أصداء السيرة الذاتية: حوار الظهيرة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

نادين جورديمر

ترجمة وتقديم: عفاف عبد المعطي

جمعهما حرف النون والقارة الإفريقية وجائزة نوبل، هما الكاتبان الكبيران العربي نجيب محفوظ (نوبل 1988) والـ جنوب إفريقية نادين جورديمر (نوبل 1991) يبدو من ظاهر القول أنها غير متواشجين بينما العلاقة بين كتاباتهما ليس بالهيّنة. حيث ظل محفوظ لما يربو عن السبعين عاما يسبر أغوار النفس البشرية وهمّه الاكبر هو وصف الناس ومعيشتهم فى حِقب مصر المتباينة، بينما جورديمر عبرت أيضا الناس فى كتاباتها المختلفة خاصة رائعتها الروائية “شعب يوليو” فكان الفصل العنصري الذي تعرضت له بلادها جنوب إفريقيا هو شغلها الشاغل حيث نشأت في بيئة عايشت الكثير من فترات التفرقة العنصرية التى تؤمن بتفوق العِرق الأبيض على نظيره الأسود عندما كانت الشرطة فى جنوب إفريقيا لا تألوا جهداً فى عمليات المداهمة للسكان السود. هكذا استطاع الكاتبان الكبيران ان يجعلا من كتاباتهما طاقة من النور لمكاشفة كل العَوار الاجتماعى الذى عاشاه فى كلا البلدين؛ نجيب محفوظ فى مصر ونادين جورديمر فى جنوب إفريقيا. لم يكن إعجاب نادين جورديمر بنجيب محفوظ وليد كتابة مقدمتها لأصداء السيرة الذاتية فى طبعتها الإنجليزية التى صدرت عن قسم النشر بالجامعة الأمريكية، لكنه مع بدايات التسعينيات منذ أن انتشرت ترجمات نصوص محفوظ وصارت ذائعة الصيت فضلا عن كتابات المترجمين – خاصة الايرلندي دينيس جونسون ديفيز الذى ظل يترجم نصوص محفوظ منذ الأربعينيات من القرن العشرين- فانهالت نادين تقرا نصوص نجيب حتى تشبعتها وكتبت عن رواية “اولاد حارتنا” كتابها المهم ” الزعبلاوي: الجانب المخفي”، من كتاب الكتابة والوجود، نادين جورديمر. مطبعة جامعة هارفارد، 1995″.

النص

زرت مصر ثلاث مرات في حياتي ولم أقابل نجيب محفوظ قط. في المرتين الأوليين 1954 و1958، لم أسمع عنه أو عن عمله؛ وبحلول المرة الثالثة، عام 1993، كانت جميع أعماله متوفرة في الترجمة الإنجليزية مألوفة جدًا بالنسبة لي، وتم قراءتها في كتابي.

(الزعبلاوي: الجانب المخفي”، من كتاب الكتابة والوجود، نادين جورديمر. مطبعة جامعة هارفارد، 1995)، كجزء من الإنجازات الأدبية العالمية المعاصرة العظيمة. في عام 1993 كنت قد طلبت من مضيفيني الكرماء بالقاهرة أن يرتبوا لي لقاءً مع محفوظ، ولكن في ظل حماستهم للترحيب بي خططوا أن يحدث هذا ضمن تجمع كبير مع كتاب مصريين آخرين، ونجيب محفوظ، بمزاجه وطبيعته الخاصة التي يعيشها في سن الشيخوخة، لا يحضر مثل هذه المناسبات العامة. أيامي في القاهرة كانت قليلة ولم يكن هناك وقت للبحث عن فرصة أخرى. لا يهم. جوهر وجود الكاتب يكمن في نصّه ليس فى شخصه، على الرغم من أن العالم يقدر الأشياء بشكل مختلف، ويفضل رؤية شكل الكاتب على شاشة التلفزيون بدلاً من القراءة حيث يوجد حقًا في كتاباته..

وأنا أميل إلى الاعتقاد بأنه يمكن تطبيق تقييم مماثل على “أصداء السيرة الذاتية” حيث هدية الكاتب لإخوانه من البشر هي مواهبه، فضل الخيال الإبداعي الذي يأتي من حيث لا أحد يعرف أين أو لماذا. شخصية الكاتب هي السفينة. سواء أكان مزينًا بشكل بهيج بنمط حياة مفرط في إدمان الكحول، أو المغامرة، أو التجارب الجنسية، أو ما إذا كان يطارده ما يبدو أنه بلادة يمكن أن يصب محتواه في العمل؛ الحقيقة هناك. (أحيانًا على الرغم من المؤلف تنصب كل رؤاه وتجاربه فى النص). بالطبع هناك استثناءات، لكن بشكل عام فإن كتاب الخيال الذين ينتجون السير/ ذاتية هم أولئك الذين تكون سيرهم الذاتية أفضل من رواياتهم. والذي فيه ما يدل على محدودية مواهبهم. دع كتاب السيرة يتتبعون التسلسل الزمني للحياة منذ ظروف الميلاد حتى القبر المكرم أو المنسي. إن ما أنتجه هذا الامتداد موجود بالفعل، ومتحول، ومتحرر من المكان والزمان.

الأمثلة والأمثال والرموز في “أصداء السيرة الذاتية ” لنجيب محفوظ ليس لها تواريخ دالة. وأتصور أنه لم يكن لديه أي حسابات عندما كتبها. إلا ذهابًا وإيابًا للعقل الذي يخلق وعيه يتوسع حين وينكمش أحيانا، بدلاً من أن يتجول بين الماضي والحاضر، مع مجمل الأحداث التى لا تمثل مجرد ذاكرة. في الواقع، فضلا عن الفكاهة الساخرة التي تومض من خلال العمق في كل تفكيره الفلسفي المطروح فى السيرة. يلتقي محفوظ بالذاكرة المتخمة كشخص ضخم يمتلك معدة بحجم المحيط، وفم يمكن أن يبتلع فيلاً. فسألته بذهول: من أنت يا سيدي؟ فأجاب بدهشة: «أنا النسيان، وكيف نسيتني؟» (قصة النسيان – كتاب أصداء السيرة الذاتية ص14- م) فالكلية هي فهم تجربة الماضي والحاضر كعناصر موجودة في وقت واحد، في إحدى القطع النثرية “حوار الأصيل” – كتاب أصداء السيرة الذاتية ص 72- م) من حياته، لا أعتقد أن أي سيرة ذاتية، مع ما تنطوي عليه من آثار حتمية في تقديم الذات، يمكن أن تضاهي ما لدينا هنا.

إذا لم يكن للمقطع النثري تواريخ، فلكل منها عنوان، وهذه في حد ذاتها ما يمكن أن نسميه جوهر اكتشافات محفوظ في الحياة والتأمل فيها. تظهر شواغله التي تم استكشافها بشكل رائع في رواياته بشكل بيوجرافي تقريبًا (إذا لم يكن هذا تناقضًا لفظيًا غير مقبول!)، الكلمة أو العبارة الوحيدة التي تمثل الأخلاق، والعدالة، والوقت، والدين، والذاكرة، والشهوانية، والجمال، والطموح، والموت، والحرية. ويتم إعادة النظر في كل هذه الأمور من خلال تركيز متغير على مضامينها: التركيز قليلا على ما هو ساخر؛ اتخاذ مسافة متوسطة من الفكاهة والمودة، فتح مجال واسع للتقديس. مدفوعًا بكلماته الخاصة – عنوان آخر “قطار المفاجآت – الأصداء ص 25- م” – أسمح لنفسي بإعادة صياغة ما قلته في مكان آخر – حيث قال محفوظ:” إنه لا يملك سوى رؤية موهبة الكتابة لدى الكُتّاب العظماء والمغامرة مع المجهول أمتع”.

فى نص “أصداء السيرة الذاتية ” فكر محفوظ في كل الاحتمالات الكامنة في الحياة بدلاً من التخلص من هذا أو ذاك من الأفكار، حيث يأتي جمال كتابته من تضارب الاستجابات التي يثيرها في نص “رجل يحجز مقعدًا – الأصداء ص 43- م” عندما تنطلق من إحدى الضواحي حافلة تقل بشراً من الطبقة العاملة وسيارة خاصة تقل أحد الأثرياء إلى محطة مصر في نفس اللحظة، وتصلان في نفس الوقت، فيتصادمان في حادث تصادم يبدو طفيفا لكن الرجل الذي يمر بين الاثنين فيسحق ويموت. “وكان رجل يمر بين السيارتين، وسقط فاقد الحياة، كان يعبر الميدان من أجل حجز مقعد في القطار المتجه إلى صعيد مصر” ص44. عندما يقرأ المرء هذه الجملة الختامية المقتضبة، يظهر العنوان فجأة، من النوع الثقيل، بكل تعقيد المعاني المتنوعة التي قد يحملها. قرأته هكذا: الأغنياء والفقراء يصلون إلى نفس النقطة في مصير الإنسان مهما كانت وسائلهم. حتى الرجل الذي لا يسافر مع أي منهما، ويسعى إلى المرور بينهما، لا يستطيع الهروب؛ لا يمكنك حجز مقعد لدى القَدر. لا مفر من سيطرة الحالة الإنسانية؛ إلى وجهتها النهائية هي الموت.

نجيب محفوظ رجل عجوز، ومن الطبيعي أن يفكر في نهاية المصير الذي لا مفر منه للمؤمنين وغير المؤمنين على حد سواء. لكن أولئك الذين يعرفون كتاباته يعرفون أنه كان يفكر دائمًا في الموت كجزء من الحياة نفسها. نحن جميعًا نتشكل من الهياكل الاجتماعية التي تمثل الممرات التي ننتقل من خلالها، وهي انعكاس لقوة البيروقراطية، والحياة المدنية المصرية كمنظم للوجود وقمة الطموح لمهنة مرموقة، كما قال فاستعارته يجب أن يكون عنوان الموت “حُسن الختام” ص 156. والسؤال الذي تنتهي به القصة الرمزية هو سؤال ربما يطرحه على نفسه الآن، ولكنه فكر في شخصياته الخيالية قبل ذلك بكثير: “لماذا لم تُعد نفسك لذلك، “هل كنت تعلم أنه مصيرك المحتوم؟” ربما قال ذلك، على الرغم من أن نجيب يحرص على تجنب المقابلات و”التفسيرات” لنصوصه التي أثر فيها مارسيل بروست.

“قبيل الفجر” بقليل عبارة عن لقاءات متباينة في سن الشيخوخة، حيث لا يمكن التعرف على بعضنا البعض، الاجتماع الأخير في نهاية لكن المزاج الـ” بروستي” في التعويض بشيء حيوي يغلب. يبقى مما افتقده المرء. في “الموسيقى” يُنسى المغني” الغناء حوار القلوب العاشقة” ص 158، لكن موسيقى التواشيح لا تزال بهجة.

يظهر العمر في زمن محفوظ وفي زمننا نحن أبناء القرن العشرين. أن أخلاقيات السياسة مرتبطة بشكل معقد بأخلاق العلاقات الشخصية في رائعة محفوظ “ثلاثية القاهرة”، وفي بعض أعماله الأقل أهمية. هنا، في “ليلى” (العنوان هو اسم المرأة)، الأخلاق الجنسية هي فرع آخر. “في أيام النضال والأفكار” كانت ليلى امرأة مثيرة للجدل. أحاطت بها “هالة من الجمال والإغراء”، فبينما رآها البعض رائدة متحررة، انتقدها آخرون باعتبارها مجرد امرأة فاسقة وقال أناس: ما هي إلا داعرة. “عندما غربت الشمس وتوارى النضال والأفكار فى الظل. هاجر من هاجر الى دنيا الله الواسعة. وبعد سنوات رجعوا، وكل منهم يتأبط جرة من الذهب وحمولة من سوء السمعة”. ضحكت ليلى ساخرة، وتساءلت: ـ يا ترى ما قولكم اليوم عن الدعارة؟ ص 66 والسؤال الجوهري: متى يصح حال البلاد؟ فيقال: عندما يعتقد أهلها أن نتيجة الجبن أشد كارثية من نتيجة الاستقامة. لكن هذه الحتمية السياسية الأخلاقية ليس من السهل اتباعها. في نزاع سياسي فى قصة “التحدي”: فى غمار جدل سياسي سأل أحد النواب وزيراً: هل تستطيع أن تدلني على شخص طاهر لم يُلوث؟

فأجاب الوزير متحدياً: أليك على سبيل المثال لا الحصر، الأطفال والمعتوهين والمجانين، فالدنيا مازالت بخير ” الأصداء ص 35

ومرة أخرى، تفاجأ مفاجأة محفوظ، فتنتقل من الإدانة اللاذعة إلى ماذا؟ السخرية، بل السخرية الاتهامية من ولأنفسنا؟ أم أن هناك تحديا؟ هو تحدي البقاء، إن لم يكن «حسناً» أخلاقياً، فهو كما عبرت عنه شخصية المحظية في «سؤال وجواب» التي تقول: «كنت أبيع الحب بأرباح وفيرة، فأمسيت أشتريه بخسائر فادحة “. لا حيلة لي مع هذه الدنيا الشريرة الفاتنة” ص 34.” وفي قصة “الخلود” يقول أحد المتسولين والشيوخ المنبوذين والعُمي الذين يتجولون في أعمال محفوظ كإجابة مراوغة للخلاص: “مع غروب كل شمس أندب أيامي الضائعة، وبلداني الذاهبة وآلهتي الغائبة” ص116. إنها صرخة حداد على العالم يطلقها محفوظ هنا؛ ولكنها ليست نقشًا على المرثية، إذ ضدها عنوان الخلود، لا خيار. من “هذه الحياة الشريرة ولكن الرائعة”.

وفي ندوة أعقبت محاضرة ألقيتها عن ثلاثية محفوظ في القاهرة في جامعة هارفارد قبل بضع سنوات، هاجمت بعض الناشطات النسويات تصويره للشخصيات النسائية في الروايات؛ وغضبوا من مشهد أمينة زوجة السيد أحمد عبد الجواد وهي ممنوعة من الخروج من منزل العائلة إلا بصحبة زوجها، وعلى حساب مصير الفتيات في الأسرة المتزوجات من رجال من اختيار عبد الجواد دون أي اهتمام بمشاعرهم، ودون إمكانية وجود واقع بديل مستقل لهنّ. وكان الطلاب على استعداد لإنكار عبقرية الرواية على هذه الأسس. كان محفوظ يروي ظلم أمينة وبناتها كما هو موجود فى الواقع، ولم يكن داعيا ومروجاً له كما فهم البعض.

ونظرًا للأعراف الاجتماعية والجنسية المعقدة، كان أسر الحرملك الذي شوه حياة النساء من أفراد عائلة عبد الجواد احتجاجًا أقوى بكثير من احتجاج أولئك الذين اتهموا محفوظاً بالشوفينية الأدبية

وفي هذا الجمع الحالي للقيم التى بثها محفوظ، تعد المرأة رمزًا ليس فقط للجمال والبهجة في الحياة ولكن أيضًا للانطلاق الروحي. يتم تجسيد هذا وكأنه احتفاء، وليس برعاية الذكور فهى “امرأة عارية مع أزهار رحيق الحياة” التي لديها “قلب موسيقي”. إنه المفهوم البروستي – دعونا نسلم به، حتى لو التقى مصادفة فقط مع مفهوم محفوظ- للحب كألم/فرح، بشكل لا ينفصل، ذلك المفهوك له مرجع محفوظي أوسع كجزء من خيانة الزمن نفسه، ناهيك عن أي عاشق. عند تأمل القصة التي تحمل عنوان “الرحمة” نجد زوجين مُسنين: “لقد جمعهما الحب منذ ثلاثين عامًا خلت، ثم هجرهما مع بقية الآمال” ص 33.

حب العالم، “هذه الحياة الشريرة ولكن الرائعة”، هو الديناميكية التي تظهر لتبرير نفسها باعتبارها ضرورة للمبادئ خاصة الدينية في بعض الأحيان في معارضتها للحياة. إن الطمع في الحياة مقبول عند محفوظ في جميع أعماله؛ والتي، بالطبع، هناك تجاوزات متجاورة فيها باعتبارها عدم إنجاز. ولكن ما أبهج مثل قصة “العريس “، بلا خجل: سألت الشيخ عبد ربه التائه عن مثله الأعلى في من عاشر من الناس، فقال: رجل طيب تجلت كراماته بمثابرته في المداومة على خدمة الناس وذكر الله؛ وفي عيد ميلاده المائة سَكِرَ ورقص وغنى وتزوج من بِكر في العشرين من عمرها، فى ليلة الدخلة جاءت كوكبة من الملائكة فبخرته ببخور من جبل قاف ” الأصداء ص 128».

إن التجرد يمثل خطيئة ضد الحياة. وعندما يقول الراوي للشيخ: “سمعت بعض الناس يتمسكون بحبك الشديد للدنيا”، يجيب الشيخ: “حب الدنيا من علامات الشكر، ودليل الشوق إلى كل جميل”. ومع ذلك، فإن هذا ليس إنكارًا ورديًا لكون الحياة حزينة: “لقد كتب على الإنسان أن يمشي مترنحًا بين اللذة والألم”. موسوم على يد من؟ فهل المسؤولية عن هذا ربما تكون عابرة، كونية وليست دينية؟، إذا جاز للمرء أن يميز مثل هذا التمييز؟ فهناك مسألة الفناء، لأنه لم يتم التعبير في هذه الكتابات الرواقية غير المادية عن أي إيمان بالحياة الآخرة، أو أي رغبة فيها؛ الجنة ليست غاية يكون الوجود الأرضي وسيلة لها. هذه الحياة، عندما يتم استكشافها واحتضانها بشكل كامل ودون خوف من قبل المتشكك فيها اللطيف والساعي العنيد للخلاص فكلمات نجيب محفوظ، تكفي. ويصبح الموت صورة الشيخ عبد ربه التائه الهادئة والرائعة: “ليس بين رفع الخمار عن وجه العروس وإسقاطه على جثتها إلا لحظة مثل نبض القلب”. وبعد هاجس الموت ذات ليلة، كل الشيخ يطلب من الله. بدلاً من الحياة الأبدية، “الرفاهية”، من باب الشفقة على الأشخاص الذين كانوا ينتظرون مساعدتي في اليوم التالي..

إذا لم تكن قبول الحسية بالمعنى الأوسع لجميع أشكالها عنصرًا معارضًا للروحانية، بمعزل عن الروحانية، فهناك في الوقت نفسه انقسام داخل هذا القبول، لأن الحياة نفسها ينظر إليها محفوظ على أنها توتر إبداعي بين الرغبات والمبادئ الأخلاقية. فمن ناحية، الشهوانية هي روح الحياة، قوة الحياة؛ ومن ناحية أخرى، فإن الامتناع عن ممارسة الجنس هو الشرط المطلوب لبلوغ الروحانية. قال الشيخ عبد ربه التائه:” لقد تح بابا اللانهائية عندما قال:” أفلا تعقلون”؟ الأصداء ص 140.

يُقال أن محفوظً تأثر بالصوفية. معرفتي بالصوفية سطحية للغاية، تقتصر على فهم أن معتقدها المركزي هو أن الاستيقاظ للحياة الداخلية للإنسان هو شرطك الضروري للوفاء كإنسان، في حين أن الحقائق الخارجية والداخلية لا يمكن فصلها. القراء مثلي قد يستقبلوا الصوفية من خلال نقل محفوظ لها، كما في السابق، يمكن لأي شخص غير مسيحي أن يتلقى المعتقدات المسيحية في الأفكار: من خلال الكاتب الفرنسي “باسكال”. (وبالمناسبة، هناك اتصال مباشر هناك، بين طريقي الصوفية والمسيحية. حسب باسكال: “لكي تحصل على شيء من الله، لا بد من ربط الظاهر بالباطن”.) الإيمان مهما كان مذهبه، يأخذ ملامح الظروف الفردية والخبرة والتأمل في تلك الصفات الخاصة بالملتزم. ولذلك يمكننا أن نأخذ تجليات الفلسفة الدينية الصوفية التي يمكن تمييزها في فكر محفوظ على أنها من المرجح أن تكون مرتبطة بمعرفة خاصة به، أصلية وليست عقائدية. بالتأكيد ليس هناك بدعة في هذا؛ الاحتفال الوحيد بالإبداع الفائض والذكاء المتألق المطبق على مبادئ ما يجب أن يؤخذ على الإيمان.

إذا أردنا أن نأخذ قراءة نهائية لمكانة محفوظ فيما يتعلق بالإيمان، أعتقد أننا يجب أن نتذكر ما أعلنته شخصيته الأكثر براعة، كمال، في ثلاثية القاهرة: “لم يتم تحديد اختيار الدين بعد. العزاء الكبير الذي لديَّ هو أن الأمر لم ينته بعد”. الحياة بالنسبة لمحفوظ هي بحث يجب على المرء أن يجد فيه علاماته الخاصة. ونص هذه القصة هو “الزعبلاوي”. عندما يذهب الرجل المريض إلى الحج

 عبر القاهرة القديمة لطلب الشفاء من الشيخ الزعبلاوي، كل من يسأله عن الاتجاهات يرسله إلى مكان مختلف. قيل له أخيرًا أنه سيجد القديس (الذي هو أيضًا فاسق: انظر الوحدة في الانقسام بين الأيمان المضمر والالحاد الظاهر مرة أخرى) في الحانة، وينام الرجل المتعب في انتظار ظهوره. وعندما يستيقظ يجد رأسه مبللاً. يخبره الشاربون أن الزعبلاوي جاء وهو نائم ورش عليه الماء لينعشه. وبعد أن ظهرت له هذه العلامة على وجود الزعبلاوي، سيواصل الرجل البحث عنه طوال حياته – “نعم، يجب أن أجد الزعبلاوي”.

النصف الثاني من النثر في المجموعة الحالية (أصداء السيرة الذاتية) مخصص لأقوال وتجارب شيخ آخر، وهو عبد ربه التائه، والذي ربما يكون المتحدث الرسمي باسمه هو رفيق نجيب محفوظ المتخيل لبعض الحكماء القديسين في التاريخ الصوفي. مثل رابعة العدوية من البصرة، والإمام جنيد البغدادي من بلاد فارس، وخواجة معين الدين تشيستي من الهند، والشيخ مظفر من إسطنبول. وهو أيضاً بالتأكيد الزعبلاوي، وأخ كل الرحالة الآخرين الذين يظهرون ويختفون ليثيروا الشوق إلى المعنى والخلاص في شوارع محفوظ وأعماله، مقدمين ومسحبين شذرات من الإجابة عن سر الوجود، والهداية. حول كيفية العيش بشكل جيد. هذا الشخص، عندما ظهر لأول مرة في حي القاهرة الذي اخترعته دفاتر محفوظ، سُمع وهو ينادي: “لقد ولد الضال أيها الرفقاء الطيبون”. جوهر تعليم هذا الشخص الضال هو في رده على الراوي، كل إنسان، وليس محفوظ، الذي يدعي الانضمام إلى كهف أتباع الشيخ الأفلاطوني، “لقد سئمت من العالم وأرغب في الهروب منه” “. ويقول الشيخ: “حب الدنيا جوهر أُخوتنا وعدونا الفرار” ” إذا أحببت الدنيا بصدق؛ أحبتك الأخرة بجدارة” و”كما تحب تكون” ومن أقوال الشيخ: “كُتب على الانسان أن يسير مترنحاً بين اللذة والألم” الأصداء ص 151 و”أقرب ما يكون الإنسان من ربه وهو يمارس حريته بشكل صحيح”.

تدور العديد من أمثال محفوظ حول تعنت السلطة واليأس من مجرد التماس قوى القمع للرحمة. مع قصة “بعد خروجك من السجن” المدمرة (غص البهو بطلاب الحاجات، جلسنا نتبادل النظر في قلق، ونمد البصر الى الباب العالي المُفضي الى الداخل المغطى بجناحي ستارة عملاقة خضراء. متى يبتسم الحظ ويجيء دوري؟ متى أُدعى إلى المقابلة فأعرض حاجتي وأتلقى الرجاء؟ الباب مفتوح لا يصد قاصد، ولكن لا يفوز باللقاء إلا أصحاب الحظوظ” (الأصداء ص 83-م)، هنا لا يمكن للمرء تجنب المقارنة مع كافكا، على الرغم من أنني حاولت القيام بذلك منذ أن تم استدعاء كافكا فى كتابات محفوظ حيث التضخيم العميق للتذمر ضد الإحباطات التافهة. ردا على سؤال أحد الصحفيين: ما هو الموضوع الأقرب إلى قلبك؟ أعطى محفوظ واحدة من الإجابات النادرة في شخصه: “الحرية. التحرر من الاستعمار، التحرر من الحكم المطلق للملوك، حرية الإنسان الأساسية في سياق المجتمع والأسرة. هذه الأنواع من الحرية تتبع بعضها البعض”. حب الحرية هذا يتنفس من كل سطر في هذا الكتاب (أصداء السيرة الذاتية). إنه مشبع بما أسمته شخصيته كمال (فى الثلاثية): “النضال من أجل الحقيقة الذي يهدف إلى خير البشرية لأن الحياة كلها لن يكون لها معنى بدون ذلك”، ومع التسامح الذي حدده حسين صديق كمال: “إن المؤمن يستمد حبه لهؤلاء للقيم من الدين، بينما الحر يحبها لنفسه”.

مهما كانت فلسفتك الشخصية في التأويل، فمن المستحيل أن تقرأ هذا العمل (أصداء السيرة الذاتية) دون أن تكتسب، بكل سرور وامتنان، تنويرًا من خلال صفة أصبحت تعتبر مفارقة تاريخية غريبة في الوجود الحديث، حيث يُعتقد أن الحقائق المطلقة قد استقرت. بينما أنطق بتردد: الحكمة أن يتدلى أمامنا وهو يلتحف بالغموض. فيظهر أن محفوظ نفسه هو الزعبلاوي..”الزعبلاوي” عبر الزمان

مقالات من نفس القسم