حـاروته: سـارة عـابدين
درس الشاعر المصري أمجد ريان اللغة العربية وآدابها دراسة أكاديمية، وحصل على درجتي الماجستير والدكتوراه، لكنه مع ذلك تمرد على نمط الكتابة الشعرية التقليدية، وتبدو كتاباته حداثية تتجه إلى الفردي والشخصي، بعيدا عما يشغل الجماعة، واللغة الخاصة به لغة بسيطة غير محملة بالتراث اللغوي التقليدي لدارسي اللغة، متجاوزة اللغة الأكاديمية وسابقة لذلك العصر (السبعينيات) شعريًا.
عن هذا الأمر يقول ريان إنه ليس بالضرورة على دارس اللغة العربية أن يتحول إلى شخص صاحب توجه تقليدي، فقد تعمق في دراسة اللغة العربية لفرط حماسته للحداثة والتجديد. ويذكر أن كل المنحازين للتجديد في تلك الفترة، كان يوجه لهم اتهام عشوائي بأنهم غير قادرين على فهم النموذج الشعري العربي، ولا يمتلكون قدرات حقيقية لمواصلة الكتابة وفهمها، فتعمق هو في دراسة اللغة العربية، وتاريخها وآدابها حتى يسكت المتشدقين بهذه الاتهامات.
دافع كتابة قصيدة النثر
عن بدايات أمجد ريان بشعر التفعيلة، ثم تحوله لقصيدة النثر بكل ما تحمله من حداثة، ومفردات مأخوذة من مواقف الحياة اليومية، تسم نصوصه بالفردية بعيدا عما يشغل الجماعة، يقول ريان إنه بالفعل انحاز في بداياته لشعر التفعيلة حتى الديوان الثالث ثم تحول لشعر النثر، ولكن هذا التحول لم يكن قرارًا عقليًا، بل وجد نفسه يتوجه بقوة إلى ناحية قصيدة النثر بعد شعوره بأن الوزن الشعري قد وصل إلى مرحلة الترهل، وأنه يجرف في طريقه معطيات غير شعرية، وعلى الشاعر أن يقبلها مرغمًا صاغرًا لكي يكمل إطار الموسيقى الشعرية الوزنية. ويذكر ريان أنه في وقت ما نفر نفورا شديدا من فكرة الأوزان الشعرية، وشجعه على ذلك ما قرأه عن تجربة الشاعر الرومانسي حسين عفيف الذي أصر على أن يصدر دواوينه التسعة على امتداد حياته خالية من الأوزان الشعرية فيما عرف وقتها باسم الشعر المنثور.
أما في ما يخص بحث الفن عما هو ذاتي وشخصاني، يعتقد ريان أنها فلسفة للتعمق في الذات وفهم تطوراتها، وهو ما يمكن أن يكون توجها جماعيا لفهم الذات، وتشكل المسألة ميلًا اجتماعيًا عامًا يستشعره كل الناس في كافة مجالات الحياة، ويتضح أثره في الفنون كلها وليس في الأدب والشعر وحدهما، وهو ما يتضح بشكل عارم في فنون السينما اليوم. وهو ما دفعه لكتابة قصيدة النثر.
يقول “أنا وجدت قصيدة النثر وهي أيضا وجدتني”، كأن كل منهما يبحث عن الآخر. وجد ريان أن قصيدة النثر تقول كل ما في عقله ومشاعره وأحاسيسه الدقيقة، واكتشف أن كل ما يقوله في كتابته له علاقة قوية بالمنطق الذي تطرحه قصيدة النثر قبل أن يتعرف عليها. يضيف هنا أن قصيدة النثر تعطيه حريته الكاملة في التعبير عن نفسه، وتساعده على نبذ المعطيات غير الشعرية التي يجد الشعراء أنفسهم يوردونها مضطرين لملء المنظورات الشعرية المثالية، كما أنها تتيح له فرصة لطرح ذاته بالمعنى الشخصاني، ومعالجة أصغر التفاصيل الحياتية التي تحيط به، لأنه لم يعد قادرا على التعامل مع المعاني الكبرى التي لم تعد مجدية.
كوّن أمجد ريان مع مجموعة من شعراء السبعينيات جماعة “إضاءة 77″، ويذكر أن تجربة الجماعة الأدبية- في الوقت الذي تكونت فيه هذه الجماعات في سبعينيات القرن الماضي- كانت في غاية الأهمية لأن تكوين الجماعة فرصة لكي يشعر أعضاؤها بالقوة، وبخاصة أن هذه الجماعات كانت تتبادل الرفض مع التوجهات الأدبية، المحافظة منها والمثالية، كما كانت تتبادل الرفض مع السلطة الثقافية، ومع كل أشكال السلطة بشكل عام. ويضيف أن المجلة التي أصدرتها الجماعة، مكنت أعضاءها من نشر أعمالهم الشعرية والنقدية، وتأملاتهم وأفكارهم عما يدور في الحياة الثقافية، كما قامت الجماعة بإصدار مجموعات شعرية وكتب نقدية لأعضائها، بالإضافة إلى الاجتماع الأسبوعي لمناقشة الأفكار والنصوص الشعرية والذي شكل عاملًا فعالًا في إنضاج هذه الأفكار والنصوص. يستطرد ريان حديثه قائلا: لقد توارت بالتدريج أهمية الأدوار التي كانت منوطة بهذه الجماعات، حتى فقدت اليوم أية قيمة من القيم التي اكتسبتها في الماضي؛ وكل شاعر اليوم يكاد يكون مؤسسة مستقلة، وقد أتاحت الإنترنت فرصًا هائلة لتحقيق التواصل بين الشعراء والكتاب بشكل عام ليس على المستوى المحلي فقط، بل إقليميًا وعالميًا، وتكاد تكون صفحة فيسبوك على سبيل المثال مجلة يومية قائمة بذاتها.
عن الفارق بين قصيدة النثر في جيل السبعينيات والجيل الحالي لا يرى ريان وجود أي تشابه بين قصيدة النثر التي كانت تكتب في السبعينيات وقصيدة النثر التي تكتب اليوم، ويرى أن الاختلافات جذرية وتفصيلية، أي أن هناك اختلافا في الرؤية والتقنية، بمعنى أن شاعر السبعينيات كان يهرب من الأحادية باحثًا عن التعدد فلجأ إلى المجاز اللغوي والاستعارة، وتحدث نقاد المرحلة عن القناع، وعن المرآوية وعصرنة التراث ومختلف الأساليب التي تطرح التعدد. أما شاعر قصيدة النثر الآن فمختلف بشكل قطعي فهو يلفظ المجاز اللغوي ويعده جبنًا، وعدم قدرة على مجابهة الواقع الفعلي ومعايشته، وعندما يبحث عن التعدد فإنما يبحث عنه بمعناه اللانهائي، فالعالم يتغير كل ثانية، والبدائل تتوالد بصورة عنيفة مطردة وتظل تتجاور بلا توقف.
أما عن التشابه بين الجيل الحالي وجيل السبعينيات في التمرد على الأوضاع السياسية والاجتماعية، فيعتقد ريان أن الأحداث الخارجية اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا تفرض على كل جيل أن يتمرد على الأوضاع السابقة التي لم تعد لها أية فائدة في الحياة الفعلية، وإن كان هذا التمرد يظهر بصورة جلية لدى طليعة الجيل من المثقفين والمستنيرين الذين لا يتوانون عن التمرد وعن التحريض، والعمل الدائب على محاربة الوضع المستقر، وكشف سلبياته التي تصل إلى درجة الفضائح التاريخية وخوض معركة التجديد ضد التيارات المحافظة.
فيسبوك بديلا عن ..النشر الورقي
عن تأخره في النشر بعد آخر ديوان له، واعتبار فيسبوك بديلا عن النشر الورقي، يقول ريان إن لديه عددًا من الدواوين المجهزة للطباعة، التي لا تتحمل أي دار نشر مهما كانت قوتها أن تطبعها بالكامل لأنه غزير الإنتاج بصورة غير عادية بغض النظر عن قيمة هذا الإنتاج. ومن أهم أسباب توقفه عن النشر الورقي كل هذا الوقت، هو أنه من جيل يخجل من الالتصاق بالناشرين وتقديم أشكال من الترجي، لأنهم يعدون هذا عيبًا كبيرًا ينقص من كرامة الإنسان، كما أن هناك دور نشر تريد الحصول على مبالغ كبيرة من الشاعر نفسه لكي تنشر له ديوانا. يضيف ريان: بالتالي يمكن أن نكتشف أن الذين طبعوا دواوين بالفعل إما أثرياء بالوراثة، أو يعملون في وظائف كبيرة، وإما من هؤلاء الذين عادوا من دول عربية، خاصة من دول الخليج. ويعتقد ريان أن وجود حالة نشر صحية صحيحة في مجتمعاتنا أمر مستحيل، والشاعر يعاني لعدم قدرته على طباعة أعماله، خاصة رقيقي الحال الذين لا تسمح ظروفهم المادية بإنجاز هذه المهمة، لذا يعد فيسبوك بالفعل بديلا عن النشر الورقي، وهو ينشر من خلاله قصيدة كل يومين أو ثلاثة، بل تكاد صفحة فيسبوك أن تتحول إلى جريدة كاملة ليس لنشر الكتابات فقط، بل للمساهمة في الحياة الثقافية من خلال زوايا متعددة.
على ذكر فيسبوك ووجود جمهور شعبي غير متخصص أدبيا أو ثقافيا، بعد أن أصبح الشعر من المواد الأكثر تداولا، وعن تأثير تلك الفورية في تلقي النصوص والتي تجعل الشاعر أقرب إلى ممثل مسرحي يتلقى النقد والمدح بشكل آني ومباشر، يعتقد ريان أن الجمهور دائمًا في كل زمان هو جمهور شعبي، ولا يمكن أن يصبح الجمهور متخصصًا، وهذا هو حال الشعراء في كل مراحل التاريخ، يطرحون أعمالهم للجمهور العام، وجزء من هذا الجمهور يكون متخصصًا أو شبه متخصص، وجزء آخر يقوم بدور الوسيط الثقافي الذي يقرب للناس ما يتعذر عليهم فهمه أو استيعابه في الكتابة أو نظريات الكتابة. ويضيف ريان أن وجود جمهور واسع (غير متخصص) هو خير وبركة على كتابة الشعر، حتى يتخلص الشعراء من الخزعبلات اللغوية التي سادت في الحياة الشعرية لحقبة طويلة، ولكي ينتج الكتاب نصوصًا بسيطة بلغة سهلة الوصول إلى المتلقي. ويضع ريان شروطا للنص الكبير أولها أن تكون لغة النص واصلة لجمهور المتلقين بشكل مباشر وأن تكون مفهومة المعنى بمجرد سقوط الكلمة على طبلة الأذن أو حدقة العين، ومن هذه الشروط أيضا أن يكون ما هو مطروح جديد في بابه لم يسبق للمتلقي أن مر به من قبل لدى الشاعر نفسه أو لدى أي شاعر آخر، بالإضافة إلى العمق الذي يُطرح من خلال المعاني البسيطة، بحيث يسمح لكل فئات القراء، التفاعل مع النص بشكل أعمق. ويرى ريان أن تلك البساطة أصبحت ظاهرة ملحوظة بعد أن أصبح الشعر كثير التداول على فيسبوك، وهو لا يخاف من بساطة القضايا الشعرية، ويؤمن أن هذه البساطة حتى لو تحولت إلى ما يسمونه (الخواطر) تعبر عن احتياج جديد ينبغي أن نحترمه جميعا، ولكن بقية الشروط ينبغي أن تتحقق حتى يكون النص جديرا بتسمية قصيدة.
الشعر الحر
امتد مشروع أمجد ريان لأكثر من 36 عاما. يتذكر ريان بداياته مع الشعر والكتابة والتغيرات التي طرأت على مشروعه الإبداعي خلال سنوات، حيث بدأ بمحاكاة النصوص التقليدية في التراث القديم، وسبق ذلك دراسة الأوزان الشعرية، واللعب عليها، ثم في مرحلة تالية أعجب برؤى وتقنيات مدرسة الشعر الحر وكتب قصائد كثيرة نشر بعضًا منها في مجلة “سنابل” عن طريق الشاعر محمد عفيفي مطر الذي كتب تعليقا نشره في المجلة إلى جوار أول قصيدة له، واعتبره ريان أهم ما كتب عنه.
يضيف ريان أنه بمرور بعض الوقت شعر مع زملاء جيله أن قصيدة الشعر الحر لا تشبع نهمهم للجمال ولا رغبتهم في امتلاك ذرى عالية في الفن، علاوة على شعورهم بأن الوزن الشعري يحدث ترهلًا في النص ويجبرهم على جرف معطيات لا يحتاجونها أصلا.
يذكر ريان في ذلك الوقت لقاءه بالشاعرين حلمي سالم وعلي قنديل وتحدثهما حول رغبتهما في التحرر من قصيدة الشعر الحر، وبداية كتابتهما لقصائد تخلو من الوزن، ثم بعد ذلك شرعا في إدراك أن قصيدة النثر ليست فقط هي القصيدة الخالية من الوزن، ولم تكن المسألة متعلقة بهما فقط، لكن بجيل كامل كان يتلظى بهذا الحلم.
يذكر ريان أن أبناء هذا الجيل في ذلك الوقت نشروا قصائد أحدثت هزة جمالية عميقة في حياتهم الإبداعية، وتعرفوا على شعراء مصريين كثيرين يسيرون في الطريق نفسها، وكذلك شعراء آخرين من البحرين منهم قاسم حداد وعلوي الهاشمي ومن لبنان والمغرب وليبيا والسودان، وتمت دعوة ثلاثتهم لإقامة ندوات في الجامعات المصرية، وقصور الثقافة، والمركز الثقافي الروسي.
يستعيد ريان ذكريات ندوة المركز الثقافي الروسي ويقول إنها كانت أكبر ندوة شعرية تدشن لدخول الكتابة إلى منطقة جمالية مختلفة تتبنى الحداثة، وتغامر القصيدة فيها بتثوير اللغة الشعرية، وهي المرحلة التي استمرت طوال السبعينيات، ثم بعد ذلك في فترات تالية بدأت حماسته للحداثة تفتر لأن الحداثة كانت تضع على وجهها أقنعة جمالية كثيفة فيختفي شكل الوجه الحقيقي، ولأن العقل الذي هو الركن الركين للحداثة بدأ يهتز وأخذ الإنسان يسأل بماذا يفيدنا العقل، وفي كل عام تأكل الحروب شبابًا بأعداد كبيرة، وفي كل عام يموت أطفال بأعداد ضخمة بسبب الجوع أو المرض الناتج عن الجوع، وهنا بدأ الإنسان في البحث عن نفسه وأصبحت الذات ببعدها الشخصاني هدفًا.
الكتابة الجديدة تحتفي بالتفاصيل الصغيرة
يحيل أمجد ريان ظهور الكتابة الجديدة إلى السياق العام الذي يحدث حول الكاتب وكتابته، ويقول: أصبحت كل ظاهرة تكبر وتتسع حتى ينفجر إطارها الخارجي، وتخرج مكوناتها الجزئية الأصغر، ثم يبدأ كل مكون من هذه المكونات في الاتساع بدوره حتى ينفجر إلى مكوناته الأصغر وهكذا إلى ما لا نهاية، كل الظواهر يحدث فيها الشيء نفسه، وعلم الاجتماع على سبيل المثال، ظل يكبر ويتسع حتى صار مرهقًا بالنسبة لمدرسيه ودارسيه على حد سواء، حتى انفجر إلى علوم عديدة منها: الأنثروبولوجي، والسوسيولوجي وعلم الاجتماع العام، وغير ذلك، وكذلك الدول التي انقسمت إلى دويلات عديدة، وغير ذلك من أمثلة لا حصر لها، ومن هنا فالكتابة الجديدة تحتفي بالتفاصيل الصغيرة، واللحظات المعيشة، والتفاصيل الحسية في مقابل التفاصيل المعنوية التي بدأت في التبخر شيئا فشيئا.
كتب أمجد ريان دراسات نقدية متعددة، عن كيفية الفصل بين الشاعر والناقد بداخله، والفصل بين التلقي الذاتي والموضوعي. يقول ريان إن الشعر عرف في تاريخه الطويل ظاهرة الشاعر الناقد، ودائمًا كان الشعراء المجددون هم الذين يتجهون لكتابة النقد مضطرين، لأن تجاربهم تجاوزت المنظورات النقدية السائدة والنقاد يكونون غير مقتنعين بما يفعلون، ففي فترة الإحياء مثلًا كانت المرحلة بشكل عام لا تطرح روحًا تجديدية، وكان الشعراء غير النقاد، ولم يكتب أحمد شوقي نقدًا، وكان النقاد مثل حسين المرصفي صاحب “الوسيلة الأدبية” لا يكتبون الشعر. أما في المرحلة التالية، مرحلة الشعر الرومانسي المجددة التي أدخلت للشعر العربي ما لم يكن يعرف من قبل، فقد اضطر الشعراء أنفسهم أن يعملوا بالكتابة النظرية، وأن ينقدوا حتى يدافعوا عن تجربتهم، لأن نقاد المرحلة الكلاسيكية السابقة لا يستطيعون فهم طبيعة تجربتهم، بل كانوا يهاجمونهم، ويسخرون منهم، وبالفعل كتب شعراء مثل عبد الرحمن شكري والعقاد دراسات مهمة في نقد الشعر.
يذكر ريان أنهم في بداية كتابتهم للقصيدة التي تسعى للتجديد في السبعينيات، هاجمهم عدد من النقاد الذين ينتمون للمراحل الأسبق، واضطروا للدفاع المستميت عن تجربتهم حتى تمكنّوا من إثبات رؤاهم وتفعيلها في الحياة الثقافية، وأصبح كل منهم قادرًا على تقمص الحالتين الإبداعية والنقدية. ويقول “أنا أسعى لجعل الشاعر الذي في داخلي، يستفيد من الناقد الذي في داخلي، والعكس بالعكس. لذا ينبغي على التجربة الشعرية الطليعية أن تكون متجاوزة لكل أطر النقد التقليدية السائدة المعروفة، ولكن هذا التجاوز يجب أن يكون عفويًا أصيلًا، وليس مجرد قرار عقلي فوق التجربة”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نُشر الحوار على موقع ضفّة ثالثة