في المجموعات الثلاث، يخترع محمد الفخراني عالماً من البداية، قبل وجود الإنسان، ويعيد تشكيله وفق هواه، محتفظاً ببعض القواعد التي تربط هذا العالم، مثل العلاقات بين المحسوسات والجماد والحيوان، لكن في روايته الجديدة، التي تصلح لأن تكون “فاصلاً حقيقياً للدهشة”، يعيد تحطيم كل هذه الفواصل، بل تحطيم أي شيء تعرفه أو تتخيله عن العالم، ويعيد تشكيله من جديد، حتى أنك يمكن أن تلمس الموسيقى، وتأكل النور، بل يحطم المنظومة التقليدية للتناسل، فنرى بطلة الرواية بلا أب ولا أم، لأنها تنتمي إلى نسل يتكون من حفيدة، وجدة، وهكذا إلى ما لا نهاية
قد لا يصدق، أو يتوقع قارئ رواية الفخراني الأولى “فاصل للدهشة” التي كانت ترصد عالم المهمشين في مصر بتفاصيل شديدة الواقعية والألم، أن تكون روايته الثانية قفزة لعالم آخر، شديد الرقة والخيال، فإذا كانت روايته الأولى غارقة في عنف الواقع ومأساته، فإن روايته الثانية تسبح في عوالم حلمية، وتطرح أسئلة شديدة البساطة، شديدة التعقيد شديدة الجديدة حول ماهية الكون وطريقة تكوينه، حتى تبدو الإجابات التي تقدمها أسئلة متنكرة، كما يقول في صدر روايته. ويراهن الفخراني بهذا البون الشاسع بين الروايتين على قارئ مختلف، قد يكون مختلفاً عن قارئ روايته الأولى التي لاقت رواجاً كبيراً، ودون أن يعيد نفسه حتى يحافظ على هذا النجاح. بل يمكن القول إن الفخراني يتحدى نفسه بهذه الرواية التي يراهن بها على قوة الفن، وسطوته وقدرته على النجاح، وجذب قراء من شرائح مختلفة، وطرح مشروع لعالم روائي مختلف لم تطأه قدم من قبل
يتبادر إلى ذهن قارئ رواية “ألف جناح للعالم” سؤال منذ صفحاتها الأولى، مع كم الغرائب، والمفارقة للخيال في كل تفاصيل الرواية، هل هذه رواية أسطورية على غرار “ألف ليلة وليلة”؟، وهل لو قيض لكاتب “ألف ليلة وليلة” أن يكتبها في عصرنا هذا، مع ملاحظة التطور التكنولوجي والمعرفي والحسي، ستكتب بهذه الطريقة؟، فعلى غرار العجائب التي كان يقابلها سندباد، أو عبد الله البري أو عبد الله البحري في رحلاتهم، تقابل بطلة الرواية “سيمويا” عجائب أخرى في رحلتها الاستكشافية، في روايتين متوازيتين، تبحث في إحداهما عن النهار، والأخرى في مهمة لا نعرف كنهها ولا نعرف متى تنتهي، لكن الرحلة في النصين المتوازيين المتداخلين، تتحول إلى رحلة أسطورية، نرى فيها القبطان المذهول، والفتاة التي تخيط قلبها، والأم التي تطعم أطفالها من جسدها، وشجرة العيون، والكنجارو الرسام، وشجرة الخبز، وجبل النور، وبيوت المشاعر، والوحش الحنون، وعوالم الجن، وأرض البسكويت وأرض الملابس الجديدة وأرض الشيكولاته، وبيت الخوف، والمدخل إلى اللا ليل لا نهار، ومقابر الورد، والمدن الطافية، وغيرها من العوالم المبتكرة التي يعيد بها الفخراني تشكيل العالم وتشكيل حواسه أيضاً
نحن أمام عشرات الحكايات العجائبية الصغيرة، الممتزجة ببعضها والمتضافرة، والتي يمكن قراءة كل منها على حدة كنص مستقل، كما يمكن قراءتها في سياق رحلة سيمويا الغرائبية، والرحلة هي جوهر هذه الرواية، سواء كانت للبحث عن النهار، أو البحث عن الحب، كما يحدث في النصف الأخير من الرواية مع سيمويا، أو حتى لاكتشاف الذات،، وحل اللغز، هل سيمويا تقرأ قصتها أم قصة أخرى، وهل سيحبها دوفو أم لا؟ وهل يحدث ما قرأته في كتاب القدر(أوراق الليل) أم لا، وإذا كان بعضه قد حدث فلماذا لم يحدث باقيه؟ وهل الإنسان مجبر أم مخير؟ هل بإمكانه أن يغير مستقبله وقدره، هل الحياة مجرد دائرة لا تنتهي تتكرر أحداثها مع تكرار التسلسل البشري في شجرة الحياة؟ عشرات الأسئلة المتعلقة بالزمن، وعلاقة الإنسان والكون به، والتي تنساب في خفة تنقل الفراشات وسعي سيمويا وراءها بحثاً عن إجابة أسئلتها الوجودية، والتي تستدعي من القارئ أن يخلع ذاكرته المعرفية ويستسلم لعالم آخر، بأحداث وتركيبات مغايرة لما اعتاد، حتى يستطيع أن يعثر على إجابة
قد يظن القارئ في الصفحات الأولى للرواية أنه بصدد رواية من الخيال العلمي، خاصة مع أجواء الرواية التي يبدو أنها تدور في المستقبل القريب، لكن الفخرانئ ما يلبث أن يأخذ في أجوائه الأسطورية، في روايتين متوازيتين، غير متماستين، لا تتقاطعان إلا في الصفحات الأخيرة، إحداهما تبحث عن النهار، والأخرى تقرأ عن الليل. من الممكن هنا طرح عشرات التفسيرات، وإعادة تفسير العالم، وإعادة تفسير تصنيف الرواية التي بالرغم من ذلك تمتاز برقة شديدة، فهي تدور في أجواء حلمية، بل تكسر الحاجز بين الحلم والواقع، فيتداخلان، ومع وجود كل التفاصيل التي كان يمكن أن تحولها إلى رواية شديدة الرومانسية، من حب بطلة الرواية للشيكولاته مروراً بالفراشات، والبحر والنجوم، التي تتنقل بين صفحات الرواية، إلا أن الفخراني استطاع أن ينجو بها من هذا الفخ، ليقدم رواية عن أسئلة الحب، (من أحب نجا)، عبر قصة حب، تطرح الأسئلة ولا تقدم الإجابات
يدرك القارئ أن هذه رواية صعبة، سواء في قراءتها أو كتابتها، ففي قراءتها يفاجأ القارئ في كل صفحة من صفحاتها التي قاربت الخمسمائة، وربما في كل سطر، بتغير جديد في عالمه الاعتيادي، أما صعوبة كتابتها فتجعل القارئ يشفق على المؤلف، لأنه ليس من السهل نسف الذاكرة المعرفية للإنسان وإعادة بناء عالم متكامل ومبهر في كل تفاصيله بهذا الشكل.
في روايته الجديدة يقفز “ألف جناح للعالم”، يقدم محمد الفخراني ألف حكاية مغايرة وألف سؤال متنكر في هيئة إجابة، وألف دعوة للنجاة بالحب، ويقفز قفزة كبيرة في بناء عالمه الروائي الخاص والمتميز، والذي لا يشبه أحداً غيره، ويبدو شغوفاً بأن يقدم عالماً جديداً ورواية متفردة، وقد فعل.