أيام الشمس المشرقة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 23
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فاطمة قنديل

“أيام الشمس المشرقة” هي الرواية التي صدرت مؤخرا للكاتبة ميرال الطحاوي (دار العين-2022)، ومن يعرف القليل عن الكاتبة، قد تستهويه الاستعارات الجاهزة فيخمن أن الكاتبة المغتربة في أميريكا ستسرد علينا ذكرياتها وحنينها لبلدنا؛ “بلاد” الشمس المشرقة! لكن الكاتبة ستباغتنا على طريقة “كسر توقع القاريء” (بمصطلح “ياوس”)، لنكتشف بعد صفحات قليلة أن كان علينا التنبه لاستخدامها كلمة “أيام” وليس “بلاد” في العنوان، ولتكشف لنا أيضا أن المكان المسمى بالشمس المشرقة، هو مكان “لا يخصنا”، في المهجر أيضا: ” مجرد مستعمرة صغيرة أو أنقاض مدينة حدودية شبه ساحلية مهجورة”( ص14-15) أي مكان للمهاجرين، الشرعيين، وغير الشرعيين، الحالمين بتلك البلاد البعيدة هربا، ولو عبر قوارب الموت، من بؤس الحياة في أوطانهم. سيكتشف القاريء شيئا فشيئا أن عليه ألا يأمن لاستعاراته الجاهزة، ولو قليلا، خاصة مع كاتبة ذات عوالم متباينة، وخبرة طويلة، وعميقة، بالكتابة الروائية. وربما تكون أقرب الطرق لمقاربة هذه الرواية هي أنها تحكي عن “المهمشين” الذين نزحوا من الأوطان ليعملوا في تلك المهن الحقيرة كخادمات أو خدام، وعاهرات ومشردين، لذا سأترك هذه المقاربة جانبا، لأتحدث عن “تقنيات” الرواية، وتحديدا عن هذه “الشمس المشرقة” التي لا تخصنا! وهؤلاء البشر الذين تتحدث عنهم الرواية، ولم يعودوا “مننا”! فهل الأمر كذلك فعلا؟! لنعد إلى الشمس المشرقة، والدلالة الأقرب المرتبطة بالدفء والبرد، لأتلمس ظلا آخر من ظلال دلالتها، فقد يكون “الضوء” الكاشف، وبتعبير شعبي دارج “النهار له عينين”، “عينين” يمتلكهما “الراوي العليم” الذي اعتمدته الكاتبة طوال الرواية، فهو يعرف كل شيء عن تلك الشخصيات المتعددة الثرية، التي تحفل بها الرواية، بل يعرف مصائرها، نقرأ:” ..تأكد الجميع أن إطلاق النار صار جزءا من تقاليد التعبير عن الغضب والسأم، ذلك الغضب الذي يتفجر فجأة ويسفر عن ذاته في شكل فاجعة لا يمكن محوها بسهولة” (ص 12) والرواية تبدأ بقتيل شاب يُردى بالرصاص، وآخر ينتحر، وتنتهي بجثة امرأة نافقة فوق الرمال، بينما تدور حيوات من يعيشون في ذلك الخواء، الذي تتكرر به الأيام، بعد أن قُتل ذلك الحلم: حلم التحقق بالهجرة. ما الذي يفعله “الراوي العليم” إذن؟ ونحن نعرف المصائر منذ البداية تقريبا؟ لعلنا نحتاج إلى مقولتين قديمتين للناقد: “عبد الفتاح كيليطو” في حديثه عن “ألف ليلة وليلة”، الأولي: “إن الكتابة رأس قتيل يتكلم”؛ فهل نحن إزاء بشر وأحلام قتيلة يحكيها الراوي هنا؟ والثانية:”إن الكتابة تنظر في اتجاهين”، وهي مفتاح قراءة أيضا، فالشخصيات الرئيسية: “نعم الخباز”، “نجوى”، ” أحمد الوكيل” مثلا، والهامشية كذلك، يجمعها شيء واحد؛ وهو “الصور المصنوعة والزائفة” التي يرسمونها لأنفسهم ولماضيهم في بلادهم، تمنحهم تلك الصور صلابتهم، وقدرتهم على الاستمرار، والصمود : “ربما لأن كل سكان “الشمس المشرقة” يكذبون بشأن ماضيهم الذي هربوا منه” (ص51) لكن “الراوي العليم” ليس هنا مجرد راوٍ يصدق حكاواهم ويسردها، إنه بذلك الضوء البارد الكاشف ( وكأنه شمس مشرقة تحوم في النص؟) يشرع بمهمة إعادة توثيق هذا الماضي، بتحطيم كل الصور المزيفة التي يرسمها هؤلاء، فما إن تشرع الشخصية في سرد صورتها المُدعاة حتى يبدأ في سرد ماض آخر، معاكس ومناقض لتلك الصورة. إنها لعبة السرد التي تنسجها لنا “ميرال الطحاوي”، بدأب ومهارة، كأنها “بينلوبي” تنسج وتنقض، في إرجاء لمصائر معلومة مسبقا! وهي، أو راويها العليم، لا تكتفي بالحكي عن أولئك “المهمشين” بل تنسج شبكة من العلاقات بين :”الشمس المشرقة”، “سنام الجمل”، ” الجنة الأبدية”، ثلاثة أماكن تتجاور، أو ثلاث طبقات: كادحة ومتوسطة وثرية، تربطها شخصيتها الرئيسية “نعم الخباز” كضفيرة تُحكِم الطبقات الثلاث معا؛ كخادمة، وكوسيط بين بشر يجمعهم “التوجس” و”الخوف” و”الاستغلال” و”المنفعة المتبادلة”. هل قلت في البداية إنهم بشر ليسوا منا؟! سأراجع هذه المقولة، إذن، ترغمني على المراجعة مقولة “إن الكتابة تنظر في اتجاهين”، وسأسائل نفسي: ولماذا افترضتُ أن الكاتبة، أو راويها، لا يتأمل عبر تقنية “كنائية” بلاده – بلادنا أيضا، “بلاد” الشمس المشرقة؟ أيكون استخدام المكان، الذي يبدو نائيا في المهجر محض صورة نسجتها “ميرال الطحاوي” لبلادها التي تخايلها في غربتها؟ ما يجعل من “الشمس المشرقة” حكاية كل الأماكن، وما يجعل ال “الهناك” هو ال “هنا”؟

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم