“أنا” في مواجهة “نحن”.. نبوءات أدب “الديستوبيا” التي سبقت “Pluribus” بـ90 عامًا

بسمة حسن

عبر مبنى مُحكم أسطواني يأخذ شكل الحلقة ذي فناء فسيح، يتوسطه برج مرتفع متعدد النوافذ والفتحات، يُطل على عدة غرف معزولة (زنازين/ أقفاص) تسمح بدخول بعض الضوء من إحدى نافذتي كل غرفة، يتيح رؤيتها جميعًا بدقة ومراقبة من فيها من خلال فرد (مراقب) واحد، بحيث يرى فيه السجَّان السجناء دون أن يُرى، خرجت فكرة الفيلسوف الإنجليزي جيرمي بينثام (1748 – 1832م) المعروفة باسم “البانوبتيكون” عام 1785م بهندسة معمارية متقنة لها قواعدها وضوابطها، وهو الاسم الذي أُطلق على السجن الكبير، وليست السجون فحسب بل امتد مفهوم هذا البناء أيضًا لكل مؤسسة تأخذ إطارًا وشكلًا محددًا، وتتبع نظامًا بعينه، وتعتمد في داخلها على الضبط والرقابة، ومن ثم صار المفهوم المركزي للسلطة والهيمنة والامتثال للقواعد والأوامر.

انبثقت عن تلك الفكرة واحدة أخرى تتخطاها خطورة، وهي فكرة المراقبة الذاتية أو الضبط/الانضباط الذاتي وفقًا للرؤية التي طرحها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926- 1984م) التي طرحها في كتابه “المراقبة والمعاقبة” 1975م، من خلال زرع شعور مضطرب في نفس السجين أو العامل أو المعلم أو الطالب أو أي شخص داخل مؤسسة هيكلية ما بأنه مراقب حتى ولو لم يكن ذلك حادثًا بالفعل، بشكل يُفقده حريته ويقيد حركته، ويُعمِل فعل المراقبة على ذاته بشكل عفوي، أي الإيحاء بحالة مستمرة من الرؤية تحقق الوظيفة السلطوية المتلاعبة بالشخص المراقَب بشكل ذاتي تمامًا فيما يسمى “البانوبتيكون الشخصي”.

وللمفارقة أنه على مدار العصور أكثر القضايا التي شغلت الفكر الإنساني هي حرية الإرادة منذ عصر التنوير بداية من التحرر من السلطة الدينية، وهي الحرية والكرامة اللتان بذل الإنسان من أجل انتزاعهما من أي قوى مهيمنة ومسيطرة داخليًّا أو خارجيًّا في المراحل التاريخية المتعاقبة كل غالٍ ونفيس، وفي ظل العولمة ومع التطور العلمي والتكنولوجي والآلي، وبلوغنا مرحلة متقدمة من التقدم العقلي والفكري، خُيِّل لنا أننا استطعنا أن نحصل على حريتنا كاملة، فلم يعد هناك رقيب أو محاسب أو سلطة مهيمنة بشكلها التقليدي المتعارف عليه، خاصة مع ما أتاحته الثورة التكنولوجية من مجال واسع للحرية من خلال شبكات الإنترنت والعالم السيبراني والتطبيقات الإلكترونية الحديثة ووسائل التواصل الاجتماعي والواقع الافتراضي، فبضغطة زر واحدة يمكنك التحرك والتنقل بين عوالم مختلفة وأنت لا تزال جالسًا في مكانك داخل غرفتك، ولكن هذا ما اعتقده الناس فقط وليس الحاصل بشكل فعلي على أرض الواقع حتى وإن كان تأثيره المُقيِّد خفيًّا أو يفرض نفسه بسلطة قهرية لا شعورية يعملها المُستخدم أو إنسان هذا العصر على نفسه.

ليس هذا فحسب أصبحت هذه الوسائل التكنولوجية عينًا مراقبة للإنسان ليست متجسدة في شكل محدد -كالكاميرات وأجهزة الترصد والتعقب- وهو ما يطلق عليه مصطلح “المراقبة السائلة”، فبمجرد استخدام التطبيقات والمواقع الإلكترونية المختلفة، وملء البيانات الشخصية والمعلومات الخاصة بك المطلوبة للتسجيل فيها، فقد وقعت دون أدنى مجهود في شراك منظومة إلكترونية خفية لمراقبة وتعقب خط سيرك والأخطر من ذلك أفكارك.

وقبل أكثر من تسعين عامًا تخيل الأدباء والروائيون الشكل الذي سيكون عليه العالم في المستقبل، فمنهم من تخيله يوتوبيًّا متفائلًا وآخرون رأوه ديستويوبيًّا متشائمًا، وهو ما تناوله المسلسل الأمريكي حديث الصدور “Pluribus” 2025م الذي تحققت فيه نبوءات أدب الديستوبيا الذي توقعها منذ ما يقرب من المائة عام، وعلى عكس اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة التي تجسد المثالية في كل شيء اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، فإن الديستوبيا أو المدينة الفاسدة تأتي على العكس من ذلك تكشف المستقبل الأسود الذي ينتظر الإنسان، حيث تنمحي المظاهر الإنسانية شيئًا فشيئًا، ويفقد البشر حريتهم وإرادتهم، ويحكمهم نظام موحد يدَّعي سعيه لسعادته بينما يهمُّ بكل ما يؤدي لفنائه وهلاكه واستلاب وجوده.

المسلسل مكون من تسع حلقات، وسيُجدد له جزء ثانٍ، ويقوم ببطولته Rhea Seehorn (كارول ستوركا) و Karolina Wydra (زوسيا) و Carlos-Manuel Vesga (مانوسوس) و Miriam Shor (هيلين) و Samba Schutte (مستر دياباتي) وغيرهم، تأليف Vince Gilligan أيضًا بعد مسلسليها “Breaking Bad” و”Better Call Saul” (فينس جليجان) بمشاركة Vera Blasi (فيرا بلاسي) وغيرها، إخراج Vince Gilligan (فينس جليجان) و Gordon Smith (جوردون سميث) وغيرهما، وهو إنتاج أمريكي ويعرض على منصة Apple TV.

يبدأ المسلسل باكتشاف مجموعة من الباحثين الأمريكيين إشارة غامضة قادمة من الفضاء الخارجي يقود إلى برمجة نوع من الفيروسات يؤدي لنوبات تشنج جماعية، تُفضي لانسجام داخلي بين جميع البشر على وجه الأرض، فيفيقون راضين مطيعين سعداء سعادة دائمة، يرسمون على وجوههم ابتسامات مصطنعة خالية من المعنى والشعور ، لا يزعجهم ولا يثير غضبهم شيء، ورغم أننا نراهم أمامنا أحياء فإنهم يبدون في حركاتهم البطيئة والمنظمة أشبه بـ”الزومبى”، وتبدو الروائية “كارول ستوركا” تلك الشخصية العنيدة المتجهمة صعبة المراس التي لم تصب بهذا الفيروس وحيدة تمامًا في مدينة ألبوكيرك بولاية نيو مكسيكو، بعد فناء بني جنسها كما عرفتهم وعايشتهم وكانت واحدة من بينهم، وكأن الأرض تحولت لكوكب آخر.

أدرك الأدب والفن مبكرًا أن السلطة الحديثة لم تعد مجرد مؤسسات تهدد الجسد، بل منظومة معقدة تُخضع العقل والروح الإنسانية، وقد تعددت الأعمال الأدبية التي صورت تغوُّل الآلة وتهديد الوجود الإنساني وسيطرة النظام الواحد، ومن أبرز الروايات التي تماست مع موضوع مسلسل “Pluribus” رواية We”” (نحن) للكاتب الروسي “يفغيني زامياتين” (1884 – 1937 م) الذي درس الهندسة البحرية في بطرسبرج، وانضم خلال تلك الفترة للحزب الشيوعي، وتعرض على يد النظام الروسي للاعتقال أكثر من مرة الأولى بعد قيام الثورة الروسية عام 1905م، والمرحلة الثانية منها (الثورة البلشفية) عام 1911م، التي انشق عنها فيما بعد. صودرت بعض أعمال زامياتين التي كانت معادية للحرب الروسية عام 1914م، كقصته “في الريف” التي حوكم بسببها، ليغادر بعدها إلى إنجلترا ثم يعود بعد ذلك لروسيا، إلا أن محاصرة السلطة له والتضييق على إبداعه دفعه للهجرة إلى أوروبا ليتوفى أخيرًا في باريس، ومن أعماله الأخرى “سكان الجزيرة” و”الكهف” وغيرهما.

تنتمي رواية “نحن” -التي نحن بصددها- والصادرة قبل تسعين عامًا لأدب استشراف المستقبل، وهو أدب يدرس الحاضر ويحلله لبناء رؤية تنبؤية لما يمكن أن يحدث مستقبلًا، ويعد شكلًا من أشكال أدب الخيال العلمي، بشكل خاص روايات الديستوبيا أو المدينة الفاسدة التي تصور المستقبل الكابوسي الذي ينتظر الإنسان نتيجة للتطور العلمي والتقني وسيطرة العقل والسلطة المتزايدة والمتضخمة للآلة ونظام الدولة الواحدة الشمولية (التوتاليتارية) الذي يسير وفقًا لعقل أداتي رياضي بحت، وهي تعد الإرهاصة الأولى لهذا النوع من الأدب في مقابل أدب اليوتوبيا أو المدينة الفاضلة، لذا رغم أن زامياتين كتبها عام 1920م، فإنها لم تُنشر كاملة بالروسية إلا عام 1988م.

تدور أحداث الرواية حول شخصية “د – 503” أحد رياضيي الدولة الواحدة التي قامت بعد حرب المائتي عام، هذا الكيان الزجاجي الشفاف الذي يديره “المُحسِّن” (المكعب)، تعمل هذه الشخصية على بناء مركبة فضائية زجاجية كهربائية تُسمى “التكامل”، ويعكف على كتابة مذكراته داخل هذه الدولة، لإخضاع الكائنات الأخرى المجهولة في الكواكب الأخرى لأفكارها الذين يرونهم في حالة من الحرية التي يصفونها بالتوحش، “آلهتنا هنا، إنها معنا في المكتب، في المطبخ. في الشغل، في المرحاض، الآلهة صارت مثلنا، وتاليًا صرنا نحن كالآلهة. وإليكم، أنتم ياقرائي المجهولين في الكواكب الأخرى، سنأتي لنجعل حياتكم دقيقة ومعقولة بشكل إلهي كحياتنا”([1]).

تتكون هذه الدولة من المكتب الإداري، والمكتب الطبي (غرف العمليات)، ومكتب الحراس، والمكتب العلمي، والأرقام (المواطنون الذين يوصفون بمصطلحات رياضية كـ”المثلث” و”المربع” و”الدائرة”) والمراقبون، على رأسهم المحسن المنتخب الدائم من الأرقام في انتخابات توصف بالشفافة، الذي يوصف وحده بـ”المكعب” ويوجد في المركز “العنكبوت الأبيض، المحسن الحليم في ثيابه البيض، المحسن الذي يكبلنا بحكمة من أيدينا وأرجلنا بشباك السعادة الخَيِّرة.”([2])، في مقابل هذه الدولة التي يسير كل شيء فيها وفقًا لقواعد وقوانين عقلية بحتة ومعادلات رياضية، وتخلو من الخيال والإبداع والحب والمشاعر والفن، نجد على الجانب الآخر المنشقين الذين لا يزالون ينتمون للعالم القديم، ويتمسكون بتمردهم واختلافهم وحريتهم، ويحلمون بالقضاء على هذه الدولة.

تسير حياة “د – 503” على هذا الخط المستقيم حتى يقابل امراة تدعى “م – 330″، التي يشعر ناحيتها بالحب وتقلب حياته رأسًا على عقب، رغم المقاومة الشديدة لهذا الشعور الذي أعدته الدولة في شرعها جرمًا وذنبًا كبيرًا بجانب الحرية والخيال والأحلام، تحاول هذه المرأة أن تقنعه بالانضمام لتنظيم معادٍ لهذه الدولة وتعاليمها ويريد التحرر منها، ويظل على هذه الحالة من الاغتراب والغربة والمقاومة حتى يستسلم للعقل في النهاية، ويخضع للعملية العظمى (استئصال الخيال) التي تنفذها الدولة لكل من يضبط نفسه مريضًا بأحد أمراض القلب والنفس، ويتم القضاء على “م – 330” ورفاقها في غرفة غاز، لتكتمل في النهاية الصورة القاتمة للمدينة الفاسدة.

في دراما الخيال العلمي “Pluribus” يختفي المركز ويتحول “البانوبتيكون الزجاجي” إلى “بانوبتيكون رقمي” يعتمد على البيانات والخوارزميات والذاكرة والملفات التعريفية، ويجمع شخصيات متوازية ونسخًا متعددة داخل عالم شبكي، حيث نرى أصابع خفية تسعى نحو تدمير البشرية عبر هذا الفيروس الخفي الذي يحيل بني البشر لنسخة إنسانية واحدة في صفاتها وحركاتها وكلامها وأفعالها ورغباتها ومشاعرها، مندمجين معنويًّا في كيان جماعي واحد يتيح لهم الوصول لذاكرة الجماعة بأكملها وأفكارها، حيث تفاجأ “كارول” الكاتبة لسلسلة روايات رومانسية مبتذلة تحقق أعلى المبيعات، بانقلاب المدينة رأسًا على عقب، فنرى فوضى عارمة حيث وقوع العديد من الحوادث والحرائق ومدينة مشتعلة بالنيران، وغرف طوارئ تمتلئ بالجثث، ويموت رأس الدولة ومليار شخص آخرون في ظروف غامضة وتختفي الشرطة وجميع المؤسسات، بينما يؤثر موت شريكة “كارول” ومديرة أعمالها (هيلين) فيها تأثيرًا كبيرًا يسبب لها غضبًا عارمًا، في إشارة لميولها الجنسية المثلية وهو مأخذ وعنصر أصبح مُقحمًا في أغلب الأعمال الأجنبية الأمريكية وغيرها.

تستعيد المدينة هدوءها ويقع أبناؤها تحت سيطرة هذا الفيروس، ليسوا هم فحسب بل العالم كله، ماعدا “كارول” ومجموعة أخرى من الأشخاص لا يتخطون الثلاثة عشر شخصًا حول العالم، وتفاجأ “كارول” بتلك الطبيعة الغريبة لضحايا الفيروس الذين يؤرقهم اختلافها ويسعون لأن تصبح مثلهم وتنضم لهم رغم رفضها العنيف لذلك، والذي يسعون طوال الحلقات للتأكيد على أنهم يريدون راحتها وخدمتها وسعادتها وتهدئة غضبها، وطمأنتها وإقناعها بأن سلامها وسلامتها وسعادتها في الانضمام إليهم، عبر شخصية “زوسيا” وهي امرأة لطيفة وهادئة تستغل ثروة المعلومات المتاحة لها ولغيرها من خلال العقل الجمعي في محاولة للسيطرة على غضب “كارول” واستمالتها، إلا أنها تفطن إلى أنها واقعة تحت مؤامرة تستهدف الجنس البشري وفناء سكان الأرض، فعندما تتحدث “كارول” إلى أي شخص مصاب بالفيروس، فهي في الواقع تتحدث إلى كل شخص آخر على وجه الأرض تقريبًا، فلا وجود هنا لضمير الـ”أنا”، لا يوجد سوى ضمير الجماعة “نحن”، ليصبح الشغل الشاغل لبطلة العمل هو كيفية المكافحة للحفاظ على إنسانيتها وإنقاذ البشرية، ومقاومة الضغط والإلحاح على الاندماج مع هذا النظام العالمي الجديد المسالم الخالي من المشكلات، هذه الجنة البلاستيكية التي يروجون لها على أنها جنة السلام العالمي بينما هي في الحقيقة تتغذى على بقايا البشر، وجسدت لها جحيمًا شخصيًّا ومصدرًا للوحدة والغضب والتعاسة.

من هنا تُكرِّس “كارول” حياتا لكشف ما حل بالبشرية، وتحاول الوصول لبقية الأشخاص الذين لم يصابوا بالعدوى عبر هذا المجتمع/ النظام العالمي الجديد الذي لا تبخل بمساعدتها ويتأزم لغضبها بل بعضهم يموت بسببه، تستغل “كارول” تلك الميزة وتطلب لقاء هؤلاء الأفراد الناجين من جائحة هذا الفيروس، والذين لا يبدون غضاضة أو ضيقًا من الأمر ولا يسعون لاستعادة حياتهم الطبيعية، إلا شخص واحد فقط وهو شخصية “مانوسوس” الذي يعيش في باراغواي ويرفض التواصل مع هذا النظام الجديد، وبعد أن يصل له فيديو مسجل لـ”كارول” بضرورة تضامنهم والتحرك لإصلاح ما حدث، يعقد العزم على السفر إليها والاتحاد معها لإيمانه مثل “كارول” بأنه باتت مهمتهما الوحيدة الآن إنقاذ العالم والبشرية من الفناء.

يبدو عالم “Pluribus” كما تنبأت به رواية “نحن” تمامًا بعد هذا الغزو الفضائي غير المفهوم المنذر بنهاية العالم، والمهدد للوجود البشري، حيث يموت المليارات من الناس، وتُفكك الهويات الفردية وتُمحى الخصوصيات الثقافية، وتذوب جميع الصراعات، عبر انصهار عقلي يدمج عقول البشر في عقل واحد ويوحد أهدافهم، لذا فإننا أمام وهم حرية وفردوس مفقود، فقد يظن القراء المجهولون الذين قصدهم “د – 503” في مذكراته أن هدم جميع الجدران المحيطة بالأرقام، وبناء جميع المنازل بالزجاج الشفاف سيمنح الموجودين فيه كامل الحرية، “من الجائز أن مساكن الأقدمين الغريبة، غير الشفافة هي التي أفرزت نفسيتهم الانعزالية البائسة، بيتي (هكذا) هو قلعتي، كان لا بد من أن ينحط بهم تفكيرهم إلى هذا الحد”([3])، وهو الإحساس التي شعرت به “كارول” التي فقدت خصوصيتها بالكامل، وأصبحت مراقبة على الدوام من جهات لا تراها تتحرك عبر السماء بطائراتها، تلبي طلباتها، وتضع الطعام أمام بيتها، وهو على معرفة دقيقة بأحداث يومها.

تخيل أنك في مكان لا تحده حوائط أو فواصل أو عوائق، فقط سور أخضر كبير، تتحرك بحرية تامة، لا يوجد شيء لا تراه، إلا أن الحقيقة عكس ذلك تمامًا، وهذه الحرية الممنوحة هي محض وهم، وذلك لأن “أحد التعريفات الكلاسيكية للخصوصية هو الحق في أن تُترك وشأنك”([4])، فعند التدقيق في هذه الحياة ذات خط السير اليومي المفروض والمحدد يوميًّا، سنتأكد أنها سجن كبير، لا يوجد مكان للتصرف بحرية، فكل شيء إلزامي ومرتب ومنظم “لقد تهيأ لي أن أقرأ وأسمع كثيرًا من الغرائب عن تلك الأزمنة التي كان الناس لا يزالون يعيشون فيها حالة الحرية، أي حالة عدم التنظيم، حالة التوحش. إنما أغرب ما سمعت وقرأت، كان يبدو لي التالي: كيف كان بإمكان سلطة الدولة آنذاك، أن ترضى بأن يعيش الناس من دون أي شيء يشبه لوحنا، من دون نزهات إلزامية، من دون تنظيم أوقات الطعام، وبأن يستيقظوا ويناموا حين يحلو لهم ذلك، بل يزعم بعض المؤرخين بأن الأضواء كانت تُشعَل آنذاك طوال الليل في الشارع، وأن العربات والناس كانت تسير طوال الليل في الشارع”([5])، زاعمين بذلك أن كل من حالفهم الحظ وعاشوا في مدن المستقبل حققوا حلم اليوتوبيا واستعادوا الفردوس المفقود الذي وعد به مستقبل العلم “إني أسألك: إلام يتوق الناس، وهم مازالوا في القمط، ويحلمون به ويتألمون في سبيله؟ يريدون أن يقول بهم أحد ما، مرة ولكل مرة ما هي السعادة، ثم يسوقهم بالسلاسل إليها. وهل نفعل نحن شيئًا غير هذا؟ الحلم القديم بالجنة. تذكر: في الجنة لا يعرفون الرغبة، لا يعرفون الشفقة، لا يعرفون الحب، هناك ملائكة، عبيد الله مغتبطون مستأصل خيالهم”([6]).

من هنا فقد تحول التصرف بعفوية وحرية واختبار أي شعور إنساني كالرغبة والشفقة والحب إلى نوع من أنواع المرض النفسي والتوحش والشذوذ، “إنك تعتبر تصرفك العفوي هذا نوعًا من الحرية، وهذا خطأ شديد تقع فيه، ومن واجبنا أن نصححه لك، فلو أننا أطلقنا الحرية لكل مواطن كي يتصرف على سجيته، وكما يحلو له، لانفتحت في النظام آلاف الثغرات تدخل منها كل عيوب البشرية القديمة وأمراضها التخلفية التي خلصها النظام منها”([7])، وهو ما نجده متحققًا في المسلسل فـ”كارول” الآن ليس من حقها أن تغضب وإلا سيؤدي ذلك لموت ملايين البشر الذين يتأذون من غضبها، وما عليها إلا أن تمحي هذا الشعور وتنضم للشعور الدائم بالهدوء والرضا والسعادة في هذا الكيان.

هذا منطق الدولة الواحدة التخيير بين الحرية والإرادة وبين السلام والسعادة، فإذا تمتعت بالحرية لن تكون سعيدًا، “لقد اختار الأخرقان الحرية، وهذا مفهوم، ظلا قرونًا بعد هذا يحنان إلى الأغلال. الأغلال، هذا ما كان يحن إليه العالم كله، وظل يحن إليه قرونًا. والآن حتى تنبهنا من جديد كيف تسترد السعادة”([8])، فبعد أن تحقق لهم حلم الجنة، ماذا سيريدون بعد ذلك؟ الآن كل المطلوب منهم هو الخضوع التام.

واجهت “كارول” أيضًا معضلة “الأنا” في مواجهة “نحن”، ومن ثم فإننا أمام إشكالية أخرى اشترك فيها كل من الرواية والمسلسل وهي محو الفردانية والتمايز، عبر أدوات الرقابة والضبط المعنوية، فمن خلال محو الفروق الفردية، والقضاء على التنوع والتميز، وإخماد الحركات التقلصية التي تخل بهدوء وسكون الدولة الواحدة ونظامها، وتحويل جميع أفرادها لنسخ متشابهة مكررة في حالة اغتراب دائم عن الذات، تُسهِّل عملها بقيادة وإخضاع جميع الأفراد، وهذا يشير بوضوح إلى تحول العالم لمجتمع واحد انمحت فيه جميع الفروق العرقية، وأذيبت فيه جميع المحفزات التي قد تثير العصبية والتحيز والعنصرية، فليس هناك أسرة ولا وطن، هناك توحيد للوطن واللغة لخلق علاقات إنسانية منسجمة داخل العائلة البشرية، فالجميع منتمٍ للدولة الواحدة، وها قد اختزلوا الإنسان في عصرهم لمجرد رقم “من خلال الجدران الزجاجية عن يميني وشمالي ألمح نفسي، غرفتي، حركاتي، كأنما هي مكررة ألف مرة ومرة. وهذا ما يبعث فيك النشاط، فأنت ترى نفسك جزءًا من كل واحد ضخم جبار. وأي جمال دقيق: لا حركة زائدة ولا ثنية ولا انحناء”([9]).

تلك الحالة التي أطلقلوا عليها مصطلحًا علميًّا وهو “الانصهار” فطريقة الطعام واحدة وطريقة التفكير واحدة وطريقة الحياة واحدة، وكأن أفراد هذه الدولة تحولوا لمسوخ باهتة جفت منابع الدماء في عروقهم، “ففي كل صباح، وبدقة سداسية العجلات، وفي ساعة واحدة ودقيقة واحدة ننهض، نحن الملايين كرجل واحد. وفي ساعة واحدة نبدأ، نحن الملايين، عملنا كرجل واحد. وفي ساعة واحدة، كرجل واحد، ننهيه كذلك. وفي ثانية واحدة يحددها اللوح، نرفع الملاعق إلى أفواهنا وقد انصهرنا في جسم واحد ذي ملايين الأيدي، وفي ثانية واحدة نخرج في نزهة، ونذهب إلى قاعة تمارين “تيلور” ثم نمضي إلى النوم”([10]).

هذه الاستراتيجية البرمجية هي التي تخلق ما هو أقرب إلى عقدة ذنب -إن جاز التعبير- تدفع صاحبها لمراقبة نفسه واتهامها ومحاسبتها أولًا بأول “لا مكان لي، أنا المجرم المسمم هنا، لم يعد لي أن أندغم بعد الآن في الإيقاع الآلي الدقيق، ولا أن أسبح في البحر الصقيل الهادئ”([11])، بل أحيانًا معاقبتها دون تدخل من أي طرف آخر فيقع في شراك الضبط الذاتي الذي أحدثته أدوات الرقابة الناعمة السائلة فيه، وهو ما شعرت به “كارول” في الحلقة السابعة عندما دفعوها للاستسلام بعد أن هجروها وتركوها بمفردها بناء على رغبتها، فاضطرت للاستغاثة بهم مجددًا طالبة عودتهم، لتعود إليها شريكتها الجديدة “زوسيا” التي تتطور علاقتهما في الحلقة الثامنة عبر قبلة هي في الحقيقة قبلة لهذا الكيان الجماعي بأكمله برجاله ونسائه وأطفاله ممن كانوا على وجه الأرض، والتي قد تكون جزءًا من لعبته لدمج “كارول”.

الحب والحرية كذلك شريانا الوجود الإنساني، وبقطع أي شريان منهما تختل حياة الإنسان، وإذا كان نبض القلب المتحرك لدى كل إنسان دليل على أنه لا يزال على قيد الحياة، فاستقامته ما هي إلا دلالة على موته، وهو ما يؤكد عليه قانون الدولة الواحدة القائم على الخط المستقيم الذي لا بد أن يسير عليه أفرادها دون الخروج عنه فيحيون وكأنهم أموات، فـ”جمال الآلية في إيقاعها الثابت والدقيق”([12]).

تأثير الحب مخيف وغير متوقع ولا يمكن السيطرة عليه وضبطه، لذا كانت الدولة الواحدة حريصة على بتر هذا الإحساس لدى أفرادها، هذا التأثير الذي ضرب بطل الرواية في مقتل عندما أحب “م – 330” المعادية للدولة، وجعله يرى الحقيقة السوداوية للدولة الزجاجية، ليدخل في حالة من الاغتراب والتأزم، واتضح له فساد هذا العالم الجامد البارد الخالي من المشاعر، لذا كان من أولويات هذا النظام العالمي الجديد في التخلص من شريكة “كارول” (هيلين).

المبدعون والفنانون الحقيقيون هم أعداء أيضًا للدولة الواحدة، ويمثلون خطرًا يهدد ويخل بإحكام سيطرتها على الإنسان، ولأنه لا فن دون حرية في الفكر والتعبير والإبداع والنقد “إن قوة الملكة الأدبية الهائلة العظيمة كانت تهدر عبثًا. والشيء المضحك أن كل واحد منهم كان يكتب عما يعن له”([13])، لذا فإن الخيال لديهم ما هو إلا مرض ونقص وخلل عقلي لا يليق بالإنسان المعاصر الذي لا بد أن يكون معادلًا للآلة لا يمتلك أي أفكار خيالية متحررة لا يمكن امتلاكها ومراقبتها، ولعل هذا ما يفسر اختيار البطلة كاتبة وروائية.

لذا فلا وجود للقيم الجمالية فقط القيم النفعية العقلانية الرياضية الآلية الجامدة التي ترسخ للعبودية (عبودية العقل والدولة والآلة)، فالخيال جامح وفردي وثوري لا يمكن مراقبته أو إمساكه والسيطرة عليه، والإلهام و”الأحلام مرض نفسي خطير”([14])، من هنا كان يجب قص أجنحة الخيال واجتزازها من العقل الإنساني “لم تعد هناك حاجة إلى الجناحين، لأن هناك المنطاد، وليس من شأن الجناحين سوى الإعاقة، الجناحان للطيران، أما نحن فلم يعد لنا هناك مكان نطير إليه: لقد طرنا ووصلنا ووجدنا”([15]).

تكشف المقارنة بين مفهوم “البانوبتيكون” كما صاغه ميشيل فوكو، وبين رواية “نحن” وحلقات “Pluribus”، أن السلطة الحديثة لم تعد في حاجة إلى القمع الصريح، بل اكتفت بإعادة تشكيل شروط الوجود، فحيث كان الجسد هو الهدف الأول للانضباط، أصبحت الذات اليوم هي ساحة الاشتباك الحقيقية.

في “نحن” يبلغ “البانوبتيكون” ذروته الشمولية، إذ تتحول الشفافية من قيمة أخلاقية إلى أداة إبادة رمزية للفرد، فاختفاء الجدران لا يعني الحرية، بل يعني انكشاف الذات الكامل أمام سلطة لا تنام، وتحوُّل الخصوصية إلى خطيئة، فالفرد لا يُعاقَب لأنه خالف القانون، بل لأنه امتلك ذاتًا مستقلة، لأن مجرد الرغبة في الاختلاف تُعد تهديدًا لهذا النظام الكلي، وهكذا يصبح الامتثال شرطًا للوجود، لا مجرد التزام سياسي.

أما Pluribus”” فالسلطة لم تعد تسأل: “ماذا تفعل؟” بل “من أنت إحصائيًّا؟”، وبهذا يتحول الإنسان إلى مجموعة بيانات، وتصبح الهوية نتيجة حسابية، لا تجربة وجودية، الخطر هنا لا يكمن في القهر، بل في الإقناع، إقناع الفرد بأن ما يريده هو بالضبط ما اختير له سلفًا وما تريده الجماعة، وإذا كانت رواية “نحن” كشفت الوجه العنيف للفردوس المُنظَّم، فإن “Pluribus” يكشف وجهه الناعم حيث تُمحى الفردانية باسم الراحة، ويُستبدل القرار بالاقتراح، والحرية بالخيار المُوجَّه. وفي الحالتين، يظل الجوهر واحدًا سلطة تُعيد تعريف الإنسان، وتُفرغه من صراعاته الوجودية، وحقه في الخطأ والارتباك والتناقض.

من هنا، لا يبدو “البانوبتيكون” مجرد مفهوم تاريخي أو نموذج معماري، بل منطق كلي يحكم المجتمعات الحديثة من المدينة الزجاجية إلى الفضاء الرقمي كشكل للهيمنة الحديثة. لقد كشفت هذه الأعمال أن أخطر أشكال السلطة ليست التي تقمع، بل التي تنظم الرغبة، وتعيد تعريف السعادة، وتحول الطاعة إلى فضيلة، فـ”البانوبتيكون” اليوم لم يعد بناء إنما طريقة في التفكير، فالإنسان لم يعد يُراقَب فقط بل يعاد برمجته وتشكيله من جديد.

………………………………..

1 – “نحن”، يفغيني زامياتين، ترجمة يوسف حلاق، الطبعة الأولى، دار أثر، الدمام، 2016، ص 83.

[2]- “نحن”، يفغيني زامياتين، مصدر سابق، ص 162.

[3] ـ “نحن”، مصدر سابق، ص 28. –

4- الكون الرقمي – الثورة العالمية في الاتصالات،  بيتر بي سيل، ترجمة ضياء ورَّاد، مؤسسة هنداوي سي آي سي، ص252.

 -5 “نحن”، مصدر سابق، ص 21.

[6].المصدر السابق نفسه، ص 243-

7- “السيد من حقل السبانخ”، صبري موسى، الطبعة الأولى، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987، ص 42.

 8- “نحن”، مصدر سابق، ص 74.

9 – نحن”،  مصدر سابق، ص 43.

10- المصدر السابق نفسه، ص 20.

[11]المصدر السابق نفسه، ص 99.-

[12]”نحن”، مصدر سابق، ص 202.-

[13] المصدر السابق نفسه، ص 81.-

14- المصدر السابق، ص 42.

15- المصدر السابق نفسه، ص 106.                

بسمة حسن

6 مقال
كاتبة مصرية صدر لها: ـ فولكلور الأسفلت.. ألف حكمة من الطريق.

مقالات ذات صلة

أقسام الموقع