أنا.. إذن أنا موجود

abdelmottaleb
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عبدالهادي عبدالمطلب  

عبارة شغلت النّاس كثيرا وما زالت تُشغلهم، مثقّفين وغير مثقّفين، أنا أفعل، إذن أنا موجود، وهل بالفعل نكون وننوجد، أو نكون أحياء فقط، نمشي، نأكل، نعمل، ننام، نتحاور، نرقص؟ أليس كل فعل يعني الوجود ويؤثر في طبيعته؟

بعيداً عن اختلافات الفلاسفة حول طبيعة الأنا والوجود وحقيقتهما باختلاف مدارسهم ومذاهبهم وايديولوجياتهم، وبعيدا عن التّفلسف حول موضوع الوجود بمعناه الميتافيزيقي، والوجود بمعناه المادّي والمحسوس، وبعيدا أيضا عن الإشكالية الفلسفية لمبحث الأنا والوجود، واقترابا من سؤال، أيّ وجود نقصد؟

إن الإنسان يُعارك ويصارع نفسه منذ أن وُجد فوق هذه الأرض، ويواجهها بأساليب تتجدد بتجدد التحدّيات التي تعترض مسيرته الحياتية وتمتحن إنسانيته، بل وجوده، فيتصادم مع ذاته والآخر والأشياء ويتحارب ليكون، ويُثبت وُجوده في زمن الصّراعات، حيث أصبح الوجود هو ما يملك، بل كم يملك، والسّلطان والجاه والقوّة التي يحوزها، ويتلاشى الفعل الذي أصبح أداة فقط لصُنع إنسان بدون إنسانية أو كيان أو هوية أو وجود.

لم تعد “رحى المعركة اليوم تدور على صعيد الفكر”[1]، بل أصبحت تدور حول الفعل، والفعل هو ما أنا عليه، خصوصا في زمن الاتصالات والتسارع الرقمي والذكاء الاصطناعي، تعددت الوجودات وتعدّدت أفعالها، وبدأ الإنسان في عصر المتغيّرات والشك في كل شيء، معتقداً كان أو مُسلّماً به، يشكُّ في وجوده وكينونته، فلا ينوجد إلا بفعل ما، فمِنْ مَوْجودٍ بالقراءة، أو موجودٍ باللعب، أو موجودٍ بالرقص، أو صاحبِ السّلفي..، حيث أصبح الوجود هو الفعل المكتسب والمزاول، فهل إذا انتهى الفعل انتهى الوجود أو التواجد في الوجود؟

أنا “أفعل” إذن أنا موجود، أي وجود هذا الذي يرتبط بالفعل المحدد سلفا إيمانا أو تفكيرا؟ هل هو وجودُ تأثير وعطاء وتغيير، أم وجودُ سلب، حياة بأنفاس طالعة وأخرى نازلة في انتظار النهاية؟ بمعنى آخر، هل الوجود هو الفعل؟

أنا.. (أي فعلٍ يوضع هنا، عليه أن يخدم الوجود الإنساني) إذن أنا موجود، وإذا كان الفلاسفة والمتصوفة والباحثون يسعون، كلٌّ في ميدان اختصاصه، إلى السمو بالإنسان، فعلا ووجودا، ليكون جديرا بإنسانيته التي افتقدها حين زاغ عن الفعل الباني لكرامته وإنسانيته التي سُحبت منه حين تسابق مع آخرين على حساب الأخلاق والقيم، وسأحاول هنا، أن أُخرج بالكوجيتو الديكارتي من نقاشاته الفلسفية، إلى الشرط الإنساني في كل أبعاده، يلامس الأنا والفعل والوجود في أبعادها الحقيقية، في محاولة للسمو بالإنسان.

“أنا أفكّر، إذن أنا موجود”، “أنا أحتجّ، إذن أنا موجود”، “أنا أحس، إذن أنا موجود”، “أنا أرقص، إذن أنا موجود”، “أنا أسلفي إذن أنا موجود”، “أنا حر، إذن أنا موجود.. هذا الكوجيطو الذي أصبح طراز المتكلمين، بعد أن كان بحثا في حقيقة الوجود، والشك للوصول إلى الحقيقة، أصبح فعلا للظهور وإثبات الأنا، وشعارات لمهرجانات الطبخ والأكل والرياضة.. وتتوالى الأفعال بلا نهاية، وهذا يدفعنا إلى طرح السؤال الآتي، هل الفعل سابقٌ للوجود أم الوجود هو الأصل والفعل/ الأفعال والإرادة تأتي بعده؟

“نحن لسنا ما نقول، بل ما نفعله”، يقول سارتر، فهل الوجود يقتضي منا أفعالا لا تنتهي؟ وإذا كان الوجود لا يتوقّف على فعلٍ بعينه، بل هو أفعالٌ تتكامل وتتواشج وتتقارب وتتصارع، مجتمعة في منظومة متكاملة تصنع إنساناً بوجودٍ فاعل ومؤثّر، فإنّه في حقيقته، بحثٌ دائم وسؤال/ أسئلة حارقة ومكابداتٌ تهدّ الجهد، إذْ ليس الوجود فعلا منفرداً، وهنا نطرح السؤال: هل بالتفكير وحده، أو الحوار وحده، أو الكتابة وحدها.. ننوجد أو نغير الوجود؟ “وهل كلّما فكّرتُ كثيرا كنت موجودا أكثر؟ وهل كلّما رقصت كثيرا كنت موجودا أكثر؟”[2]

في عالم ينحاز للتكثلات والتجمّعات المؤثرة في المؤسسات والمنظمات والقرارات لخلق قوة للمواجهة، ورسم خرائط جديدة للعالم، وخلق توازنات ولوبيات للضغط والاختراق والتوسع، وجلب الإنتفاع عبر السيطرة، علينا أن نفكر في مواجهة هذا اللوبي الكاسح، وحلق إجماع تآلفي بين “الأنوات” الفاعلة في الوجود الإنساني، كلّ “أنا” في تخصّصها، لإيجاد إيقاع متناغم أكثر فاعلية ونجاعة في مواجهة التحديات التي تفرضها العولمة ووسائل التواصل، والمشاكل التي تهدد الإنسان في إنسانيته وقيمه، وتجاوز ما يُشيّئُه. وحين تسبحُ “الأنا” في تيارها الخاص، بعيدا عن “الأنوات” الأخرى، بعيدا عن وعيها بضرورة انسجامها مع غيرها، فإن العالم يسير نحو الهاوية مُنقاداً بأفعال تنهض على التّفرقة والأنانية المقيتة، ولهذا فالوجود الإنساني لا يكون ب “أنا” منفردة تغرد خارج السّرب، بل ب “نحن” التي تهندس العالم وتُخطّطُ معالمه، وترسم وجودا إنسانيّاً في شموليته، يشدُّ أوله آخره باتحاد أفعال الوجود، ليتحمّل الإنسان مسؤوليته وهو يسير ضمن الكوكبة، فنحن من يفكر، ونحن من يكتب، ونحن من يناقش، ونحن من يسأل، وليس أنا، “نحن” تصنع الفعل الباني حين تجتمع لنظل بعيدين عن التفرقة والتّشرْدم والتّجاهل والإقصاء.

 نحن نفكّر، نناقش، نكتب، نهندسُ للعالم خرائط الوجود، إذن نحن موجودون، موجودون بالفعل، نتكامل بالأفعال وبالقوة، وكل فعل مُفرد ومنفردٍ خارج السرب، لا يُعوّل عليه، ولا يُرجى نفعه وتأثيره، إذ الأفعال مجتمعة هي الإنسان في وجوده الفعلي، يفكر، يحارب، يرقص، يناقش، يسأل…، وحين تذوب “أنا” في “نحن”، ويذوب الفرد في الجماعة بعيدا عن التّسلُّط والمصالح، يتنوع التفكير وينفتح على العالم والآخر وعلى مجالاته المتعددة، فيتكامل، وينسجم ويؤسس لوجود جماعي أكثر أمنا وأسمى قيماً تخدم الإنسان، ويُلغي الاحتكار، ويؤسس لوجود إنساني يراعي إنسانية الإنسان في فضاءاته الجمعية، وينصهر في “نحن” العقلانية التي تتنافى وسلوك القطيع، والتَّمسّك بظاهرة “الجمهور يريد هذا”، أو “الاستجابة غير العقلانية لما تردّده الجماعة”، كما يقول غ.لوبون، أو التي تُعبّر عن الكثرة التي يؤسسها الغثاء الفارغ، ولا التي تميل حيث يميل هوى الجماعة التي ترتاح إلى التّبعيّة التي تجمّد الفكر . بل، “نحن” التي تعبّر عن الكثرة الواعية بتكاملها وقوتها في تغيير العالم وتأسيس وجود إنساني يقترب من الكمال.

هل “أنا” ديكارت هي “أنا” الآخرين الذين جايلوه أو أتوْا بعده، أو الذين يحيون زماننا اليوم؟ وهل الوجود الذي يقصده ديكارت هو نفسه الذي يبحث عنه أصحاب الأفعال المتعددة، ويسعون إليه؟ وهل الوجود هو من يصنع الأنا والكينونة أم العكس؟

……………………….

[1] . إذغار موران. إلى أين يسير العالم. ترجمة أحمد العلمي. الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت 2009 (ص 5).

[2] . إذغار موران. إلى أين يسير العالم. ترجمة أحمد العلمي. الدار العربية للعلوم ناشرون بيروت 2009 (ص 104).

مقالات من نفس القسم