته “أيام النوافذ الزرقاء” (2020 في طبعتها الثانية) يقدم الكاتب الروائي عادل عصمت سردًا مقطرًا ومكثفًا
(134 صفحة من القطع المتوسط) تمتد أحداثه من منتصف الستينيات وحتى مشارف القرن الحادي والعشرين، على خلفية من تاريخ مصر تمتد من فترة ما قبل نكسة 1967 مرورًا بحرب الاستنزاف ونهاية الحقبة الناصرية، وحتى التحولات السياسية والاجتماعية والإقتصادية في المرحلة الساداتية وانتصار أكتوبر 1973، وتأثير سياسة الانفتاح الاقتصادي على القيم والعلاقات الإجتماعية، فيما بعد.
على مشارف القرن الحادي والعشرين يعيش السارد في مدينة خليجية تتشابه أيامه فيها ويخلو المستقبل من المعنى، فيبحث عن نقاط الفرح ودفقة الحياة في الماضي البعيد. في بيت الجدة القديم في مدينة طنطا بوسط الدلتا، تأتيه ذكريات طفولته وصباه متشظية في أحلام يقظته ومنامه، كأنما تطل عليه من خلف نوافذ البيت المطلي زجاجها باللون الأزرق وقت الحرب، في منتصف الستينيات، فتتحول الأحلام في ظلالها الزرقاء إلى حقيقة تبعث الحياة في أوصاله، بينما يتوارى الواقع بسطوعه القوي.
تُستهل الرواية بالراوي يلقي بكرة السرد دفعة واحدة، على أن تنفرج خيوطها متناثرة ومتشابكة في تسع فقرات سردية، يرسم فيها السارد صورًا حية لكل فرد من أفراد العائلة يمسك كل منها بخيط من تلك الخيوط التي تتشعب وتتشظى لتلتقي. في المدينة الخليجية ينتابه السأم وتضيع منه بصلة المستقبل، فيبحث عن بؤر من الضوء في الماضي البعيد، في بيت جدته بوسط الدلتا، ذلك البيت الذي يخبره خاله محمود في إحدى رسائله بأنه “أصبح قديمًا جدًا، كأنه قطعة من حياة أخرى” :
“الآن هنا في تلك المدينة الخليجية، يمر اليوم وراء الآخر، أخمن تقريبًا ما سيحدث غدًا، في الأسبوع القادم والشهر القادم، وأحيانًا يٌخيل إلىَ أنني أرى طريقة موتي؛ سوف أرقد على الكنبة في بيت جدتي، هناك، في المدينة التي نشأت وتربيت فيها وسط دلتا النيل، وأغمض عيني وأترك الضوء ينسحب”. يعود السارد إلى ذلك البيت القديم يبحث عن أسباب شعوره بتعطل الحياة، فيعثر على نقاط من الفرح تبعث الحياة في نفسه: “أفكر كثيرًا في تلك المدينة البعيدة. هناك حدث شىء ما، عطل شعوري بأن الحياة تسير إلى الأمام؛ عطل مجىء المستقبل. بحثت كثيرًا في التفاصيل الصغيرة، في رائحة الأصباح، في الأغاني التي كانت تعوم في الشارع، في الحكايات والأساطير، في الموت والحب والغيرة. حاولت استعادة وجوه بشر أعرف أنني لن أراهم ثانية. لم يكن لكل ذلك جدوى”. ولكن تتحول الذكريات التي تسكن أحلامه إلى “نقطًا صغيرة من الفرح” تبدد وحشة الواقع: “لم أستطع العثور على ذلك الذي أعاق حياتي عن الجريان، وجعل مني شخصًا لا ينتظره شىء. ترك لي مستقبلًا فارغًا كالعدم. في ذلك البيت عشتُ أيامًا تبدو الآن حية لا ينالها التبدل. تبدو هكذا على البعد، لكن وقت عيشها، لم أكن أعرف أنها ستصبح نقطًا صغيرة من الفرح”. يفاجأ الراوي بأن أحلامه تتكثف حول الجدة، التي تتراءى له وقد عادت حية تلقي بظلال كثيفة، وتتشظى صورتها الذهنية على تلك الصور الذهنية التي يكونها كل من الأبناء والأحفاد عنها في فضاء زمني بعيد ومختلف يمتد من منتصف الستينيات وحتى وفاتها بداية السبعينيات: “بعثتها أحلام لم أكن أتوقع أن تكون بهذه الكثافة، في الفترة التي ظننتُ أن كل شىء أخذ صورته النهائية”. في خطاباته المتبادلة مع خاله محمود، الذي توقف بحياته عند السبعينيات ويرفض استخدام التقنيات الحديثة ويستخدم الرسائل الورقية، يسأله عن صورة شخصية للجدة، فلم يجد. ومن ثم لم يعد للجدة، كما يرى السارد، غير “الصورة الذهنية” التي يكونها كل فرد من أفراد الأسرة على حدة، و”لم تعد لها إلا تلك الصورة الشخصية الخاصة بكل فرد على حدة”. تتحول الجدة، في نظره، إلى “تقطير حي لزمن قديم”: “كم تتعدد وتنقسم الأرواح عندما تغادر عالمنا، ويكون لها هذا الوجود الحيوي الحر في أن تظهر كما تشاء! إنها هناك تهب في أحلام كل منا وفي تداعياته كتقطير حي لزمن قديم. لم يكن هناك مفر من الاعتناء بحقيقتها الخاصة في خواطري الشخصية، لم يتبق غير أن يحاول المرء أن يعثر على روحها الضائعة، التي أصبحت جزءًا من روح كل منا”. وعلى مدى السرد يحاول الراوي أن يعثر على تلك الروح الضائعة التي أصبحت جزءًا من روحه.
يغلف الضوء الأزرق الخافت الرواية، فتتراءى الذكريات مثل حلم خلف غلالة زرقاء. كان طلاء النوافذ الأزرق يقلق الجدة ويثير أعصابها: “الضوء الخافت الأزرق الذي ينتشر في البيت يقلقها، من يوم أن دهنوا النوافذ المطلة على الشارع بلون أزرق خوفًا من الغارات، وهي تشعر بكآبة لا تقوى عليها، هذا النور الداكن خاصة في الصباح والمساء، يترك حسًا كأنها تعيش في جو الأحلام المضبب، يثير أعصابها أحيانًا حتى إنها كانت تطلب منا: “افتحوا الشبابيك روحي حتطلع”!”. على مدى الرواية يعيش الراوي في هذا الجو – “جو الأحلام المضبب” – فتحمله الرؤى إلى البيت القديم والزمن القديم من وراء غلالة زرقاء، يرسم تفاصيل الشخصيات من الذاكرة، فتبدو كاملة الوجود والحضور من وراء ضباب الذاكرة والأحلام، خاصة الجدة التي يطغى حضورها على السرد، رغم وفاتها في طفولة السارد في شتاء 1973: “مازالت جدتي تعيش، رغم أنها قد ماتت فعليًا في شتاء 1973، عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري، كان شتاء باردًا. الأيام غالبًا بيضاء، الشمس تشرق دقائق معدودة،، ثم تتوارى خلف غلالة من السحب”.
لا يستخدم الكاتب الأحداث التاريخية كخلفية صماء لتفاصيل حياة أسرة السارد، ولكنها تلون حياتهم وتشكل مصائرهم. فيستشهد خاله فؤاد في “عملية عسكرية في شرق القناة عام 1970” أثناء حرب الاستنزاف. ومن وقتها يسيطر الحزن على الأسرة، وخاصة الجدة وخالته سميرة: “في أبريل من ذلك العام عبر فؤاد مع كتيبته قناة السويس بالليل. كانت ليلة داكنة الظلام. هاجمت الكتيبة القوات الإسرائيلية داخل مواقعها.. كانت موقعة كبيرة، كما حكى لي خالي محمود بعد ذلك. كاد جثمان فؤاد يُفقد لكن زملاؤه استطاعوا أن يحملوه معهم أثناء العودة. هدأت أحزان جدتي قليلًا عندما عادت الخالة منيرة وجلست على الكنبة وحدثتها أننا كان يمكن أن نفقد فؤاد ولا نعرف له مكانًا. كان ذلك يطيب أحزانها، عندما تعرف أنها على الأقل لم تفقد جثمانه إلى الأبد، لكن الحزن لا يهدأ، يعود إلى هجومه مرة أخرى”.
على قصر الرواية، إلا أن النص غني بالتفاصيل الصغيرة الحيوية، التي تعطي السرد مشهدية عالية، ومن ذلك جلسات الجدة لرتق الملابس وعلبة الخياطة و”مكانها الدائم فوق البوفيه”، وكيف تغير وضعها بعد موت فؤاد: “منذ ذلك الوقت أصبحت جدتي تنسى المكان الذي تركت فيه علبة الخياطة. مكانها يعلن عن جلسة سرية، عقدتها مع أطياف لا نعرف عنهم شيئًا. قبل موت فؤاد كانت موجودة في مكانها الدائم فوق البوفيه. في كل مرة تطلبها، أصعد كرسي السفرة، وأنظر إلى نفسي في مرآة بعرض الحائط. بعد ذلك كنا نصادفها في أماكن غريبة؛ على الكنبة في الصالة، أو فوق منضدة غرفة الصالون، أو على سياج الشرفة، أو على الكومودينو بجوار سريرها. أحاط بعلبة الخياطة في الأماكن الجديدة حس بالشرود والإهمال، مختلف عن الوقار الذي كان يحيط بها فوق البوفيه”. وبذلك تتحول علبة الخياطة، بكل ما يحيط بها من تفاصيل إلى معادل موضوعي للحزن الذي ساد البيت بعد موت فؤاد، ولا سيما حزن الجدة، التي كانت لجلسات رتق الملابس مكانة خاصة في حياتها، مثلما كانت في معظم بيوت الأسر المتوسطة في ذلك الوقت. يتكثف ذلك الإيحاء الذي تحمله علبة الخياطة في وصف السارد لها: “علبة الخياطة هي علبة حلويات “شركة كورونا”. بدأ الصدأ يزحف على حوافها، ولم أعد قادرًا على رؤية وجهي على السطح اللامع للغطاء، بعد أن تكاثرت عليه نقط بنية داكنة، تفوح منها رائحة الخيوط والأقمشة وخليط من روائح عتيقة؛ إبر بأحجام مختلفة مغروسة في قطعة من الكرتون، لفات خيط بيضاء وسوداء وأخرى بنية وزرقاء داكنة اللون، خرز من كل الألوان، وأزرار من كل الأنواع وكبسولات لفساتين البنات، ومسبحة قديمة لها “شراشيب” بنية، وقطع صغيرة من أقمشة ملفوفة بطريقة خاصة، تحتفظ بها جدتي لأمر ما، ياقة قميص قديمة، وقطعة صغيرة من القطيفة، ربما هي التي تحمل تلك الرائحة الغريبة المميزة لعلبة الخياطة”. أما جلسات رتق الملابس فيستحضرها السارد في مشهد بالغ الحيوية: “في صباح السبت، عندما يخلو البيت، وتلم أم وداد الغسيل، يحين ميعاد الخياطة. تفرز الملابس قبل ترتيبها، وتعمل بها إصلاحًا. لكن علبة الخياطة تكون جاهزة أيضًا وقت المهمات العاجلة، عندما يلاحظ خالي محمود وهو على وشك الخروج أن عروة القميص تحتاج إلى تضييق، أو حمالات قميص خالتي سميرة الداخلي تحتاج إلى تقصيير. تتحرك علبة الخياطة من يد إلى يد، لكنها لا تكون على تلك الدرجة من السحر، إلا عندما تمسكها جدتي، هناك تبدو الأشياء خاصة وتعمل بتناغم وانتظام”. تتحول علبة الخياطة إلى أنيس ورفيق للجدة، بعد موت ابنها فؤاد، تجتر معها الذكريات، حتى اختفت ولم يعثر لها على أثر، إلا بعد موت الجدة، حين فضفضت أم وداد في غمرة الحزن أنها أخفتها في سحارة الكنبة: “لم نعرف سر اختفاء علبة الخياطة إلا بعد موت جدتي. في تلك الأحزان الثقيلة التي غرقت فيها أم وداد، فضفضت عن نفسها، وقالت إنها أخفت عنها علبة الخياطة، لكنها لم تستطع أن تخفف أحزانها. عرفنا أن أم وداد خافت من علبة الخياطة، وظنت – حقيقة – أنها مسكونة بالأشباح. فما إن تمسكها جدتي، حتى يغيم وجهها، ولا تكف عن الحديث مع نفسها، ثم أصبحت تحملها معها كل وقت. ذات يوم شتوي كانتا وحدهما في البيت، أغلقت أم وداد عليهما غرفة الجلوس.. يومها كانت جدتي صامتة، ولم تستطع أن تمنع نفسها من تذكر حياتها كلها، وخيبة أملها، ثم راحت تبكي. يومها قررت أم وداد أن تخفي العلبة في سحارة الكنبة، ولم يعثر عليها أحد منذ ذلك الوقت”. غابت علبة الخياطة في سحارة الكنبة إلى أن عثر عليها السارد هناك، قبل سفره إلى الإمارات، أثناء مساعدته خاله محمود في وضع السم في جحور الفئران: “يومها أزحنا الكنبة، وسمعت ذلك الرنين المعدني. مددت يدي خلف ملاءات قديمة ولحاف تعطن قطنه، كانت علبة الخياطة تسكن هناك. غطى الصدأ أجزاء كبيرة منها، غير أن الإبر ظلت تلمع في لفات الخيط”. مثل الإبر التي اختفظت ببريقها في لفات الخيط، وسط أجزاء كبيرة من الصدأ، كانت ذكريات السارد عن حياته في بيت جدته.
ينشغل السارد بفكرة الموت ويتأمل الطريقة الغريبة التي يموت بها أفراد عائلة أمه: “سأظل غير قادر على فهم الطريقة الغريبة التي يموت بها أفراد عائلة أمي. سوف تخيفني هذه القدرة على التفاوض مع الموت، يرقدون كأنهم مسافرون، ويتعاملون مع الأمر كأنه تجهيزات سفر، بمعرفة وفهم لطبيعة سرية موغلة في القدم”. ويلح السارد على فكرة الموت كأنه سفر: “في أي لحظة يمكن للمرء أن يقطع سفره ويعود إلى موطنه، مثلما تعود جدتي في أحلامي بكثافة هذه الأيام، لتعزز فكرة أن الموت مجرد سفر (…). وفي نهاية الأمر أليست روحها موجودة في مكان ما من هذا العالم، يمكن أن أصل إليها أو تصل إلىَ؟ ما الذي يجعلنا متيقنين على هذا النحو الساذج من وجودنا في العالم، وأن من رحلوا غير موجودين”؟ في المدينة الخليجية البعيدة يستعيد السارد ذلك الحلم المنذر بالموت الذي رأته جدته قبل وفاة خاله فؤاد، فقد استيقظت من النوم “وهي تشعر بتلك القشعريرة والبرودة التي تركها طائر أبيض حام في فضاء الصالة، بعد أن كسر زجاج النافذة المطلي باللون الأزرق، رفرف بجناحيه، ثم حط على شظايا الزجاج وراح يلتقطها كما يلتقط حبوب القمح”. وبعدها بسنوات ذكرت له الجدة أن ما رأته في الحلم كان طائر الموت الذي أخذ روح خاله فؤاد عام 1970. يلح وجود الجدة على ذكريات السارد في صحوه ومنامه، حتى تتجسد، في نهاية السرد في طائر الموت، تطير في الفضاء بجلباب منزلي أبيض، وكأنما يستشرف السارد موته الشخصي: “كنت أقود سيارتي في الليل عائدًا إلى بيتي، لمحت طيفًا يعبر أمامي (…) كان يشبه طيف جدتي، وعندما نمت في تلك الليلة حلمت بها تطير في الفضاء بجلباب منزلي أبيض”. وتأتي الفقرة الأخيرة في الرواية صدى لحلم الجدة بطائر الموت الذي قبض روح ابنها فؤاد: “كان الجو عاصفًا.. الهواء يزوم.. ويصفق النوافذ.. شعرتُ ببرودة ثقيلة، ثم هطل المطر غزيرًا. سمعت نقرًا على النوافذ.. انقبض قلبي وقمت من فراشي.. فتحتُ باب غرفة الجلوس.. كان النقر صاخبًا.. اقتربتُ من النافذة.. كانت بلورات الثلج تتراكم على السياج، ولما دققت النظر رأيت شظايا زجاج أزرق”.
“أيام النوافذ الزرقاء” سرد قصير مكثف، تتداعى فيه الذكريات متناثرة، لا يربطها سوى حنين السارد إلى بيت الجدة القديم، يدفعه سأم وملل في المدينة الخليجية التي يعمل فيها. يزعجه “الضوء الساطع لأصباح المدن الخليجية” ويحن إلى تلك الأطياف الخافتة التي كانت تأتيه من وراء النوافذ الزجاجية الزرقاء، يبحث فيها عن روحه الضائعة. يتدثر السرد بلغة شفيفة مرهفة محملة بشحنات إيحائية وتأملات فلسفية. بذلك النص القصير استطاع عادل عصمت أن يأسر عقل قارئه ويشحذ روحه.