أنا لست ميتاً أيها العالم

كريم عبد السلام
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

كريم عبد السلام

فى صباح عادى
مثل عشرة آلاف صباح مروا
كان الكناسون يزيحون بقايا الظلام،
والموظفون يهرولون إلى أعمالهم
والبائعون يفترشون الأرض فى السوق
وكنت فى المقهى
طلبت قهوةً مُرةً وكوباً من الماء
لكن النادل اعتذر بأدب:
عفوا يا بك
لا نقدم المشروبات للموتى
حتى لو كانت قهوةً مُرةً

– من قال لك إنى ميتٌ أيها النادل
أهذه يدُ ميت
أهاتان عينا ميت
أهذا صوتٌ يأتيك من العالم الآخر
=إنها التعليمات يا بك
ممنوع أن نتعامل مع الموتى

وجررت ساقىَّ إلى الشوارع ربما ألتقى بحياتى

…………..

يا بائعَ الخبز
اعطنى رغيفاً وخذ جنيها
ما أشهى الخبز الساخن فى الصباح
الخبزُ الطيب وقليلٌ من الملح
يساويان الحياة

ورفض البائع الذى يعرفنى وأعرفه..
أنت ميتٌ يا أستاذ
هكذا أخبرونا
وأمرونا ألا نبيع خبزاً للموتى

أقسم أنى لست ميتاً
يدى يدى وصوتى صوتى وأحلامى أحلامى..
لكن البائع أشاح بوجهه بعيداً

……….

بائعُ الصحف الذى أشترى منه الجرائد كل صباح
وأطالع عنده أغلفة الكتب
ابتسم لى بأدب جم
ورجانى أن أتركه فى حال سبيله:
“ليس مسموحا للموتى أن يطالعوا عناوين الجرائد وأغلفة الكتب
ولا أريد أن يكتشف المخبرون أنك مررت علىّ
أو لمست أغلفةَ كتبى
أرجوك يا صاحبى
هل ترضى لى الأذى
هل تريد أن ترانى هائماً مثلك؟”

………….

أمام مقر عملى
أوقفنى الحراس بتجهم..
– ممنوع
= ما هو الممنوع يا حارس
– لم نعد نسمح للموتى بالعمل
لم يعد لائقاً أن يجلسوا خلف مكاتبهم
أو يتعاملوا مع الأحياء

= ولكنى لست ميتا يا حارس
– الأوامر تقول إنك ميت
ولا يحق لك المرور أو العمل

…………..

يا موظفَ السجل المدنى
إذا كنتُ ميتاً، كيف لى أن أتحدث معك
وأضربَ بقبضتى مكتبك
وأنثرَ أوراقه على الأرض
وأجذبك من ياقتك هكذا
إذا كنتُ ميتاً، قل لى: كيف مت؟ ومتى؟
بالرصاص؟
هاهو جسدى سليم
بالسكتة القلبية؟
قلبى يدق بعنف مثل الطبلة الكبيرة فى الموسيقى العسكرية
ربما أموت لاحقا من الغيظ
ربما أموت من القهر
ربما أموت من حشرات على هيئة بشر
لكن لم يحدث حتى الآن على الأقل
قل لى بالله عليك
أأنا ميت دون أن أدرى؟
وهز الموظف رأسه مرتين
وأطبق سجلاته المجلدة السميكة
نعم نعم
أنت ميتٌ رسميا
لا يعنينى أنك تصرخ فى وجهى مثل الأحياء
العالم مليء بالمعجزات
لكنك ميت بما يكفى لأن يضعك أىُّ مارٍ فى قبر مفتوح

…………..

يا مُخبرُ
إذا كنتُ ميتاً كما تقولون
لماذا تراقبنى؟
ولماذا لستُ فى السماء أو فى قبرى؟
إذا كنتُ ميتاً، ألا تخشون أن أحرق وأنهب وأدمر
دون عقاب
أىُّ عقاب يمكن أن ينال الموتى؟

– نحن نراقب الموتى أمثالك جيدا
ولدينا من أجلكم
سجون خاصة
وزنازين انفرادية
وآلات تعذيب
وقبور تتسع لآلاف الموتى
ومحارق لجثث الموتى
وأسوار عالية لا يستطيع الموتى تجاوزها

……………

ورجعت بيتى وملاذى
أريد أن أحتمى
أريد أن أختبئ
أريد أن أرتاح
وعندما رأتنى زوجتى الحبيبة،
بكت بحرقة وغطت شعرها
ثم رجتنى أن أخرج:
“إنها الأوامر
لا يمكننى استقبالك فى بيتنا
لأنك أصبحت ميتا”
أقسمتُ لها بسنوات حبّنا
أننى مازلت على قيد الحياة
استحضرت كل الذكريات والعلامات التى لا يعرفها سوانا
حاولت أن أضمها
لكنها تراجعت بخوف
وأمرتنى ثانية بالخروج
“أنت ميت يا حبيبى
أنت ميت وغريب
أنت ميت من أجل الأولاد
أنت ميت من أجل لحظاتنا الجميلة
وأنا سأرتدى السواد بقية عمرى
وأحزن عليك”

……………

إذن
أنا ميتٌ وجائع
أنا ميتٌ وأشعر بالبرد
أنا ميتٌ وهائم فى الشوارع
أنا ميتٌ ومراقب
أنا ميتٌ وممنوع من الجلوس بالمقهى
أنا ميتٌ وممنوع من تناول الخبز
أنا ميتٌ وممنوع من مطالعة الجرائد
أنا ميتٌ وممنوع من النظر فى المرآة
أنا ميت وممنوع من دخول بيتى
أنا ميتٌ وممنوع من العمل
أنا ميتٌ وأتطلع للنجوم
أنا ميت وأجلس فى الحديقة العامة
أنا ميتٌ وتخافنى القطط والكلاب
أنا ميتٌ وأشاهد الشروق
أنا ميتٌ وأغمض عينى مع أول دفء فى الصباح
أنا ميت ولا أستطيع النوم
أنا ميتٌ وأرى كيف يهرول الأحياء إلى أعمالهم
أنا ميتٌ وأنصت للمظاهرة الصباحية للعصافير
أنا ميتٌ وعطشان على كورنيش النيل
أنا ميتٌ وغريب فى نظر أصدقائى
أنا ميتٌ وخطير فى نظر المخبر
أنا ميتٌ وزائد عن الحاجة فى رأى الموظف
أنا ميتٌ ومشاكس كما يعتقد الطبيب
أنا ميتٌ ومتآمر فى تفسير رئيس الحزب
أنا ميتٌ ومروج شائعات على صفحات الجرائد
أنا ميتٌ ومنافس بين مشجعى الكرة
أنا ميتٌ وأهمس للحرية
فيسمع إخوتى الأموات همسى
وينضمون لى:
حرية
حرية
حرية

مقالات من نفس القسم

خالد السنديوني
يتبعهم الغاوون
خالد السنديوني

Project