د. يسري عبد الله
ارتبطت الرواية بالمدينة، وبغير المدينة أيضا، فهي تحتفي بالمكان، فتملؤه بناسها وأشيائها، وتمتلئ ببناياته المادية، وتأثيراته النفسية داخل شخوصها المحملين بمأساة فضاء متغير، يرتبط بالزمن وتحولاته، وبالبشر وتغيراتهم. وفي رواية المصري أشرف الصباغ “كائنات الليل والنهار” (دار العين)، تحضر القاهرة التي لا تنام، مدينة فتية وواهنة، شابة ومتهالكة، في الآن نفسه.
يتسرب عنوان الرواية عبر التقديمة الدرامية التي يمهد بها الكاتب لحدثه الروائي في المفتتح، حيث ثمة جملة مركزية تنبئ عن السكون الذي يسبق الصخب المتتابع: “بحلول الساعة الثالثة أو الرابعة فجرا تتوقف عقارب الساعات لأربعين دقيقة وربما لساعة كاملة، إلى أن تبدأ الحركة تدب في هذا الجسد المتهالك لأحياء تلك المدينة العجوز”. (ص5).
حركة متواترة تملأ المكان، تغفو فيها الكائنات ساعة واحدة لتعود إلى الحياة بأسرع مما كانت، شغف مستمر بمعانقة الحياة وخيباتها، بأمكنتها المعبرة عن تفاوتات طبقية وتمايزات اجتماعية ( حي بولاق أبو العلا/ حي الزمالك).
تفكيك
ثمة نزوع مستمر إلى مقاربة العالم عبر زاوية التفكيك للمستقر، كما تحتفي الرواية كثيرا بتلك الحركة الخارجية للشخوص المعبأ بهم المكان، والذين يمثلون ظله الحي، وتصبح علاقة الشخصية الروائية بالمكان من أهم ملامح “كائنات الليل والنهار”، سواء عبر الشخصية المركزية في الرواية (عاشور)، أو غيره من الشخوص المرتبطين معه في شبكة العلاقات الاجتماعية.
خمسة عشر مقطعا سردياً تشكل مجمل المتن السردي للرواية، التي تعتمد على تكنيك الوحدات السردية المتصلة/ المنفصلة. فكلّ مقطع/ وحدة سردية يشكل جزءا من المتن السردي، يتجادل أو يتقاطع مع المقطع الذي يسبقه أو يليه، كما يمكنك أن تقرأه بمعزل عن الوحدات الأخرى، في بنية سردية متجانسة، تستمد انفتاحها النصي من سيولة الواقع ذاته، بتناقضاته، وارتباكاته، وعبثتيه اللانهائية.
لم يكن اختفاء عاشور هو الاختفاء الوحيد داخل الرواية، فقد اختفى أيضا معروف الصياد وابنه أنيس، وقد بحثت عنهما نبيلة دون جدوى. فالغياب تعبير عن الحيوات المنسية لبشر يعيشون ويموتون دون أن يتركوا أثرا، وحدهم الذين غابوا هم من شكلوا تاريخ المكان الذي يكتب عنه أشرف الصباغ في نهاية روايته، وأعني المكان “الفنتازي” المغاير عن المكان الواقعي الذي ازدحمت به الرواية، حيث ثمة شجرة تفتح لحاءها ليخرج نور كبير يعمي العيون، كل من يقترب منها يختفي، أو يغيب عن الوعي أو يصاب بالجنون حتى الموت، وحدهم العشاق والنساء الحوامل والأطفال هم الذين يمكنهم الاقتراب منها ولمسها.
أما الشجرة التي تلوح في نهاية الرواية فقد جلبها الجد الأكبر للصياد الطيب (معروف)، ومن بعده كانت طرفا في حكاية عاشور الذي غاب، ليتوزع النص إذن بين جدل الحضور والغياب، مثلما تتقاطع مساحات الماضي والحاضر.
تحولات
ثمة تيمة مركزية تهيمن على فضاء الرواية، أسميها بتحولات المكان/ تحولات البشر، حيث تتجادل حركة الشخصية الروائية مع تحولات الفضاء المكاني، ويتجلى هذا على نحو بارز عبر شخصية الخالة زينب التي تملك طرف الحكاية عن الناس والأمكنة في نص مكثف ينهض على تفعيل إجراءات الحذف السردي، وليس الاستطراد المجاني والترهل في البناء.
تتعدد الفضاءات المكانية في “كائنات الليل والنهار”، فتتجاوز حيّز المقابلة بين أحياء فقيرة، وأخرى غنية، أو أمكنة راقية، وأخرى عشوائية، ويلعب الكاتب أحيانا في مساحات الأماكن الواقعة على تخوم العوالم القارّة والفضاءات الشهيرة، ممارساً لعباً مع المكان الروائي بتحولاته الاجتماعية وانعكاساته النفسية.
ربما كانت نهايات بعض المقاطع بحاجة إلى اعتناء جمالي أشد، خاصة مع جدل الاتصال/ الانفصال المهيمن على علاقة المقاطع السردية بعضها ببعض، وأحيل مثلا إلى نهاية المقطع الثالث من الرواية.
تتيح الرؤية من الداخل التي توافرت للسارد الرئيسي هنا قدرا من التأمل والتفكيك للمكان، وتبدو الأمكنة علامة على فضاءات المعنى الاجتماعي وقواه المتعددة (بولاق ابو العلا/الوايلي/ الزمالك/ مصرالجديدة)، في رواية تجدل بين السياسي والثقافي، وتدرك بيئة النص ومحيطه الاجتماعي المتخم بالتحولات المستمرة.
ثمة نزوع إيروتيكي، يوظفه الكاتب في متن السرد، ويرتبط في معظمه بالشخصيات الأكثر هامشية. وتلعب الحوارات السردية دورا في الكشف عما تحت القشرة الخارجية للواقع، ويعد الحوار هنا أحد أبرز متممات البنية السردية، وتضفي اللغة المحكية (العامية المصرية) ليونةً على الحدث الروائي. ويتجلى حس ساخر في الرواية، عبر الحكايات الفرعية التي تخص “فهيم” و”فرغلي”، وشخوصا آخرين.
تنهض الرواية أيضا على تقنية “الأوتشرك” أو الريبورتاج الدرامي، حيث ثمة مسرحة للحياة الاجتماعية المصرية في أعقاب 2011، ورصد تفاعلات اللحظة السياسية وتجلياتها في الواقع اليومي للمصريين، وتمثل النزعة التسجيلية المهيمنة على بعض المقاطع، خاصة التي تدون تاريخ المكان أو تشير إلى الثورة، منحى أساسيا داخل النص، ويتجادل هذا المنحى التسجيلي مع النزعة التخييلية ببعدها الأسطوري ( اختفاء عاشور/ الشجرة العجائبية)، ويشكلان معا جدل التسجيل والتخييل في رواية مغايرة، تكمن جدارتها الحقيقية في تخلصها من الصخب الأيديولوجي الزاعق، وصراخ المباشرة.
…………………..
* جريدة “النهار العربي”، 26 أكتوبر 2020