أن تكتب ولا تُقرأ: صرخة كاتب شاب في وجه التهميش.. واعترافات صحفي شارك بالصمت

mahmoud emad
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود عماد

لم أعتد بعد فكرة كوني كاتبا بالمعنى الكامل، ربما لأني ما زلت في بداية الطريق، خطوتُ الخطوة الأولى في رحلة أتمنى أن تكون طويلة ومليئة بخطى كثيرة تالية.

كل ما أتمناه هو أن أواصل الكتابة، رغم كل شيء، وألا أتوقف أبدا مهما كانت الظروف، علّني أجد بالمصادفة نفسي الضائعة في أحد النصوص.

أتساءل كل يوم، منذ بدأت كتابة أول حروفي على الورق، تيمنا بكتاب زمن الأدب الجميل، قبل التكنولوجيا والكتابة الإلكترونية التي أصبحت الآن وسيلتي أيضا. سؤالي هو: ماذا أريد من الكتابة؟ هل أريد النشر أم الكتابة لنفسي؟ هل أريد الشهرة والمبيعات العالية أم أريد الكتابة الحقيقية، حتى لو كانت دون صخب كبير؟ ربما أيضا أريد تخليد اسمي في سجلات التاريخ، وربما أريد أن يقرأني أحد في دولة أخرى، في قارة بعيدة، بلغة مختلفة، ويصرخ: “ها هو الكاتب العبقري!” وربما لا يخلو الأمر من طموح الجوائز والتقدير الأدبي. أو أنني ببساطة أريد الكتابة من أجل الكتابة وفقط.

الإجابة على هذا السؤال ربما تكون صعبة، فأي إجابة ستحمل شيئا من الصدق والصراحة، وشيئا من الكذب والخداع المبطّن. لذلك، أظن أن الإجابة الأكثر واقعية هي مزيج من هذا وذاك. إجابتي هي كل الإجابات السابقة، ممزوجة في إجابة تخصني، وقد تخص كثيرين غيري أيضا.

لا يخفى عليّ أنه عندما أمسكت بالقلم لأول مرة، وقررت أن أكتب، رأيت النشر أمامي. راودني من اللحظة الأولى. في البداية، أن تُنشر قصتي الأولى في أي مكان، ثم أن تصدر روايتي الأولى وتكون بين أيدي القراء، على رفوف المكتبات، وفي أجنحة المعارض، تسافر إلى دول أخرى، تعبر البحار والأنهار، لأسافر معها ولو بشكل رمزي، ولمَ لا تحصد جوائز؟

بعد العديد من الصعوبات التي توقعتها، ومن دون أحلام وردية، وبعد صدمات أولى أعادتني إلى أرض الواقع القاسي، أدركت أنني في روايتي الأولى اخترت نوعا من الكتابة المنبوذة في بلادنا، لكنه مقدّر في الغرب، نوع يتم وصمه هنا بالضحالة والركاكة وعدم الجدية. لم أختر ذلك النوع إلا لأنه ناداني أثناء الكتابة، ولم أتمسك به بعد ذلك، بل تمردت عليه وتجاوزته عندما ناداني نوع آخر.

كتبتُ روايتي الأولى مصنفا إياها على أنها تنتمي للنوع الإنساني في المقام الأول، بينما صنفها الجميع تقريبا رواية خيال علمي. لم أقل “إنسانية” لأني أخاف من الخيال العلمي أو أنبذه، بالعكس، أنا أقدّر كل أنواع الكتابة. ويمكنني القول إنني أكره فكرة التصنيف من الأساس. فليكتب الكاتب ما يشاء، بالطريقة التي يراها مناسبة، طالما أن النص يطلب ذلك.

بسبب التصنيف، واجهت مشاكل كثيرة في النشر. لم أحزن، واحترمت كل الآراء التي رفضت الرواية، وصبرت حتى وصل النص لناشر تحمّس له. رأت ناشرتي الأولى أن الكتابة الجيدة أهم من أي تصنيف، وفهمت ما قصدته في كتابتي.

كان الاستقبال الأول للرواية جيدا، ولم أتوقعه. للمرة الأولى لم أرفع سقف توقعاتي. لم أرد أن يقع السقف على رأسي لو ظللت أحلم. كنت أعلم أن الرواية الأولى لن تحقق النجاح الذي أرجوه، لكنها ستكون خطوة أولى على طريق طويل. رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة. هكذا أخبرت نفسي، ولذلك سعدت كثيرا بحفاوة التهاني التي وصلتني من الأصدقاء والزملاء والأساتذة.

شعرت في لحظة ما أنني قد أكون مخطئا، ربما يمكن أن أحقق نجاحا يفوق ما توقعت. وجاء معرض الكتاب ليكون لحظة سعيدة للغاية في حياتي، سأتذكرها دائما. اقتنى كثيرون الرواية، أكثر بكثير مما توقعت. وقعت عددا لا بأس به من النسخ، أكثر مما ظننت بمراحل. ازداد أملي، حتى نسيت أن أسوأ ما قد يحدث للإنسان هو أن يرتفع منسوب الأمل في دمه.

انتهى المعرض بأمنيات كبيرة لا أعلم من أين أتت. ربما من طبيعتي الحالمة. اجتاح الصمت شخصي الكاتب، فلم أرَ لعدة أيام شيئا يخص الرواية، وكأنني لم أكتبها، أو لم ترَ النور أصلا. واكتشفت في تلك اللحظة أن أهم ما يريده الكاتب هو رأي في روايته، أكثر من الشراء أو التوقيع، أو السفر بها إلى معارض خارجية، رغم أن ذلك حدث للرواية، ولو بشكل محدود. عرفت أيضا في هذه اللحظة أنني أريد تقديرا ما، لا أعرف إن كنت أستحقه أم لا.

بدأت بعد ذلك بعض المداخلات القليلة التي أبدت رأيا في الرواية. أدخلت هذه الآراء سعادة كبيرة على نفسي، لكنها أيضًا أصابتني بحنق شديد ازداد مع الوقت.

لا أخفي أنني انتظرت آراء الأصدقاء والزملاء والأساتذة. انتظرت أن يذكروا الرواية ولو بشكل عابر. لم أكن أنتظر مقالات أو دراسات عن عمل أول لكاتب شاب، فأنا أعلم أنني لا أستحق ذلك فعليا، لكن ما أردته هو ضوء يرشدني، يجيبني على سؤال: هل أنا كاتب يمكنه الاستمرار؟ أردت رأيا فيما كتبته، ملاحظات على أخطائي قبل المديح في محاسني، إن وُجدت.

انتظرت هذه القراءة أكثر بعد توفر الرواية على التطبيقات الإلكترونية، لكن ساد الصمت مرة أخرى، دون أمل في حديث قريب. لم أرد مجاملة أو تملقا، أردت فقط أن أشعر أنني فعلت شيئا ما، أن أحدا يهتم بكاتب حالم لا يملك إلا قلمه.

لم أتوقف عن الكتابة، وكتبت مجددا. وعرفت أنني أكتب لأنني لا أعرف أن أفعل شيئا آخر. أنا أتنفس الكتابة، مهما بدا عليّ عكس ذلك. لا أكون نفسي إلا فيما أكتبه. أنجزت عملا جديدا، واخترت من جديد التمرد على الواقع الأدبي بالقصص القصيرة، التي لم تعد تحظى بالاهتمام كما في الماضي، في زمن سلطان الرواية.

انتهيت من المجموعة بآمال كبيرة، هذه المرة أكبر من الرواية. شعرت أنني وجدت صوتي بطريقة ما. لكن، مرة أخرى، وقفت العقبات في طريقي، مثلما حدث مع نوع روايتي الأولى. وقفت هذه المرة بسبب القصص القصيرة، التي لم يعد السوق القرائي مهتما بها إلا قليلا.

قيل لي: يجب أن تكتب رواية لو أردت النجاح. لكنني لم أرد سوى أن أكتب دون قيود. والآن، هناك بوادر انفراجة في أن ترى هذه المجموعة النور قريبا.

ربما لا أكتب عن معاناة شخصية، رغم أنها تظهر ككتابة ذاتية للغاية. لكنني متأكد أن كثيرا من الكتاب الشباب، أو من هم في بداية طريقهم، مروا بهذه اللحظة، وما زال البعض يمر بها. لقد صرخوا من أجل تقدير ما. بل هناك من ظلّ لسنوات يعاني الصمت، ليس في بلادنا فقط، بل في العالم كله.

ما أريد قوله، ولا تطاوعني اللغة على كتابته، هو أننا نعيش أزمة ليست وليدة هذه اللحظة، لكنها أزمة متجذرة ومتجددة، تزداد سوءا مع الوقت. في وقت سابق، كانت الحركة النقدية أقوى، وكان هناك من يتبنى الأصوات الأدبية الجديدة، يسلط الضوء عليها ويدفعها إلى الأمام، حتى يجد أصحابها طريقهم. وبالفعل، أصبح كثير منهم من الكبار الآن.

أنا هنا لا أهاجم أحدا، ولا أُنظر على أحد، فأنا أصغر من ذلك بكثير. ولا أنكر أيضا وجود كتاب كبار يدعمون الكتّاب الشباب ويتبنونهم أدبيا، وهذا شيء عظيم. فإن أي انتصار أو تقدم لكاتب شاب هو انتصار لجيل كامل، وأمل جديد بأن الفرصة ما زالت قائمة.

الصرخة التي أُطلقها ليست صرخة غضب. دور الضحية لا يناسبني، ولا أريده، لأني لا أحبه، ولأني أؤمن بالعمل والاجتهاد فقط، وأؤمن بأن الإيمان ليس في الوصول، بل في مواصلة السعي في الطريق.

ما أريد إيصاله هو كسر لفكرة القوالب الجاهزة عن “الكاتب الشاب” و”الكتابة الأولى” التي يجب أن تصبر وتنتظر دورها، حتى لو طال ذلك سنوات، بحجة النضج. وربما الداعون للنضج لا يدركون أنه لا يأتي إلا من التجربة.

الجانب الآخر من هذه الكتابة عن الكتابة نفسها، هو أن يأتي الصحفي بداخلي لينتقد نفسه. فثمة شخص يتصارع داخله الكاتب والصحفي في صفحات مختلفة. وربما آن لهما أن يجتمعا، ليعترض أحدهما على الآخر، وينقد كلٌ منهما ذاته.

مثلما بدأت هذا الحديث بأني لم أعتد بعد كوني كاتبا، فالحقيقة أني لم أعتد أيضا كوني صحفيا. حمل هوية واحدة عبء ثقيل، فما بالك بحمل هويتين تتناحران على من سينتصر؟ رغم أني أعمل في الصحافة الثقافية، أكتب عن الكتب، وأجري حوارات مع الكتّاب.

مثل الجميع، ألهث وراء الكتاب أصحاب الأسماء الكبيرة، وهذا ليس عيبا، خاصة لمن هو في بداية طريقه مثلي. فالاقتراب من الكبار يضيف ثقلا لشخصيتي الصحفية والكتابية.

لكنني أتساءل كثيرا أين الكتاب الشباب من عملي؟ لا أجد إجابة شافية. لم أكتب عنهم بما يكفي، ولا جعلت صوتهم يصل كما ينبغي. هل لقلة شهرتهم؟ أم لقلة مستوى كتاباتهم؟ أم لطبيعة العمل والوسط الثقافي؟ أم لتقصير حقيقي مني أنا وحدي؟

ربما تكون الإجابة، كما قلت في سؤال آخر، مزيجا من كل هذا. لكنها لن تعفيني من المسؤولية، ومن نقد الذات. فما أعاني منه عندما أكون كاتبا، أمارسه أيضا عندما أكون صحفيا. لقد شاركت في جريمة الصمت، حتى لو لم أدرك ذلك.

مارست ازدواج المعايير من جهة أنا الكاتب الذي يصرخ، ومن جهة أخرى أنا الصحفي غير المبالي. شاركت فيما أعاني منه، وكنت، دون وعي، جزءا من الصمت المفروض عليّ وعلى كل الكتاب الشباب. أنا جزء من آفة هذا الوسط الثقافي. أبحث عن الأضواء والمجد الشخصي، لا عن القيمة والكتابة الحقيقية. أشتكي، وأنا جزء من الآلة التي تخنق الكتّاب الشباب كل يوم، وهي الإعلام الثقافي غير المبالي بهم بالشكل المطلوب.

لا أقول إن كل الكتاب الشباب يستحقون الاحتفاء أو التشجيع، فهناك من ليسوا كتابا أصلا، فقط مجموعة من المخدوعين. لكن أمام هذه الفرضية، تضيع كثير من المواهب التي، لو تم الانتباه لها، لتحركت مياه واقعنا الثقافي الراكد.

نقول دائما إننا لا نملك كتابا مثل عمالقة الماضي: نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، توفيق الحكيم، طه حسين، وغيرهم ممن نستعيدهم دوما بالحنين والشجن. ونقارن زمنهم بزمننا الضحل. لكن الرد بسيط: هذه الأرض ما زالت تُنبت مبدعين وكتابا حقيقيين، فقط انتبهوا للزرعة قبل أن تفسد وتموت.

مقالات من نفس القسم