لنا عبد الرحمن
تبدأ رواية “أنا أروى يا مريم”( دار الساقي- بيروت ) للكاتبة أريج جمال مع صوت مريم وهي تحكي لأروى حكايتها بصيغة المخاطب، وتكشف عن ماضيها وذاتها الأعمق، بل علة وجودها في هذا العالم.
لا تراهن الرواية على قضية المثلية النسوية لتكون القضية المحورية في النص فقط، إنها جزء من عالم السرد إذ ثمة محاور أخرى تتقاطع مع جوهر السؤال والبحث عن الهوية الجنسانية، الثورة، الحب، الفن، القهر، التمرد ، الظلم، الرفض، غياب العدالة، كلها قضايا تنشغل فيها الرواية، وتقدمها للقارئ بحساسية ورهافة، عبر لغة تشبه الغلالة الرقيقة التي يمكن رؤية ما وراءها بشفافية تجعل من بعض الوقائع والتفاصيل أشبه بتخمين مستمر عن حقيقته.
يبدأ النص مع صوت مريم، وهي في رحم أمها، هذا السرد الذي يبدأ من الرحم كفيل بأن يحمل القارئ إلى تلك الحالة العائمة لوجود مضطرب ومرفوض.. تأتي مريم إلى الحياة بسبب دعاء أمها صِديقة، وتوسلاتها بأن تنجب طفلا أيا كان، ولدا أو بنتا، لكن في حال كانت بنتا “سأسميها على اسمك” تخاطب صديقة مريم العذراء وهي تحدق في السقف.لنقرأ : “يا مريم..أنت أم خليني أم، هكذا تستعين بمن لا يستطيع الله أن يرده، يا مريم قولي له أن يعطيني وأنا أسمي العطية مريم” لكن الحياة ليست بهذه البساطة، مريم من وجودها الرحمي وهي نطفة تراقب العالم من حولها، تدرك جيدا الحزن الذي يحكم حياة صديقة، وسوف يحكم حياة مريم فيما بعد: ” بدأت الحياة قبل أن أولد. ماما تجلس على مقعد وحيد في منتصف الغرفة بالضبط،كأنها قد أحصت المسافة جيدا واختارت مكانها، خائفة ألا تكون حبلى..حين كانت ماما خائفة، في الغرفة الفارغة، تُحملق في السقف لم تكن تعرف أني نجوت. هذه أول صورة أرى عليها أمي، يا أروى، صورة الحزن الذي لم يبدله وجودي فرحا.كيف أُخبرها أن الله قد سمعها واستجاب؟
مريم فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها، تعيش مع جدها وجدتها، تكتب قصائد لا تعرف كيف تُكملها،لديها ماض واسع وشهادات مَرضية منذ كانت في العاشرة. ولدت مريم في مدينة الرياض،لأبوين مصريين مغتربين يعيشان في بيت ضيق، ويتمنيان قدوم ولد ذكر، لكن تأتي مريم إلى حياتهما، وبدلا من أن تهدأ صديقة وتنعم بقدوم الطفلة، تتكدر حياتها بتهددات الزوج بالزواج من أخرى للحصول على ولد.
***
ومن نافذة غرفة في شارع شامبليون تنظر مريم وأروى إلى الشارع المهتز تحت أرجل الثوار.. الثورة هنا باطنية بين فتاتين أيضا، إحداهما مريم التي تكتشف هويتها الداخلية مع قيام الثورة وظهور أروى، والأخرى أروى التي تختار العودة إلى مصر بعد قيام ثورة يناير 2011 وكأني بهذه الاختيارات الموشومة باحتراق محض اختياري من البطلتين، تسعى كل منهما إلى اكتشاف مصيرها المختار. الأولى في اكتشاف هويتها الجنسية، والثانية في رؤية المدينة المشتعلة بالثورة وكأنها بمجرد هذه الرؤية تتمكن من تحقيق انتقام فردي لمن سبب لها معاناة كبرى في حياتها ككل.
يدور الفصل الثاني على لسان مريم أيضا، تخاطب فيه الله وتحكي عن قصتها مع أروى. إنه الحب غير المتوقع، الصادم، الجارح، الفائض في وهجه عن القلب والإرادة، لأن كل شيء يتم بضربات فرشاة سريعة، مع صوت عزف متقطع لآلة الأوبوا، ثم هناك ” الخوف”، إحساس راسخ في هذه الرواية. الخوف يسم حياة الأبطال جميعا، لا مريم وأروى فقط. يبزغ الخوف في حياة مريم منذ اللحظة التي تعرف أنه غير مُرحب بوجودها، لأن أبيها تمنى قدوم صبي يسميه “علي” كي يحمل اسم العائلة، وتدرك مريم أن قدومها إلى الدنيا يهدد حياة أمها صديقة بأن يتزوج والدها من أخرى لتنجب له الصبي.
أما أكثر مواقف الرواية تصاعدا نحو الخوف في تلك اللحظة “التي يكتشف فيها الناس أن للميتين ابنة محبوسة في بيت بلا مفتاح”، يقضي والدا مريم حتفهما في حادث سير، بينما هي وحيدة في المنزل، تقضي أياما ثلاث تنتظر دون جدوى، ثم تسير الأحداث نحو عودة مريم إلى مصر لتعيش مع جدتها “أم كلثوم”، المرأة القاسية المتسلطة التي لم تتمكن مريم من حبها أبدا.
يجد القارئ نفسه أمام بطلة واجهت رفضا لكيانها من سلطة الأب الذكورية، ثم واجهت فقدا لمصدر الأمان الوحيد في حياتها : أمها صديقة. إنها كيان متألم، حفر الألم فيه مجرى عميقا، لم يتم الشفاء منه أبدا.مريم بعد فقد أبويها تعاني من فقد الهوية والصورة، بل يصير اسمها بين الأقارب والأعمام ” اليتيمة”، لكن مريم نفسها تعتبر أنها تيتمت مبكرا جدا وفقدت أبويها تقريبا منذ لحظة الميلاد.
في تكوين شخصية مريم ثمة تقاطعات حادة ينبغي التوقف أمامها ، لأنها تشكل حلقات متصلة من المهم استيعابها لأنها تمثل في سلوك مريم لاحقا ردة فعل ضد المجتمع، هناك الأم صديقة التي تعاني مع أبويها من تفضيل وتمييز أخيها علي عليها وعلى أخواتها البنات، ثم هناك والد مريم ” محمد علي” الذي كره قدوم مريم للعالم، وهناك أيضا الجدة أم كلثوم التي أنجبت الذكور وكانت تتمنى أن يكون لها ابنة، لكنها في الوقت عينه تمارس قمعا ذكوريا نحو زوجة ابنها صديقة، مما يدل على أن الفكر الذكوري هو نمط مهيمن على عقلية النساء أيضا، وأن المرأة تمارس ضد المرأة أحيانا قهرا لا ينفصل عما يقوم به الرجل.
إن اختيار مريم للعلاقة المثلية، لا يدل فقط على الهوية الجنسية بقدر ما هو تعبير عن موقفها من العالم ككل. الشوق إلى الأنثى في حياة مريم هو شوق للأمان، إلى تلك اللحظة الطيفية في الرحم، لنقرأ: “واصلت الانزلاق، غير مصدقة أن الله الذي أودعني في الجنة يقتلعني منها الآن. عرفت أن العالم الجديد أبله وخبيث، وسريع النسيان، وصار علي أن أُسلم منذ الآن أنه لن يعيدني إلى وطني.”
معاناة متوازية
الشخصية المحورية الثانية هي أروى لدى أروى نبرة خاصة في القطع والأمل، هي شخصية مختلفة تماما عن مريم، جريئة، مقاومة، متحدية لديها معاناة متوازية بالعمق ومتباينة في الشكل.أروى ابنة سارة وصلاح، وكان من المفترض أن تكون ابنة لسارة وميشيل. ومن هنا محور حكايتها؛ من لحظة لقاء سارة مع ميشيل النجار في الجامعة. لا تبدو قصة الحب بين سارة وميشيل مجرد قصة بين شاب مسيحي فقير وفتاة مسلمة ثرية ؛ في حكايتهما ثمة تقاطع للفن مع للحياة، لسيطرة الظلم وتحكمه المخل بالعالم ، بل تعديل المصائر لتكون أروى نتاج علاقة زواج يغيب عنه أي نوع من الحب. ولأن أروى تمتلك القدرة على التمرد،هي الشاهدة على انطفاء أمها سارة، على مواتها الداخلي، تختار عقابا قاسيا للأب، لا تترك مصيره للزمن، بل تختار هي أن تعذبه برحيلها إلى ألمانيا، بتمردها على سلطته، باختيارها أن تكون عازفة جوالة، لها خليلات وعشيقات؛ ثم في لحظة الثورة تختار الرجوع إلى مصر، لتلتقي مع مريم، وتكون بينهما حكاية.
يجدر التوقف في هذه الرواية طويلا أمام اللغة، لا يمكن وصف اللغة بالشعرية فقط، بل أُفضل استخدام كلمة الخصوصية، سواء عبر الاستعانة بمفردات تبدو للوهلة الأولى عامية، سرعان ما ينتبه القارئ إلى أصلها الفصيح، أو في محاولة تعديل العامية أو استخدامها عبر وضعها ضمن أقواس خلال السرد، مثلا تستخدم الكاتبة فعل “شاف” بشكل متكرر عوضا عن “رأى”، وفعل “باس” بدلا من “قبل”، تقول : ” خضني فهم أنها تبوسني من أنفي”، “قومي يا مريم، قومي وخليني أشوفك كلك.”
بالإضافة إلى احتواء الجمل على تواصيف وتشابيه غير مألوفة، كأن تقول : “واصلت عيناها التحديق بي كمركز للخيبة”، ” ضامة يديها إلى كفها، رافعة اليدين في وضع الميزان”.. ” رأيتك أولا شبه الذئاب ثم جعلني أنفك الصغير المائل أفكر بالنسور، لم تتصور أن ملاك القدر الواقف على قفاها قرر أن ينفذ لها الأمنية كما هي”.. “أضحت الحياة مع الوقت كتابا بلغة لم تعد مقروءة”.. ” كل إجابة هي صفر جديد تضيفينه إلى العالم”.
………..
نقلاً عن مجلة الإمارات الثقافية