أقنعة وظلال: تقاطع أدبي بين فيرناندو بيسوا وروبير فالزير

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

عثمان بن شقرون

في عالم الأدب، تتقاطع أحيانًا مصائر كُتّاب لم تجمعهم معرفة مباشرة ولا زمن مشترك، لكنّ انشغالاتهم تتلاقى في عمق التجربة الإنسانية. من بين هذه التقاطعات المدهشة، يبرز فرناندو بيسوا وروبير فالزير، وهما كاتبان شكّلا بطريقتهما الخاصة مرآتين لعصر القلق الحديث. رغم اختلاف السياقات اللغوية والثقافية التي انتمى إليها كل منهما، إلا أن نصوصهما تعبر عن هواجس وجودية متقاربة، وتعيد التفكير في مفهومي الذات والعالم من منظور التفتت والهشاشة.

في هذه المقالة سأحاول تسليط الضوء على ملامح هذا التقاطع من خلال عرض موجز لمشروع كل منهما الأدبي، قبل الوقوف عند نقاط الالتقاء الجوهرية بين تجربتيهما.

يُعد فرناندو بيسوا (1888–1935) من أبرز رموز الحداثة الأوروبية في الأدب البرتغالي والعالمي. لم يكن مجرد كاتب، بل كان كمن يسكنه جمهور من الأصوات، إذ ابتكر “هيتيرونيمات” — شخصيات أدبية متخيلة، لكل واحدة منها أسلوبها ورؤيتها وفلسفتها الخاصة — ليكتب من خلالها نصوصًا متنوعة عكست أوجه القلق الوجودي والانقسام الداخلي والسعي الدائم وراء هوية متحولة.
من أبرز أعماله كتاب “اللاطمأنينة”، الذي حرّره تحت اسم برناردو سواريس، وهو عمل يقع في منطقة وسطى بين اليوميات النثرية والتأملات الفلسفية والنفسية، ويجسد حالة الذات الحديثة في عالم مفتقر إلى اليقين. يمتاز هذا الكتاب بلغة دقيقة وباردة، تترجم تشظي الذات المعاصرة وتيهها في مواجهة عبثية الوجود. رغم عزلته شبه التامة في حياته، وكونه لم ينشر سوى كتاب واحد باسمه، فقد بات إرثه بعد وفاته حجر زاوية في الأدب الحديث، لا بسبب ما كتبه فقط، بل بسبب الطريقة الفريدة التي اختبر بها الكتابة والكينونة معًا.

أما روبير فالزير (1878–1956)، الكاتب السويسري المتفرد، فقد كتب نصوصه بأسلوب نثري يتسم بالخفة الظاهرة والعمق الكامن، حيث يتوارى المعنى خلف التفاصيل العابرة. لا ترتكز رواياته الكبرى، مثل الإخوة طانير و معهد بنجامينتا والنزهة واللص، على بناء حبكة تقليدية، بل تقوم على التقاط التجربة العابرة وتشظي الذات في عالم يتلاشى حدوده باستمرار. أغلب شخصيات رواياته شبان يأملون، من ناحية، أن يكون لديهم مجالات نشاط مناسبة على طبيعتهم، يفضلون انتظار شيء ما غير محدد. يقودون حياة غير مستقرة في ظروف غير  مطمئنة، ويفكرون ويشعرون ويتصرفون ضمن أنظمة مرجعية ذاتية. خارج بنية الروابط الاجتماعية، فهم يناجون أنفسهم ويتركون أفكارهم وأفعالهم تسترشد بالمواقف والمواجهات العشوائية. إنهم لا يحلون التناقضات القائمة ولا يغيرون شكل حاضرهم.” يعبر فالزير عن إحساس بالعدم والهامشية، مسجلاً مرور الإنسان عبر الحياة كمرور ظلٍّ في مشهد حلمي آيل إلى التفكك.

رغم اختلاف السياقين الثقافيين لكل من فرناندو بيسوا وروبير فالزير، إلا أن نصوصهما تتقاطع على نحو عميق في استبطان شعور اللاطمأنينة بوصفه قوام التجربة الإنسانية الحديثة. عبّر بيسوا عن هذا القلق الوجودي من خلال بناء هويات متشظية داخل الذات الواحدة، في حين لامسه فالزير عبر تذويب الذات في العالم الخارجي، حيث يتماهى الفرد مع هشاشة الوجود ذاته.  وإذا كانا لم تجمعهما معرفة شخصية ولم ينتميا إلى السياق نفسه، فإن أعمالهما تنبض بإحساس مشترك بالانكسار الداخلي، وتجسّد الأدب عندهما كمرآة لانهيارات الذات في عالم يفتقر إلى اليقين، وكمجال فني يستوعب القلق العابر للثقافات والأزمنة دون أن يقدّم حلولًا نهائية، مع احتفاظ كل منهما بخصوصيته في التعبير.

فـ”كتاب اللاطمأنينة” لبيسوا ليس مجرد عنوان بل بيان وجودي، يُقرّ بالقلق بوصفه شرطًا للحياة والكتابة، حيث تتبدى الذات باعتبارها مشروع تفكير دائم في هشاشتها. أما فالزير، في أعماله مثل الإخوة طانير ومعهد بنجامينتا واللص، فلا يعلن قلقه صراحةً، بل يعيشه ضمن حركة سرد باهتة وتيه داخلي غير مؤطر بمقولات نظرية. إذا كان بيسوا يُفكر القلق، ففالزير يتنفسه دون الحاجة إلى التنظير له.

من حيث تصور الذات، نجد أن بيسوا ينظر إليها ككيان متصدع، تتوزع عبر أقنعة وأسماء مستعارة. الهوية عنده فسيفساء من الأصوات الداخلية، وكتابته تمثل شكلًا من التحليل النفسي الذاتي المستمر. في المقابل، لا تبدو الذات عند فالزير متصدعة نظريًا، لكنها تتلاشى سرديًا، دون وعي صريح بتمزقها؛ إذ يعيش فالزير تفتت الهوية ببساطة شبه طفولية، إذ لا يبحث عن ذاته، بل يسمح لها أن تذوب في محيط الأشياء.

يمكن اختزال الفرق بينهما بجملتين: بيسوا يقول “أنا آخر، ولكني أعرف ذلك”، بينما فالزير يقول: “أنا لا أحد، لكن لا بأس، سأمشي قليلًا وأكتب عن زهرة.” فكلا الكاتبين كتب من موقع الهامش. غير أن بيسوا مارس الهامش بوصفه عزلة فلسفية يختارها، بينما عاين فالزير الهامش كانتماء جمالي لما هو غُفل ومنسي. في معهد بنجامينتا، يرسم فالزير مكانًا مغلقًا، مدرَسة لتدريب الأفراد على أن يكونوا خدما، في مشهد يشبه الحلم العبثي، حيث يتحول الهامش إلى قدر وجودي لا فكاك منه. وفي اللص، يغدو التيه الداخلي محور السرد، إذ يصبح البطل ظلًا يعبر الحياة كمنفى دائم. لا يكتب فالزير عن العالم، بل يُدخلنا في صميمه، كأننا نغرق في تفاصيله حتى يذوب جزء منا في ذلك العالم الحالم.

عندما نتحدث عن اللغة في أدب بيسوا وفالزير، نجد أن لكل منهما طقوسه الخاصة في التعبير عن القلق الوجودي. اللغة تمثل لدى كل منهما طقسًا مختلفًا من طقوس التلاشي. يكتب بيسوا بلغة فكرية دقيقة، تقيس القلق بمعايير العقل، بينما فالزير ينسج لغته من التعثرات والهمسات والتباطؤ، حتى يكاد النص عنده يتداعى داخل ذاته. يقول بيسوا: “أشعر بأني أنام مستيقظًا”، بينما يعترف فالزير: “إنني لا أنتمي إلى أي شيء، وهذا مريح بشكل ما.” إذ أن اللغة عند بيسوا تبقى عقلانية في جوهرها حتى في قلقها، أما عند فالزير فهي جسد هشّ يذوب داخل نسيج الحكاية.

أما عن الزمن، فهو عند بيسوا حركة دائرية تنغلق على تأمل داخلي لا يكتمل، بينما يتبدى عند فالزير كنزهة بطيئة، لا تتقدم، بل تتوقف عند لحظات عابرة تفتقر إلى الدراما. بيسوا يقاوم الزمن بسلاح الفكر، في حين يتواطأ فالزير معه ببراءة.

أخيرًا، تمثل الكتابة نفسها فعلًا وجوديًا سلبيًا عند كلا الكاتبين، لكنها تأخذ وجهتين متباينتين: بيسوا يكتب ليبني مسافة واعية بينه وبين العالم، أما فالزير فيكتب ليمحو هذه المسافة، وليذوب داخل المشهد حتى يتلاشى أثره. فكلاهما يعارض المعنى المستقر، غير أن بيسوا يُشرّحه بتفكير فلسفي، بينما يكتفي فالزير بأن ينظر إليه مبتسمًا قبل أن يدير وجهه.

في النهاية، قد لا يكون من الإنصاف القول إن أحدهما يشبه الآخر، فكلٌّ منهما خرج من رحم قلقه الخاص، وسلك طريقًا متفرّدًا. لكن المفارقة الجميلة أن كلاهما التقيا، دون أن يدريا، في سردية الإنسان الذي لم يجد له مكانًا في هذا العالم، فراح يصوغ عالمه الهشّ بالكلمات.

 

مقالات من نفس القسم