د. نيرمين خليل محمد
تعد السيرة الذاتية للمفكر والشاعر الراحل عباس محمود العقاد، والتي عنونها بـ (أنا) واحدة من أجمل وأمتع السير الذاتية العربية، ويستشعر فيها القارئ بحميمية الكاتب وقربه، كأنه كتبها بفؤاده وليس بقلمه ويقص علينا فيها سيرته بتلك العبارات الفخمة وشديدة البلاغة التي تعودنا عليها في أعماله والتي أظهر من خلالها فلسفته في الحياة، وتحدث عن عوامل تكوينه وما شكل عقله من كتب واشخاص ومواقف في سنواته الأولى.
التكوين
العقاد الذي تزيد أعماله الأدبية والفكرية عن مئة كتاب والعديد من المقالات الأدبية والثقافية، يبدأ سيرته بمكاشفة عن ذاته كما يراها هو فيقول: “وعباس العقاد كما أراه -بالاختصار-هو شيء آخر مختلف كل الاختلاف عن الشخص الذي يراه الكثيرون من الأصدقاء أو الأعداء…”، ومن خلال بعض الحوادث والمواقف يكشف العقاد عن حقيقته كما يراها هو وينفي بعض الصفات التي ألصقت به، فيقول عن التواضع واللين إنهما من صفاته عكس ما يظن فيه من الجمود والجفاء، ولكنه يعذر تلك الأحكام لأن لها أسباب ظاهرة، فيحكي عن واقعة سجنه وكيف أنه كان يتأذى من صوت آهات المساجين وهم تحت وطأة التعذيب والأوجاع وطلب من مسؤول السجن قضاء وقت بعيد عن أوقات تعذيب المساجين لكي لا يراهم أو يسمع اوجاعهم وكان يمتنع عن الخروج من زنزانته ويفضل البقاء بزنزانة تملأها الرطوبة، فتكاثرت الأمراض التي أصابته في زنزانة السجن إلى أن خرج معتل الصحة، وأصبحت بعض الأمراض تلازمه مثل علة الحنجرة فلذلك لازمه لبس الكوفية وأصبحت سمة وعلامة.
ويعتبر صفة الكبرياء التي وصف بها ما هي إلا كرامة الأديب فيقول في هذا الموضع “وها هو ذا إنسان يعرف حقه في الكرامة، ولا يعرف لما لتلك الأصنام الاجتماعية أن تفرض عليه”، والعزلة والانطواء هما أيضا صورة ذهنية في عقل البعض قد فرضت عليه، فكانت البداية معه دون سن السابعة وحكى عن حادثة كانت سببا في ميلة للعزلة، وكأن العقاد يكاشف القارئ عن ذاته الحقيقية وأسبابها لكي لا يصبح كما نراه ولكن لا نعرفه.
فلسفة الحب عند العقاد
في الكتاب نتعرف علي فلسفة العقاد في الحب، فتلك الحالة التي توصف بالحب مع العقاد لها تفردها، والمدهش أنه لم يتكلم عن تجاربه في الحب بل نظرته وفلسفته الخاصة، فأوضح أن للحب أوجه تعريف متعددة، ذلك أن تعريف الحب ليس أمرا سهلا، فرأى العقاد أن المعنى يمكن أن يتضح بالنفي، مثلا ليس الحب بالغريزة الجنسية، لأن الغريزة بين الإناث والذكور، ولكن الحب لا يكون بالتخصيص والتمييز كما قال العقاد، وليس الحب بالشهوة لأن الإنسان قد يشتهي ولا يحب وقد يحب وتقضي الشهوة على حبه وليس بالانتقاء والاختيار وقد أوضح لماذا، وليس الحب بالرحمة أيضا فيمكن أن يعذب المحب حبيبة، وذكر العديد من الأمور المنفية في الحب يمكن أن نذكرها بسهولة.
وأوضح العقاد أن تعريف الحب جزءا جزءا هو الأوقع من أن يعرف شاملا مستجمعا وذكر في هذا الموضع أمثلة على ذلك: فالحب به شيء من العادة والخداع والأنانية والعداوة والغرور وذكر كل حالة على حدة، وكيف تكون تلك الصفات في الحب ويسمى حبا، وبالنهاية ذكر أهم صفة للحب، فيمكن للحب أن يخلو من أي شيء دون الاهتمام، فيمكن تقبل البغض والخيانة من المحبوب، لكن لا يوجد حب بدون اهتمام.
وذكر العقاد أن القضاء والقدر ملازمان للحب، فيقول في هذا الموضع: “وأوجز ما يقال: إن الحب قضاء يملك الإنسان ولا يملكه الإنسان، ولو دخل في مشيئته لما استولى عليه، ولا غلبه على أمره…”
ويلخص العقاد فلسفته بالحب أنه يجمع عدة عواطف وليس عاطفة واحدة وأنه قدري في ذاته لأننا لا نختار زمان ومكان الحب.
لماذا العقاد؟
لم يكن العقاد متفردا بأعماله فقط بل بشخصيته أيضا، وفلسفته في الحياة والسلوك ووجهة نظره في كل جوانب الحياة التي ظهرت في كتاباته، فسمة شخصية الكاتب والأديب تصبغ أعماله، ومن خلال سيرته الذاتية التي اختار لها عنوان “أنا”، يتكلم العقاد عن فلسفته بالحياة عموما فيقول: “أما فلسفتي في الحياة من الناس، فأثر التجربة والدرس فيها أغلب من أثر الطبيعة الموروثة…” وخلاصة القول كما يراها العقاد في فلسفة الحياة أنها مختلفة باختلاف قصد كل إنسان بالحياة فلكل هدفه وبواعثه ومقصده، ولكن درج الناس على النظر في غايات الأعمال حتى أوشكوا أن يجهلوا بواعثها، أو يغفلوا عنها كما قال العقاد في هذا السياق.
أما الحياة من وجهة نظر العقاد فيقول عنها: “إن الحياة تستحق أن نصونها إذا كانت لنا شروط نمليها عليها وتقبلها، ولكنها غير جديرة بالصون إذا كانت كلها شروطا تمليها هي علينا فنقبلها صاغرين، ولا نملك العرف والعدل فيها…”
يشبه العقاد الحياة باللعوب الماكرة فيقول في هذا السياق: “والحياة لعوب ماكرة، لا يحيط بمكرها جميع الأحياء ولو كانوا من أبناء آدم وحواء، وهي تعلم أنها تستهوي الخلق باللعب والدهاء، وتحول بينهم وبين الموت بالحيلة الناجحة في كثير من الأوقات، ولولا ذلك لشردوا منها كما يشرد الأطفال من الحبس الكريه الذي لا يلعبون فيه كما يشتهون، لهذا تعطي بعض الشروط وتمنع بعضها فلا تكون جديرة بالحب كله، ولا بالبغض كله في وقت واحد من أوقات عمر الإنسان“.
سيرة العقاد هي بالنهاية ليست سردا لحياته فقط، بل هي محطات وأوقات وأشخاص وآراء خرج بها العقاد شكلت كل فكره ووجهة نظر شخصيته التي صنعت لنا أروع الأعمال، وتلك السيرة هي في حد ذاتها تعد عملا ممتعا وإن لم يكتمل لموت العقاد وهو يكتب سيرته، إلا أنه اكتمل بروعته وقوة بيانه في كل كلمة وجملة وفقرة كتبها =.