أيامنا الحلوة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نجلاء علام

هل كانت مصادفة عندما دخلت القاعة الضيقة المكتظة بالوجوه الشابة الطامحة بمبنى جريدة المساء أن تميز عينى وجهه؛ وجه بشوش مريح وصوت هادئ واثق وضحكة صافية يطلقها بعد مزحة لا تخلو من تقريظ لأحدهم إذا خرج عن السياق، تعلقت بهذا الوجه وبهذا الرجل الذى يرتدى الأبيض كثيرًا أو على الأقل الألوان الفاتحة، التى تشعر من يراه بالأمل والبشرى.

كنت فى السنة الثانية بكلية التجارة جامعة عين شمس، جئت بعد نصيحة الزملاء بأن ندوة المساء التى يقيمها الكاتب محمد جبريل أهم ندوة فى القاهرة، جلستُ أستمع، قَدّرَ الرجلُ وجلى وترددى وتركنى آتى كمستمعة، وأخيرًا تجرأتُ وقرأتُ قصة، وبدون أى تعليق أخذ القصة منى وفى الأسبوع التالى وجدت القصة منشورة.

ما هى غاية الكتابة؟

هل الغاية أن نكتب أحداثًا ومواقفَ ولغةً وسردًا وعملًا أدبيًا يبهر القارئ ويمتعه، أم أن الغاية أن نؤثر فيمن يقرأ كإنسان، نضيفُ له رؤية جديدة، ونثير داخله مشاعر ونوسع دائرة تجاربه الإنسانية، والحقيقة أن الأستاذ محمد جبريل من القلائل الذين أثرّوا على المستويين مستوى تلقى القراءة لأنه قدّم أعمالا زاخرة بتقنيات مميزة للكتابة، وأيضًا بالتجارب الإنسانية الحيّة، بل إنه تخطى هذا التأثير اللحظى إذا جاز التعبير، وقدّم نموذجًا للإيثار بدعم جيل جديد كان يتشكل حينها.

بابتسامة ودودة يأخذ أستاذ جبريل العمل الأدبى، وفى الأسبوع التالى تجده منشورًا فى جريدة أو مجلة، يفتح أمام أجيال باب التحقق والوجود فى الوسط الثقافى والأدبى، يؤكد على الموهبة ويربت عليها ويرعاها، ويحاول تشذيب أى جنوح غير مبرر، الآن أتأمل الوجوه النضرة الشابة فى الصور الأبيض والأسود، وأجد رهان أستاذ جبريل عليهم كان صائبًا.

تعلمت منه الاجتهاد؛ إذا أردت أن تنجح ليس هناك وسيلة سوى الاجتهاد، مرت الأيام وتزاملت مع رفيقة دربه الصديقة العزيزة د. زينب العسال فى العمل، سنوات طويلة وأنا ألاحظ إخلاصها وتفانيها فيما تقوم به وأيضًا كربة أسرة، ورأيت مدى دعم أستاذ جبريل وتشجيعه لها، وكثيرًا ما كانت تتحدث عن العناء الذى يلاقيه أثناء الكتابة، وتجاهل البعض أحيانًا لإنجازه الأدبى الكبير، اليوم أعزيها وأعزى الأيام الحلوة والصحبة الجميلة، هل أقول إن أكثر ما تعلمته منهما كيف يصير الزوجان صديقيْن!

 أول مرة

اتصلت به عندما توليت مهمة رئاسة تحرير مجلة قطر الندى، وطلبت منه قصة للأطفال، تحدثت معه عن باب جديد بعنوان «أول مرة للأطفال» وإننا نبحث عن المبدعين الذين لم يكتبوا للطفل من قبل، وكتب قصة رائعة بعنوان «القط مروان فى الغابة» لامست روح الطفولة، هل قلت لكم إن معين الكتابة واحد بينما تتعدد الروافد التى يصب فيها، كتب الأستاذ محمد جبريل القصة والرواية وقصة الأطفال والنقد والمقال ببراعة، والأهم أنه كَوّنَ رؤية للحياة من خلال إبداعه، أحب الأسكندرية وكتب عنها معظم أعماله، حتى إننى رأيتها بعيونه.      

دون غصة

 استمرت ندوة جبريل لسنوات طويلة وانتقلت إلى أكثر من مكان، فبدأت بمقر جريدة المساء ثم لحديقة مبنى نقابة الصحفيين القديم، ثم مبنى النقابة الجديد، تأثرت الندوة ومع اختلاف الأجيال بشخصية مؤسسها محمد جبريل، الذى وضع لها أسسًا أدبية وأخلاقية، أن تهذيب النفس لا يعنى إيلام المشاعر، وأن النقد ليس معناه التجريح واصطياد الأخطاء، وأن التسامح سمة إنسانية أنقذت البشرية وحفظت وجودها إلى الآن، إن صيانة الكرامة وعدم الاستجداء، لا يحفظان للإنسان كرامته فقط بل أيضًا يرفعان قدر عمله وإبداعه، وبعد انفضاض الندوة دون غصة من تجاهل متعمد أو غير مقصود، واصل أستاذ جبريل الكتابة، أصبحت هى الملاذ والغاية، والآن بعد أن ركب سفينة الرحمة، وسبح بها فى بحر الغفران، أرى أيادٍ كثيرة تمتد مُلّوحة له، أيادِ كانت تمسك للمرة الأولى بالقلم، وساعدها جبريل على إكمال سطر الحياة.     

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم