أول الحب، بداية الشعر

sameh kassem
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سامح قاسم

لا يولد الشعر في العقول المدججة بالقواعد، بل يُولد حيث يُولد الحب، في تلك اللحظة التي يصبح فيها العالم شفّافًا كحجر كهرمان، يضجّ بذبذبات سرية لا يسمعها إلا قلب وحيد يخفق أسرع مما يجب.

الحب، ذلك الذي يجعل الأسماء تفقد معناها، ويجعل الأشياء تتوهّج دون سبب، هو الخيط الأول الذي تنسج منه القصيدة جلدها الرقيق. كل بيت شعر هو أثر قدم على طريق العاشقين، كل استعارة هي لهاثٌ بين نبضتين، وكل قصيدة مكتوبة على وجه الأرض، حتى وإن ادّعت غير ذلك، ليست إلا رسالة حب مؤجلة.

لا يعرف العاشق الأول كيف يتكلم. الكلمات تفلت منه كعصافير مذعورة، ويداه، حين تمتدّ إلى الهواء، تكتشف للمرة الأولى أن الفراغ يمكن أن يكون ممتلئًا. إنه يواجه لغزًا لم يُخبره عنه أحد، لغزًا يشبه حلمًا متكررًا، يعرف أنه شاهده من قبل لكنه لا يتذكر متى.

هكذا وُلد الشعر. من ذلك التلعثم العذب، من الحيرة بين أن ينظر أم يشيح بوجهه، من تلك القشعريرة التي تمرّ في عظامه حين يسمع اسمه ينطق بصوت لم يكن يعرف أنه يحبه.

أول الحب ارتباك، وأول الشعر محاولة لترتيب الفوضى. لكن أي فوضى يمكن ترتيبها حين يكون الحب هو سيدها؟

الشاعر الأول لم يكن شاعرًا، كان عاشقًا يبحث عن لغة لم تُخترع بعد، عن اسم جديد للورد، عن طريقة ليقول “أحبك” دون أن ينطق بها. وحين عجز، اخترع الشعر.

وهكذا، حين امتلأ قلبه أكثر مما يحتمل، لم يجد سوى الكلمات ليُفرغ بها زوابع روحه. رسمها كما يرسم الطفل خطوطًا غير مفهومة على الحائط، كتبها كما يكتب الغريق وصيته الأخيرة على خشبة تتقاذفها الأمواج، نحتها كما ينحت النهر اسمه في الصخور التي تقف في طريقه.

ومنذ ذلك اليوم، لم يعد الحبُ صامتًا، ولم يعد العالم كما كان.

اللغة حين تعجز، تصبح موسيقى

في الحب الأول، تصبح الألوان أكثر سطوعًا، والوقت أكثر بطئًا، والمطر ليس مجرد ماء يسقط، بل إيقاعٌ يتناسب مع نَبضٍ لم يكن الإنسان يسمعه من قبل. الأشياء البسيطة تتحول إلى إشارات سرية، كلمة عابرة تصبح قصيدة كاملة، وابتسامة واحدة تختصر كل الكتب التي كُتبت عن العشق.

في هذه اللحظة، يشعر المرء أن اللغة العادية لم تعد تكفي، أن الحروف اليومية صارت عاجزة عن حمل ما في داخله. فلا يجد سوى الشعر، يكتب كما يتنفس، كما يمشي دون أن يفكر في خطواته، كما يترك أثره على الأرض وهو لا يدري. وهكذا يولد الشعر، حين تضيق اللغة بالحياة، فتتسع بالكلمات.

منذ أول بيت كُتب في التاريخ، حتى آخر قصيدة نُشرت اليوم، كل الشعراء كانوا يكتبون عن الحب، حتى حين زعموا أنهم يكتبون عن الحروب أو الغياب أو المدن المُهدّمة. كلهم، بلا استثناء، كانوا يبحثون عن شيء ضاع منهم، عن شخصٍ ما، عن لحظة أرادوا لها أن تبقى فلم تبقَ.

أول الحب، أول الشعر

الحب ليس الشعر، لكنه الماء الذي يُنبت القصائد، والضوء الذي يترك ظلاله في الكلمات. إنه الخطوة الأولى التي يأخذها القلب نحو المجهول، والغصّة التي تجعل العاشق يبحث عن اسمٍ لما يشعر به، فلا يجد إلا الاستعارة والتشبيه والمجاز.

وأول الشعر، هو أول محاولة للإنسان كي ينجو من صمته.

أما آخر الشعر، فهو تلك القصيدة التي لم تُكتب بعد، والتي ستولد ذات يوم، حين يقف عاشقٌ على حافة الوجد، ويكتشف للمرة الأولى أن الكلام وحده لا يكفي، فيكتب.

 

 

مقالات من نفس القسم

mistafa bayoumy
شهادات
علي حسن

إنسان