د. نعيمة عبد الجواد
عندما صارت بحوزتي مجموعة مي التلمساني “ثلاث روايات: دنيا زاد، هيليوبوليس، أكابيللا”، عمدت لاختيار وقت جيد لقراءتها؛ لأني لسوف أركز تفكيري على ثلاث روايات، وليس على ثلاث قصص. وقبيل القراءة، كنت راغبة عن القيام بأي نوع من أنواع البحث لمعرفة أي معلومة عن خلفية أو شخص الكاتبة؛ فلقد فضلت أن أترك العنان لفكري ليهديني لسبر أغوار مي التلمساني دون أن أقيد نفسي بأغلال المعلومة مسبقة.
“الإبهار”، هو الكلمة التي صارت تند في رأسي فور ما بدأت قراءة الغلاف، وكلما أخوض في قراءة سير الأحداث. فعنوان المجموعة أرادت به الكاتبة إبهار المتلقي لجذبه لمعرفة المزيد عما تحويه سطور هذا العمل، وكذلك هو الحال بالنسبة لأسلوبها السردي. لكن بالنظر لصفحات المجلد، وبمعرفة عدد صفحات كل “رواية” – كما يشير عنوان المجموعة – وجدت أن الثلاث أعمال تنتمي إلى لون النوفيلا novella وليس الرواية؛ فهي باختصار مجموعة تضم ثلاث روايات قصيرة. وبقراءة الروايات القصيرة الثلاث، لم تتراءى لي سوى صورة امرأة تحاول أن تفضي إلى القارئ بما يجيش في صدرها من مشاعر فياضة، ولذلك استخدمت في الأعمال الثلاث ضمير المتكلم، لأنها ترغب في القيام بدور الراوي لجميع الأعمال، وفي كل عمل تحاول بأن تفضي بما يعتريها من مشاعر بشكل أو بآخر لتزيح قدر من الهموم الجاثمة على صدرها، وتلقي بظلالها على حياتها الشخصية. ولهذا صارت فكرة الموت، والبعث بعد الموت هي التيمة الأساسية التي يدور حولها كل عمل من هذه الأعمال. لكن لم تكتمل خيوط هذه التيمة بشكل صريح إلا في عمل واحد، ألا وهو: “أكابيللا”، وظهرت بشكل مباشر جزئياً في كل من “دنيا زاد” و “هيليوبوليس”؛ إذ تركت “مي التلمساني” للقارئ مهمة اكتشاف البعث بعد الموت وكأنها قد قررت أن تكافئه بهذا الاكتشاف.
ومما يميز الكاتبة أنها تحاول جاهدة رسم صورة توضيحية مفصلة لجميع الأحداث، ولو حتى الطفيفة منها التي تدور في إطار كل عمل. لكنها في إطار ذلك حرمت القارئ من عنصر التفكير والتكهن بما قد يدور في ثنايا العمل، ولقد كان يمكن لها أن تفعل ذلك وبكل بساطة إذا حاولت تكثيف السرد، بدلاً من اللجوء للتطويل والتفصيل التي قد يجعل القارئ متلهفاً أن ينتقل لسطور أخرى لاكتشاف ما ينطوي عليه العمل من تفاصيل وأحداث أخرى. فالكاتبة بكل الوسائل تحاول أن توضح أنها المهيمن الوحيد على سير الأحداث، الذي يمسك بزمام كل الأمور، وكأنها تحاول أن تنقل للقارئ فكرة أنها تضع في كل عمل قطعة من روحها، ولذلك لن تفرط في أي جزء منها بسهولة؛ لأنها المالك والمدبر الوحيد للأعمال والأحداث. وبالطبع، قد ينم ذلك أن تلك المجموعة هي من طليعة التجارب الإبداعية للكاتبة.
ويحسب للكاتبة إمساكها بزمام السرد، والخط الدرامي، وزمن الأحداث بشكل جيد، لكن لم يواتيها الحظ أن تحتفظ بعنصر التشويق في جميع ثنايا كل عمل من الأعمال، بالرغم من قوة الفكرة، ولهذا ينبغي على الكاتبة أن تجعل عنصر التشويق نصب أعينها طوال الوقت في أعمالها القادمة. أما عن شخصيات كل عمل، نجد أنها جميعاً تنتمي لطبقة واحدة، وهي الطبقة الفوق متوسطة التي تتمتع بقدر عالي من الحرية، والثقافة، ولها العديد من الاختيارات المتاحة التي قد لا تتوافر للطبقات الدنيا. لكن، بالرغم من ذلك تسجن الكاتبة نفسها في إطار ضيق؛ بسبب تلهفها على أن تشكل حياة شخوصها وفق رغبتها دون أن تمنح أي منهم الحرية في الارتجال.
وبالنظر لكل عمل على حدة، نجد الكاتبة تحاول أن تفتح للقارئ نافذة سريعة على فحوى الأحداث من خلال عنوان كل عمل. ومما لا شك فيه، لقد ساهم ذلك أيضاً في توجيه القارئ أن هذا العمل يتمحور حول هذه النقطة المحددة. وأما تكنيك الكتابة المفضل للكاتبة فكان الفلاش باك، وتيار الوعي اللذان يمكناها من الغوص بكل حرية في عقل وتجربة الشخصية لإبراز أدق مشاعرها، وكذلك لتوكيد وجود الكاتبة بين الفنية والأخرى كعنصر مهيمن ومسيطر على جميع الأجواء. وأما عن أجواء الأعمال الثلاث، فنجد أنها متشابهة. فجميع الشخصيات تعيش تقريباً في نفس المستوى الاجتماعي، وتتمتع بنفس المستوى الثقافي.
بالنظر لنوفيلا (رواية قصيرة) “دنيا زاد”، ترسم الكاتبة صورة مفصلة المعالم للأم الثكلي التي تحاول أن تتغلب على محنة فقد مولودتها فور ولادتها مباشرة، وكذلك تشدد الكاتبة على محاولات الأم المضنية للنهوض من كبوتها التي فاقمها ألم التخلص من حالة إكتئاب ما بعد الولادة، والتي تظهر سيماتها على جميع تصرفات الشخصية الرئيسية. ولقد أحكمت الكاتبة قبضتها على سير الأحداث بسبب القصر النسبي للنص، وقد يكون أيضاً بسبب أنها تتحدث عن تجربة حقيقية تعرفت على دقائقها من خلال تجاربها الشخصية، ثم صاغتها بأسلوبها.
وأما في نوفيلا “هيليوبوليس” فلقد حاولت الكاتبة التجديد في أسلوبها والخروج عن النمط الذي تألفه لحد كبير، لكن، ظهر النص كتأريخ أكثر منه عمل فني، يتخلله أجزاء تقريرية بحته قامت بتشويش القارئ في كثير من الأحيان، فجعلت من الصعب التفرقة ما إذا كان النص روائي أم تاريخي؛ حيث كان الهم الأسمى للكاتبة في هذا النص هو التركيز على زمكانية الأحداث وليس على العمل الفني في حد ذاته.
وأما بالنسبة لنوفيلا “أكابيللا” فنجد أن الكاتبة صارت تتكلم وتحكي وتتصرف بكل أريحية؛ لأنها تتحدث عن واقع تعرفه تماماً، وقد تكون شغوفة به، وعاشت تفاصيله بشكل أو بآخر. فلقد جاء النص صادق والتحم بالواقع لأن الكاتبة أخرجت شخصها للنور من خلال التحدث من واقع ثقافتها، وتجاربها الشخصية. وبوصفها كاتبة مسيطرة على زمام الأمور، عمدت مي التلمساني إلى اللجوء لعنصر “الإبهار” كعادتها من خلال اختيار اسم العمل وصياغته في شكل “أكابيلا” Acapella– يراعى أن هذا اللفظ عند كتابته باللغة العربية يكتب بحرف لام واحد وليس بإثنين كما هو الحال عند الكتابة بالحروف اللاتينية. والأكابيلا هو لون استعراضي سمعي، وليس بصري، يتم فيه الاستغناء عن المصاحبة الموسيقية للآلات الموسيقية؛ لأن الموسيقى تنبع من تباين الأصوات البشرية بداخل هذا الاستعراض بدءا من السوبرانو (أعلى طبقة)، إلى الباص (الطبقة الرخيمة). ويعد هذا اللون تحدياً لجميع ألوان الغناء المألوف؛ لأن مؤلفه يجب أن يكون على دراية واسعة بعلم الأصوات البشرية، وعلم التأليف الموسيقي لفهم طبيعة ومساحة الأصوات المشاركة في العمل. وبالفعل، طلت مي التلمساني في هذا العمل ككاتب يعي دقائق العمل من خلال تصوير شكل حقيقي لنوع من أنواع الصداقة بين إمرأتين، فصورت مي التلمساني علاقة “الحب-الكره” بكامل معانيها بين “عايدة” الفنانة التي تعيش في حالة من الفن ظاهراً وباطناً، وبين راوية العمل التي لن يستطيع أحد أن يتذكر اسمها بالرغم من أنها من يسيطر على رواية الأحداث لأنها وببساطة تغار من عايدة، وتتمنى دوماً أن تتبوأ مكانها، بالرغم من أنها تتظاهر أمام نفسها والآخرين أنها تستنكر تصرفات “عايدة”. وأخيراً، يهدأ بال الراوية عندما تتقمص دور “عايدة” بأكمله، لتصير في النهاية استنساخ آخر لشخص “عايدة” المتوفاة التي تتخفى وراء قناع من الفن لتشعر بالسعادة وتتحدى نقائصها. وأجادت مي التلمساني في هذا العمل عند تصوير تلك التركيبة النفسية المعقدة؛ لأنها تتحدث عن تجارب صادقة تدور في عالم العلاقة الإنسانية والصداقة في عالم البنات. وزانت الكاتبة عملها بالسماح لشخصيات أخرى أن تتداخل أصواتها في غمار العمل الفني لدرجة أن تلك الشخصيات صارت رئيسية في النص، بالرغم من أدواها الهامشية. لكن يجب ألا ننسى أن مي التلمساني سمحت بذلك فقط من أجل تصوير حالة “الأكابيلا” في جميع أرجاء النص.
حقاً، المجموعة صادقة وتعبر عن شخص كاتبتها التي تهتم كثيراً بالمشاعر، وتباينها، وتصويرها من منظورها الشخصي والثقافي عن تمام اقتناع، بغض النظر عن أي شيء، حتى ولو كان التدقيق اللغوي؛ فالمجموعة يعوزها تدقيق وتنقيح لغوي.