مصطفى أيمن
لا يوجد في عالمنا العربي صوتٌ أكثر تأثيرًا من “الست”، تلك التي كتب لها الشعراء غزلًا في فنها. لطالما كانت أم كلثوم رمزًا مصريًا أصيلًا على مدار حياتها، وحتى بعد وفاتها بأكثر من خمسين عامًا. فقد تربعت سيدة الغناء العربي على عرشها الخالد، ولم يستطع الزمن أو الأفراد أن يحرّكوا مكانها في قلوب السميعة قيد أنملة. كانت موهبتها وذكاؤها هما خط الدفاع الأول عن مكانتها الرفيعة.
تعاملت أم كلثوم مع نخبة من أبرز الفنانين المصريين على مدار مسيرتها؛ فقد كتب لها رامي وبيرم أعذب أشعارهما، ولحّن لها محمد القصبجي ورياض السنباطي ألحانًا خالدة، أصبحت بالنسبة لها لحن الخلود.
كانت أم كلثوم دائمًا قريبة من الوجدان العربي، والمصري بشكل خاص، لأنها لطالما غنّت أصدق الأغاني التي كُتبت لها أعظم الكلمات، والتي عبّرت عمّا يجول في خاطر الشعب العربي على مدار تاريخ “ثومة” الطويل. ولكن، هل كانت فعلًا كلمات الست صادقة؟
تأملات فلسفية داخل الأغاني الكلثومية:
استطاعت “الست” أن تملأ الدنيا غناءً على مدار عمرها الطويل، والذي تخطّى الزمن الذي عاشت فيه، فإن عمرها ممتد ما دامت أغانيها تُسمع في عالمنا هذا. قدرة أم كلثوم على إعطاء أي كلمات طابعًا تصوفيًا مبهرًا، والتعبير عن معنى الحرف الواحد، وكأنها تسقي السميعة كلماتها المعبرة حتى يصلوا إلى الثمالة. يجلس أمام “الست” الجميع في انتظار كأسٍ من الندم، أو الشوق، أو العتاب، أو الحنين. وما إن تُفرغ الكأس، حتى لا تكفي، فيطلب البعض إعادة ما قيل، وكأنهم مجاذيب في حضرة صوفية، لا يريدون سوى أن يصعدوا بصوتها وكلماتها هذه إلى عنان السماء، حيث الكمال، ذلك الكمال البشري الذي يصف فنها الرفيع.
كانت أم كلثوم، على مدار أكثر من خمسين عامًا، تعبّر عن حقيقة مشاعر الشعب العربي، فقد كانت تصدّق ما تقول، فلا يمكن لتلك المشاعر أن تخرج كاذبةً أبدًا. وهنا تبرز الحقيقة الجليّة، وهي أنها كانت تؤثّر في كل من يسمعها، ليس لصوتها فقط، أو للمقطوعات الموسيقية البديعة التي نُسجت لها، وإنما أيضًا للكلمات التي خرجت من أحشاء الشعب العربي، كلمات آمن بها كل من يسمعها. وهنا السؤال: كيف؟
هو صحيح الهوى غلاب؟: سؤال سياسي!
بالتأكيد، لم تكن أغنية “هو صحيح الهوى غلّاب” أغنية سياسية، ولكنها كانت تعبّر، بطبيعة الحال، عن وجدان الشعب المصري بشكل كبير، فإنها كالصرخة في وجه واقع مؤلم وملبّد بالشكوك حول كل شيء. فإن الهوى، كما يعرفه الإمام ابن الجوزي – رحمه الله – هو ميلٌ فطري يُساعد الإنسان على البقاء، لكنه قد يتحول إلى سلاحٍ ذي حدّين يُهدّد سلامه الداخلي. ومع هذا التعريف للهوى، فقد نرى أنه قد يُحيي وقد يَقتل، فهو الخير والشر في آنٍ واحد. يمكن أن يكون خيرًا كثيرًا، ويمكن أيضًا أن يكون إيمانًا بوعود كاذبة، حتى وإن كانت تلك الوعود غير قابلة للتنفيذ أو تأكّدت الشكوك حولها.
صدرت أغنية “هو صحيح الهوى غلّاب” في يوم 1 ديسمبر 1960، وفي تلك الأيام كانت قد بدأت بداية نهاية الوحدة المصرية السورية تحت اسم “الجمهورية العربية المتحدة”، وكانت تلك أحد أبرز وعود العهد الناصري. قبلها، في الخمسينيات، كانت المعتقلات قد امتلأت بالعديد من المعارضين السياسيين، وهذا ما نشر في الأجواء المصرية الكثير من الشكوك حول طبيعة ذلك العهد وزعيمه. فكانت “هو صحيح الهوى غلّاب؟” تعبيرًا عن الواقع المصري، الذي يصارع حقيقة الزعيم الراحل، بين أحلامه الرنانة وشعاراته الأفلاطونية. وقد تأكدت تلك التساؤلات بعد الأغنية بسبعة أعوام فقط، مع نكسة 1967، حين امتلأ وجدان المصريين بالحقيقة: أن هواهم تجاه ناصر لم يكن صوابًا.
الهوى هو أحد التعبيرات العربية الخالصة، فقد ذمّه علماء السلف، ومدحه المتصوفة. وصفه ابن عربي في “الفتوحات المكية” بأنه ليس مجرد ميل نفسي، بل هو تجلٍّ إلهي في القلب، حيث يصبح المحب والمحبوب واحدًا في المحبة الإلهية. فإن الهوى عند ابن عربي هو ارتقاء إلى أعلى المراتب الروحانية، وهذا ما عبّرت عنه الكلمات، ولكنها ظلّت قلقة تجاه الهوى، فلا أمان له؛ إذ يمكن أن ينمّي القلب بالأفراح تارة، ويمكن أيضًا أن يملأه بالجراح. فكلها احتمالات واردة، فإن رومانسية ابن عربي ليست واقعية إلى حد تلك الكلمات. فيمكننا أن نقول إن بيرم كان يحاول أن يجاري ابن عربي، وأن يضع تعريفه الخاص للهوى، فهو ليس مذمومًا مطلقًا، ولا محمودًا مطلقًا.
الخيام.. ذكريات الحاضر
غنّت أم كلثوم للعديد من الشعراء، لكن واحدة من أكثر تجاربها تفردًا كانت رباعيات الخيام، لسببين؛ أولُهما أن الخيام ليس شاعرا عربيا، وهنا يظهر بطل هذه الأغنية الحقيقي، وهو شاعر الشباب أحمد رامي، الذي قرر في 1950 أن يترجم رباعيات الخيام عن الفارسية مباشرةً، بعد أن كانت مترجمة عن الإنجليزية. استطاع رامي أن يُبقي على جميع المعاني التي وضعها الخيام في قصائده، التي حملت بين كلماتها الكثير من الفلسفة. فإن الخيام لا يقل عن الشعراء الفلاسفة العرب، أمثال المعري، وابن عربي، وغيرهم من الذين أثروا الفلسفة العربية بالكثير.
أما السبب الثاني لتفرّد “الخيام” فقربه من واقعه، والذي لا يختلف كثيرًا عن واقعنا الحالي، أو واقع رامي في الخمسينيات، فالمنطقة لا زالت مقسّمة مستضعفة. تزامن إصدار الأغنية مع بداية فكرة القومية العربية التي نادى بها النظام الناصري بكل ما أوتي من قوة، ولكن كان السؤال الأبرز، ولا يزال السؤال الأبرز إلى يومنا هذا، هو سؤال القيمة، والذي طرحه الخيام عند قوله:
القلبُ قد أضناه عشقُ الجمال والصّدرُ قد ضاقَ بما لا يُقال
ياربُ هل يرضيكَ هذا الظّما والماءُ ينسابُ أمامي زُلال
فقد حُرم المواطن في منطقتنا من الجمال، حتى وإن كان موجودًا حولنا، فهو محرّم علينا، لمصالح يدّعي أصحابها بأنها مصالح عليا، ولكن: لمن تلك المصالح؟
محاولة الخيام في البحث عن المعنى لا تزال قائمة في قلوب الكثير، وهذا لأنهم لا يجدون في دنيانا الحالية ما يدعو إلى العيش، سوى القيم المثلى والعليا، وهذا لأنهم لا يشعرون بأمان، أو راحة في عالمهم الخاص، أو بين أهلهم، أو كما قال الخيام:
لبست ثوب العيش لم اُسْتَشَرْ وحِرتُ فيه بين شتى الفِكر
وسوف انضو الثوب عني ولم أُدْرِكْ لماذا جِئْتُ أين المفر
استطاعت أم كلثوم أن تغنّي تلك الكلمات بجرأة واضحة على المسرح، لتعبّر عمّا يجول في خاطر الشعب المستمع لها، فالاحتلال الإنجليزي لمصر لم يكن قد انتهى حتى ذاك الوقت، ولم تكن عوامّ الشعب المصري تحيا كما يحيا البشر، فكانت هناك أزمة حِفَاء مصرية في الأربعينيات، ولذلك استطاعت تلك التحفة الفنية أن تعبّر عن جراح شعب متألّم لا يبحث سوى عن حياة كريمة.
على الأطلال يبكي ناجي:
لا تزال كلمات تلك الأغنية تتطاير في الأجواء، فهي ليست أغنية القرن العشرين فقط، وإنما هي أغنية كل العصور، تلك التي عبّرت عن الوجدان الإنساني بألحان السنباطي البديعة، وكلمات ناجي، وكان كل السميعة يبكون على حالهم، على دنيا كانت قاسية وستظل كذلك.
استطاعت كلمات ناجي أن تعبّر عن أي علاقة، أيًّا كانت، حتى وإن كانت كلمات ذاتية تعبّر عن تجربة ناجي مع محبوبته بعد عودته من باريس، حيث إن تلك الكلمات كانت هي الحياة بأسرها، فما الحياة إلا علاقات بين أشياء؛ فعلاقة الفرد بمحبوبه أو وطنه أو أهله، كلها عبّرت عنها الكلمات ببراعة شديدة. فيمكن أن نقول إن “الأطلال” هي أطلال مشروع ناصر المهزوم، أو الذي بدأت عليه أعراض الهزيمة، أو أطلال مجتمع كانت له حرية صورية ظل يبكي عليها أعوامًا. يمكننا أن نقول أيضًا بأن “الأطلال” هي مجتمع تغيّر، أصبح حطامًا لا يأبه أحد به، شعب تغيّرت ملامحه في أقصر وقت ممكن، فأصبح ساكنًا لا يقدر على الحركة.
لا تزال واحدة من أجمل المقطوعات التي غنّتها أم كلثوم بصوتها البديع هي:
يا حبيبي كل شيءٍ بقضاء
ما بأيدينا خلقنا تعساء
ربما تجمعنا أقدارنا
ذات يوم بعد ما عزّ اللقاء
فإذا أنكر خلٌّ خلّه
وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضى كلٌّ إلى غايته
لا تقل شئنا فإن الحظ شاء
وتلك الكلمات هي التي أنهت بها سيدة الغناء العربي أغنيتها التي رثت فيها الإنسانية كلها، وعبّرت عن كل ما يعانيه البشر، فإن الفراق حتمي، واللقاء ممكن، ولذلك يجب علينا أن نسعى لنعيش مع اللحظات السعيدة، لأن التعاسة لا مفرّ منها.
لماذا أم كلثوم؟
بنت إبراهيم البلتاجي، مؤذّن المسجد، كانت ولا تزال علامة فارقة في الفن بشكل عام، وذلك لذكائها الذي لا تشوبه شائبة، والذي جعلها تتربّع على قمة الغناء حتى يومنا هذا. فإن أم كلثوم ما زالت رمزًا للغناء في مصر، فقد جمعت بين روعة الألحان والكلمات، وقوة الموهبة، تلك الموهبة التي لا يستطيع أحد إنكارها، والتي حاول الكثير وصمها بالعار على مر أكثر من قرن. ورغم اختلاف البعض حول بعض مواقف أم كلثوم، إلا أنه لا يستطيع أحد إنكار تفرد فنها، الذي يعبّر عن روعة الفن المصري وعظمته. أم كلثوم هي بحق روح مصر.
لكل منا ذكراه مع أغاني أم كلثوم الرائعة، فمنها ما يبعث الألم أو الفرح داخل الروح، ومنها ما يثير الأشجان والأحزان، ولذلك تغزّل الكثيرون في صوت أم كلثوم من الشعراء، ولكن أبرز ما كُتب عن صوتها كان على يد الشاعر العراقي بدر شاكر السياب حين قال:
و أشرب صوتها فيغوص من روحي إلى القاع
و يشعل بين أضلاعي
غناءً من لسان النار يهتف سوف أنساها
و أنسى نكبتي بجفائها و تذوب أوجاعي
و أشرب صوتها فكأن ماء بويب يسقيني
و أسمع من وراء كرومه، و رباه، ها ها هو
تردّده الصبايا السمر من حين إلى حين
و أشرب صوتها فكأن زورق زفّةٍ و أنين مزمار





