أوراق ميت … التدوين لتاريخ غير معلوم
خالد عبد العزيز
يسعى الكاتب ممدوح عبد الستار في روايته الجديدة "أوراق ميت" الصادرة عن دار ساوند للنشر إلى إعادة اكتشاف تاريخ الناصرية لكن هذه المرة من وجهة مُغايرة . نادرا ً ما نجد عملا ً روائيا ً يرصد الوجه الآخر للحقبة الناصرية و زمن الستينات . أو كما يقول الكاتب " ترصد الرواية التاريخ الشفهي غير المُدون للستينات"
رغم أن الرواية صغيرة الحجم )183 صفحة فقط( ألا أنها تبعث العديد من الأسئلة لعل أهمها: أيهما أفضل الملكية أم الجمهورية كما تقول الست وهيبة احدى شخصيات الرواية " خلاها جمهورية "؟ ذلك السؤال شائك بالتأكيد . و للآن لا توجد أجابة كاملة عليه ، فمن ينتقد الملكية لديه أسبابه و من ينتقد الجمهورية لديه أيضا ً أسبابه الوجيهة .
يحاول ممدوح عبد الستار إيجاد إجابة منطقية على هذا السؤال . فهل وفق في إجابته ؟ ولكنه قبل أن يقدم إجابته عن أيهما افضل الملكية أو الجمهورية ؟ يقدم للقارئ شهادة عن تلك الفترة الحرجة من تاريخ مصر، نهايات الملكية و بدايات و ازدهار الناصرية . إذ لا يمكن تقييم التجربة الناصرية بوصفها بالتجربة الفاشلة، أو تقييم الملكية بوصفها كلها سعادة وهناء . فمصائب قوم عند قوم فوائد .
تبدأ الرواية بالأب " عبد الواحد " التاجر الثري " بوصفه ممثلا ً للملكية " . ينتظر مولد ابنه الذي يُرزق به بعد جهد و بعد أن مات له ستة من الأبناء . يظهر أخيرا ً للنور ولده و يستعين لبقائه حيا ً بالأسطورة التي تنجح ، و يسمي ابنه " صبحي " . و تحديدا ً مشهد تسمية المولود له دلالات يُمكن أن نُحلل أحداها بأنه من رحم الملكية ولد الجيل الجديد جيل ثورة يوليو " المُتمثل في صبحي " .
يمتلئ النذ بالدلالات التي تنتظر من القارئ أن يُحيلها لعقله الذي يقوم بدوره في إعادة قراءة المشهد وربطه بالتاريخ ، لعل من أبرز المشاهد الحاوية لرمزية ما، مشهد زيارة محمد نجيب للقرية و عبور القطار للبلدة، فيحصد القطار أرواح عدد ليس هين من سكان القرية، ومنهم من هُرس أسفل القطار أو فقد أطرافه، في أشارة بالزمن القادم ممتلئ بالدموية و القهر . وعندما يزور محمد نجيب بيت والدته و يجالس أهل القرية تنقلب كفة الميزان على رأسه و يفقد كرسي السلطة لصالح جمال عبد الناصر . " من بعيد أتى ناسيا ً أمر القرى و الناس . لك فقط رمى بأجسادنا على الزلط و الفلنكات و أرواحنا هي فقط أرواح . منذ بدء الخليقة ليس لها معراج – تحوم حولك – تصافحك . لك مجد الموت و لعنة الحياة . اّه لو تعرف أن أجسادنا هي النصر أو الهزيمة " .
دلالة أخرى تطفو بين ثنايا النص من خلال مشهد الست وهيبة التي تأخذ المحل المُتبقي لعبد الواحد ، و الذي يمثل القشة الأخيرة التي يتمسك بها في مواجهة العوز أو أخر حدود الغنى و الوجاهة التي كان يرفل فيها . تقتنصه وهيبة في مشهد بسيط للغاية ، تُزيح ضاوية زوجة عبد الواحد خارج المحل . في أشارة إلي أن طوائف الشعب التي عانت من السنوات السابقة تقتنص أخر ما بقى من طبقة الاثرياء القدامى و تجعلهم ليسوا في وضع مساوي لهم بل في وضع أسوأ منهم . " و بحركة فجائية خطفت الست وهيبة مفتاح الدكان و القفل ــ دكاني ، و أنا عايزاه . و طلبت من ضاوية أن مغادرة الدكان . أستسلمت لها باكية منتظرة عبد الواحد " .
ترصد الرواية الذي وصلت إليه طبقة التجار والأعيان منذ نهايات الملكية حتى بداية ثورة يوليو وانتهاء بالنكسة أي مرورها بكافة التقلبات والهزات المؤثرة في تاريخها . فعبد الواحد الذي نمت تجارته و وصل للثراء أصيب منذ أن تولى جمال عبد الناصر بالخيبة فالرئيس الجديد يُريد أن يُشارك التجار الصغار في العملية التجارية مما يؤثر على الارباح . مما يُسبب له خسائر فادحة بعد ذلك حتى يصل لمرحلة الأفلاس .
على الجانب الاخر الجيل الجديد المولود من رحم الملكية مُحب و مؤمن بسياسات الثورة ، صبحي نموذجا ً. يؤيد قرارات القيادة السياسية ، لدرجة أنه تحت وطأة الهروب من التعليم و البحث عن الرزق يتطوع في القوات المسلحة ، ولا يكتفي بهذا ، لكنه يُسافر لليمن. " لم تمر الليلة دون مناوشة . الملكيون خارج حدود الجامع ، و المصريون داخله . في الفجر ، تحركت قافلة اللواء إلى صنعاء و صبحي ضيف عليهم يأتنس بهم" .
هذا يُحيلنا لنقطة هامة داخل الرواية وهي حجمها الصغير للغاية ، فبعض الفصول كانت تحتاج لأضافة بعض التفاصيل عليها . فمن يقرأ مثلا الفصل الخاص بسفر صبحي لليمن سُيدرك أن هذا الفصل ينقصه الكثير . وفصول أخرى كُنت أتمنى لو تُطعم بالمزيد من التفاصيل لتكتمل الرؤية .
تبدأ الرواية بقراءة الراوي لأوراق صبحي عبد الواحد التي ترصد نهايات الملكية و بدايات و توهج عصر الثورة حتى بدء أفولها بعد سيطرة الأتحاد الاشتراكي و هزيمة يونيو . و تنتهي الأوراق بعد الهزيمة . ليست هذه الأوراق ألا شهادة عن عصر لازلنا نعيش في تبعاته حتى الأن . شهادة لم تُدون من قبل ، و أعتقد أن بها الكثير من المشاهدات التي لم نسمع عنها من قبل أو نقرأها من قبل . و قد أتى عنوان الرواية " أوراق ميت" برمزيته عن هذا الجيل الذي ذاق عصرين لكل منهما مميزاته و سيئاته ، لكن نهايته جاءت بعد مرارة يونيو فاستحق لقب " ميت ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتب وناقد مصري