علي قطب
من سور الأزبكية اشتريت الليلة الثانية بعد الألف، وأمضيت ليلة رائعة مع عشرين قصة لعشرين أديبة، كانت قصصا اختارها يوسف الشاروني من كتابات إحسان كمال ولطيفة الزيات وفوزية مهران وهدى جاد وصوفي عبد الله ونوال السعداوي وسعاد زهير ووفية خيري وغيرهن، لكل كاتبة قصة، وتوقفت عند “عالمي المجهول” لأديبة اسمها أليفة رفعت منحني الشاروني بطاقة معرفتها ولم أكن قد سمعت عنها من قبل، وكأن عنوان قصتها علامة علي حياتها وإبداعها، وبددّ الشاروني شيئا من الظلام بوضعها في متوالية القصة النسوية بوصفها من حفيدات شهرازد التي تستمر بهن حكايات الليالي.
أشار الشاروني لمرجعية قصة “عالمي المجهول” فهي منشورة للمرة الأولى بالزهور (ملحق مجلة الهلال سبتمبر 1974) وأليفة في الرابعة والثلاثين من عمرها، لديها الطاقة والثقافة والخبرة أيضا، لديها القدرة على تصميم بنية قصصية لها مقدمة فلسفية تعرض صورة للعالم الذي لابد أن يقوم على الحب، ولكن مفهوم الحب ليس ثابتا، إنه يمتد في متغيّرات ثقافية عبر الأمكنة والأزمنة والنوع البشري والاحتياجات الشعورية وعلاقة الإنسان بالآخرين وبالطبيعة.
تشغل القصة بالإضافة إلى المقدمة خمس وحدات، أي أن المؤلفة تبني عمارة صغيرة من أساس وخمسة أدوار، تحكي فيها عن سفر زوجين لبلدة مجهولة بسبب عمل الزوج، وتعيش المرأة حالة تواصل غريبة، حالة تواصل مع بيت مسحور بشقوق جدرانه التي تسكنها أفعي.
تدور بين الأفعى والمرأة حوارات تعكس فلسفة الحياة، إلى أن تنهار تلك العلاقة الغريبة، بعد أن أتى الزوج بأحد الرفاعية فأمسك بثعبان من أقارب الأفعي التي رأت ذاك الفعل خيانة للصداقة التي لا يقدّرها البشر، وكأنها تستعيد الحكمة العربية القديمة “كيف أعاودك وهذا أثر فأسك.” واضطرت الأسرة لترك البيت، وظلت الأفعى رمزا للإشباع النفسي في تجربة المرأة التي تحن للبيت السحري وساكنته
قصة رمزية جريئة عن رغبات نسائية، وتواصل بين الإنسان والحيوان، ونفوس مغلقة على لا تستطيع البوح بأسرارها لأقرب الناس لها، وأعمار تنقضي في انتظار المجهول، وجنون نطلقه على من يخالف أفكارنا، ومكان يشبه تكوين الإنسان، وامرأة تبحث عن معنى الوجود في عالم قديم، لعله يمنحه طاقة تواجه بها جمود العصر وبرودته.
اختار يوسف الشاروني القصة بعناية، مثلما اختار القصص الأخرى، أليفة رفعت صاحبة تيار قصصي، أفاد من علم النفس الفردي، عند فرويد والجمعي عند يونج، تيار أليفة يسبق الواقعية السحرية التي غمرت الساحة فيما بعد محاكية الأدب اللاتيني في أمريكا الجنوبية.
أليفة رفعت حفيدة شهرزاد بحق فهي تنطلق من عالم الليالي العربية بطابعه الكوني، بالقصص التي تشبه أحلام الليل التي تتجاوز المنطق وهي تعبّر عن الأعماق التي تماثل شقوق البيت، والتصوّرات التي تشبه الأفعى المحبة الحكيمة التي تفتقدها المرأة فيمن حولها.
هكذا عرفت أليفة رفعت وعالمها المجهول من يوسف الشاروني في كتابه الصادر عن نادي القصة (أين هو الآن؟) عام 2003م في فترة المد التي ازدهرت فيها الكتابات النقدية عن الأدب النسوي، قبل أن تأتي الجندرية لتستحضر الثقافتين الذكورية والنسوية، في مقابلة غير مبررة، جريا وراء المفاهيم المستوردة، التي تغرق وادي النقد الأدبي، أو النقد الثقافي الذي يكاد يبتلع الأدب والنقد معا في ممارسات جاهزة تقتل الإبداع.
كل هذا حدث قبل أن يحدثني جوجل عن أليفة رفعت بعد أعوام من يوسف الشاروني الذي تفوّق على الذكاء الاصطناعي.