أقاصيص

أحمد صلاح سعد

البواخر

على المرفأ وقفنا في زمان بعيد، وكانت أصوات البواخر عالية، والسماء دخانًا داكنًا، وثيابنا تكاد الريح تذهب بها، وحديثنا همس، وأعيننا تقرأ الشفاه. ذكرتني بالأنهار الجميلة وغير الجميلة، فذكرتها بالليالي الهادئة وغير الهادئة، ولاحت من عينيها نظرة عتاب، فاقتربت وضممتها إلى قلبي، ثم أسكنت يدي خصرها، ومددت ذراعيَّ جسرًا يباعد بيني وبينها كما يصل، وإلى عينيها رنوت، وقلت في أسف: أحيانًا لا تُقطع الوعود إلا لتُخلف.

فاعتراها طيف ابتسامة، وردّت وهي ترفع حاجبيها: أحيانًا؟! فأعرضت، وقفزت في الماء، فإذا بي مركب بلا شراع وبلا مسافرين، ينتظر التيار الناجم عن حركة البواخر أن يدفعه، أو الموج أن يسري به إلى حيث يشاء أو يُغرقه.

**

الأمينان

كانا اثنين، وكانت ظهيرة العرس تحتفي بالمباركين. وُكِّل أولهما الوقوف على حلة اللحم المسلوق، ليوزِّع ولا يختلس؛ وذلك لما عُهِد عنه من أمانة وإنصاف. واتُّخِذ لثانيهما مكتب قزم في مكان بارز، رفقة كرسي غير مريح، وأُعطي دفترًا وقلمًا، حتى إذا فضَّ أظرف النقوط سجّل أسماء أصحابها، وكم أهدى كلُّ واحدٍ منهم من مال؛ ليُرَدَّ الواجب في أوانه، وتلك التزكية الرفيعة كانت لما عُرِف عنه من أمانة أيضًا ووفاء.

أخذ الأول يضع –فوق الأرز– في كل صحن كفايته من اللحم قبل أن يُحمَل إلى صاحب نصيبه. أمَّا الثاني فقد أرهقه احتشاد من يودون إعطاءه أظرف النقوط حتى يشاركوا من سبقوهم اللحم الشهي، وما يصحبه من طعام لذيذ، خشية النفاد قبل ارتواء الشهية. ورغم الصداع الذي خلقه صخبهم، ويكاد يفجر رأسه، تناول منهم الأظرف في همة حتى لم يعد أمامه أيُّ نفر.

وتكدس الناس على سطح الأرض المفروشة في انتظار الصحون المزدانة بما لذَّ وطاب، ومن يبلغه الصحن ذو الأهمية الكبرى يأكل ما فيه سريعًا كي يُفسِح مكانًا لغيره. وسارت الأمور بسلاسة، وفي نظام ما، حتى انقطع مجيء الصحون فجأة، فعلا اللغط وازداد. ولمَّا تفقدوا سرَّ الانقطاع المفاجئ اكتشفوا اختفاء وكيل اللحم وموزعه.

صاح بعضٌ: «ربما ذهب إلى بيت الراحة»، وتهامس آخرون: «لا بدَّ أنه سرق اللحم وطار»، ودللوا على قولهم بالحلة التي لا يظهر فيها إلا المرق. وارتأت جماعة أخيرة سؤال الجالس في المكتب عمَّا إذا كان قد رأى من اختفى؛ فمن موضعه يستطيع رؤية الجميع. وقبل أن يصلوه لم يبصروا على كرسي المكتب جالسًا، فعجّلوا الوصول، واندفعوا إلى الدرج يفتشون عمَّا به من مال، فلم يعثروا على ورقة واحدة.

لكن الدفتر الذي يضم أسماء من أهدوا المال وكم أهدوا لم يمسسه زوال، والقلم ممدَّد عن يمينه. ولمَّا فتشوا الدرج الآخر وجدوا الأظرف الفارغة كلها بغير نقصان. فاعترت الحسرة أصحاب العرس، وكسا التعجب وجوه الحضور.

وحين ساقهم الغضب الشامل قلبوا الدنيا بحثًا عمَّن اختفوا، وراحت جهودهم سدى. ولو نظروا في الحلة بتمعن لوجدوا وكيل اللحم يسبح في المرق بعد أن التهم اللحم كله، لكن لم يخطر ببالهم النظر فيها حقًا. ولو استشرفوا السماء لصادفوا كاتب النقوط يطير متخذًا أوراق النقود بساطًا محلِّقًا، لكنهم انشغلوا بتفتيش مرمى النظر الأفقي.

 
أصحاب الدكاكين

بعد عراك خاطف مع قلبي ارتأيت الذهاب لقضاء حاجة لم يصفُ إليها، وجعلت أوسع الخطى لأصل سريعًا قبل حلول الكسل في نفسي. وانهمر المطر من السحاب كأنه المحيط يسقط من السماء، فآويت إلى دكان قريب. قلت لصاحبه: لم تمطر هكذا منذ زمان. فقال: الغيث خير من عند الله.

وحلَّ الصمت ولم ينقطع المطر، فعقدت العزم على السير تحته، وحاول صاحب الدكان ثنيي عن غايتي ففشل. ورحت أقطع الطريق، وكدت أنزلق أكثر من مرة. ولمَّا اشتد الانهمار وأحسست بألم شديد كلما مستني قطرة من ماء السماء احتميت بدكان آخر.

أبصرت القطرات تصهر الأرض، فقلت لصاحب الدكان: أترى ماذا يفعل المطر؟ قال: هو خير من عند الله. لم أعترض، رغم تعجبي وإنكاري، غير أنني لم أعرف كيف أقضي حاجتي أو حتى أرجع إلى منزلي. قال الرجل: لا يأتي الرحمن إلا بالخير.

استوحشت القول المفاجئ، لكنني قلت في نفسي ربما يكون قد لاحظ حيرتي وسخطي، وسمعت قلبي يضحك تشفيًا وسرورًا، فوضعت يدي على صدري كأنما أكمم فاه.

قال الرجل: ربما يدعو المطر الناس إلى الدعاء والتأني. قلت: صدقت. وأتبعت: لكن كيف يعيش الناس والأرض تذوب؟ فقال: هي جروح، والاندمال حق كل جرح. فقلت متجاوزًا الجروح التي تلتهب وتميت: ولكن الأيام تمر بغير رجعة، وليس بالعمر ما يكفي انتظارًا طويلًا. فقال بثقة: استفتِ قلبك، وإن اتبعت هداه لم تمسك النار.

تساءلت في نفسي: ما بال أصحاب الدكاكين؟! وأحسست بقلبي يرقص طربًا لما قال الرجل، فاجتاحتني رغبة في اقتلاعه، غير أنني ركنت إلى التسليم بالحادث، وانتظرت حتى ينهي رقصته علَّه يأمرني بالسير على الحمم.

طال الانتظار، فجلست القرفصاء، ورحت أندب الحظ التعيس، وإذ سئمت جاء صوت الرجل الثاني بقول صاحب الدكان الأول: الغيث خير من عند الله. فالتفت إليه شادهًا، واحتجبت عني الردود، وظللت أنتظر سكون القلب في صمت مريب.

مقالات ذات صلة

أقسام الموقع