د. لونيس بن علي*
منذ أن قرأتُ “ماكيت القاهرة” تأكدتُ بأنّ طارق إمام هو كاتب منذور للدهشة؛ ألم تلاحظوا مثلي، أنّ الأدب السردي، قد فقد مع الوقت أحد مقوماته وهو “الدهشة”؟ نقرأ نصوصا، نعثر فيها على كل شيء، قد نتعلم منها، قد تجعلنا نضحك، أو نبكي أو نسخط…لكن النصوص التي تترك أثر الدهشة فينا قليلة، إذ لم نقل أنها نادرة.
في مجموعته القصصية الجديدة “أقاصيص أقصر من أعمار أبطالها” (صدرت عن دار الشروق 2023)، ظل طارق وفيا لهذا الإدهاش، ليكتب بوعي “المفارقة” نصوصا قصصية، تجعلك لا تخرج من قصة وإلا وقد تركت داخلك خرابا ما.
دعونا نتفق حول مسألة فنية، وفي نظرنا هي جوهرية: ما كتبه طارق إمام ليس قصصا بالمعنى الكلاسيكي لفن القصة القصيرة، بل هي لوحات سردية بيكارسكية، جمعت بين تصوير الحالات الإنسانية وبين الحرص على خلق حالات عجائبية بالاستناد إلى آلية المفارقة الفنية.
كنتُ، كقارئ، أقرب إلى الواقف أمام لوحات تشيكلية عجيبة، رسمها فنان متمرد، ألقى بكل جنونه على قماشة اللوحة، ليجد المشاهد/القارئ نفسه أمام طوفان من الرموز، وسيل من الأسئلة التي تبدو مُربكة.
ماذا يقصد بهذه الصورة؟ وماذا عن تلك المفارقة؟
ما هو مؤكد، أنّ طارق إمام قد مارس الكتابة هنا بكثير من جنون الفنان. لا شيء في نصوصه ينتمي إلى العقل أو إلى العقلانية. بل حرص، كما قلتُ في مدخل هذا النص المتردد، على ممارسة الإدهاش.
أليس هذا كافيا ليجعل من تلك النصوص نوافذ على الغرائبي الذي لا نكاد نراه في حياتنا من فرط عقلانيتنا المدعية؟
تتجلى المفارقة في نصوص طارق إمام على صعيد كسر علاقة الكلمات بالأشياء، الأمر الذي سيساهم في وضع التلقي أمام رهانات اللاتوقع. فمن الصعب أن نتوقع شيئا في تلك القصص. وكمال قال إدموند جابيس: “إنّ معنى الكلمات هو معنى مغامرتها” (كتاب الهوامش، ترجمة: رجاء الطالبي).
في قصته (كلانا ضيف الآخر) كتب طارق: “ذات يوم، وأنا في شقتي، جرّبتُ أن أطرق الباب من الداخل.
لدهشتي، فتح أحدهم لي من الخارج، وسألني عمّن أريد” (ص 13).
إننا نرى بأنّ الحدود بين الداخل والخارج تلاشت كلية؛ ففي الوقت الذي ظنّ فيه السارد أنه كان داخل شقته، سيكتشف أنّه كان في الخارج، فبعد أن طرق على باب شقته، وكان داخلها، فتح أحدهم الباب، فأصابته “الدهشة” مثلما ستصيب القارئ أيضا، أنه لم يعد في الداخل. وفي قصة أخرى، تبدو الحياة مجرد “حكاية خرافية”، وأنّ الوعي نفسه ليس أكثر من نبوءات في تلك الحكايات. وهذا التصور، في نظرنا، هو ما حرر مخيلة طارق، ليمارس نزقه الفني بكثير من الحرية واللعب. إنه لا يلعب بنظام اللغة فحسب، لكنه أيضا يلعب بأفق انتظارنا، وفي كل مرة يخرج لنا من قبعته ما هو غير متوقع.
حرص طارق على بناء جُمل سردية مكتفية بذاتها، تشبه إلى حد ما، صيغا سردية لحِكم ما، تصلح للاستعمال الفني، كما تصلح للاستعمال الفلسفي. لنقرأ معا هذه الجملة السردية: “دائما، هناك رجل عجوز، عجوز لدرجة أنّ أحدا لا يُصدّق أنه كان طفلاً يوما ما، وبلا فم، بعد أن سرقت يد قديمة كلماته للأبد”. (ص 23).
وعلى الرغم من أنّ هذه الجملة السردية هي مدخل قصة من صفحة واحدة، فقد كانت بذاتها كافية لتكون قصة متكاملة. لقد دونتُ شخصيا على حاشية القصة هذه الملاحظة: “هذا مدهش!” هي ملاحظة قارئ وجد في هذه الجملة ما أشبع داخله حاجته إلى الدهشة. انظروا كيف صوّر شيخوخة هذا العجوز! هو عجوز كأنّه لم يكن يوما طفلا. وماذا عن عجزه عن الكلام؟ كأنّ يدا سرقت منه كلماته إلى الأبد.
كنتُ مكتفيا بهذه الجملة. أعدتُ قراءتها لأكثر من مرة، بل ودوّنتها في مكان ما، لأنّها تصلح للتعبير عن علاقتنا المرتبكة بالزمن.
مع طارق سنعيد النظر في الكثير من المفاهيم؛ مثلا: ما معنى الإبصار؟ وما معنى العمى؟ إنه ينبهنا إلى أننا لا نرى إلا ما يرانا، أما الأعمى فهو الذي كف العالم عن رؤيته، ليغير العمى، على نحو غير متوقع فاعله. كما أنه سيغير من قوانين الفيزياء؛ ففي قصة الطريق كتب: “كانت قدماي تصغران كلما كبرت، وأحذيتي تتسع، حتى صرت أتجول فيها، ولم أعد بحاجة للطريق” (ص 28).
سيتحول الحذاء إلى الطريق، وتتحول الحركة إلى حركة ثابتة داخل حذاء. إنّ الصورة توحي بوضعنا التاريخي، فالزمن عندنا ليس أكثر من جولة داخل حذاء التاريخ.
في قصص طارق تظهر كوابيس جديدة؛ إحداها أن ترى نفسك في أحلامك نائما، وعندما تستيقظ يأكلك الفضول وأنت تسأل دون جدوى أحلامك في ذلك الحلم. إنه يلقي بحجرة في مياه اللاوعي، مياه داكنة، لا قعر لها، تسكنها الحقائق المستحيلة. من مهام الأدب الصيد في هذه المياه الغامضة، حيث تسكن الأسرار، ومن يدري كم عدد الجثث التي ابتلعتها تلك الأقاصي؟
أمام هذه المشاهد، تستفيق حاسة التأويل عند القارئ. سأتحدث عن نفسي. لم يفارقني سؤال التأويل طيلة رحلتي في هذه النصوص، فلا أنهي نصا إلا وتساءلتُ: ماذا تعني هذه الاستعارة؟ ما الذي تخفيه هذه المفارقة؟ أمضي في القراءة، لكن الشيء المؤكد أنّ التأويل، على حد تعبير اللساني مارك روبنسون يقتضي التأجيل.
المعنى في هذه النصوص ينتمي إلى المستقبل.
لم يكتف طارق إمام بكتابة القصة، بل كتب قصائد الومضة أو الهايكو، بعنوان “هايكو المدينة”. جملة ومضية، مقتصدة. كتب ما يشبه سيرة مدينة حيث البيوت تكبر أكثر من الأطفال، وحيث الحياة هي أن تستأجر من يستأنفها بعد موتك.
في الأخير:
مدهشة هي نصوص صاحب “ماكيت القاهرة”، هذه الرواية التي قهرتني وتحولت إلى عقدة بالنسبة لي، هي نصوص لم تُكتب لقارئ كسول. بل تستدرجه نحو لعبة المعنى، وهي لعبة قوامها المفارقة، وتأجيل التأويل.
نصوص كتبت حالات إنسانية استعارت القصة تارة والهايكو تارة أخرى، قبل أن تعلن في نص من تلك النصوص بأنّ الأدب ليس إلا مسودات قابلة للمراجعة، مفتوحة على الممكن.
……………….
* ناقد وأكاديمي جزائري