أشرف الصباغ- وقائع مفجعة في هلوسات أو جنون عاقل

ashraf al sabbagh
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

بيروت (رويترز)

في عمل الكاتب المصري أشرف الصباغ “مقاطع من سيرة أبو الوفا المصري” سخرية مرة و”وقائع” مفجعة من بعض وجوه الحياة الثقافية والفكرية- السياسية لا في مصر فحسب، بل في البلدان العربية التي حمل فيها رجال فكر ومثقفون وصحافيون لواء حركات التغيير لسنوات طويلة.

يكتب الدكتور لأشرف الصباغ بصراحة نفاذة و”واقعية” تسمي الأمور بأسمائها، وينطلق أحيانا من “اليومي” في الحياة “النضالية” في المجالات الثقافية المختلفة، معتمدا لغة تحمل نبض الحياة الفعلية لكن هذه اللغة سرعان ما تنقلنا إلى عوالم شعرية غائمة وموحية.

وما يقوله يرتبط غالبا بالأحلام الخائبة التي تبدو كأنها تحولت إلى كوابيس، وكأن العالم يسير إلى نوع من التحاسد والكذب المنمق والدس والمنفعة.

ويتحول كثير من رجال الفكر والثقافة والصحافة “التغييريين” إلى اشخاص ينطبق عليهم تعبير عربي بليغ هو “الإمَّعات”.

استطاع أشرف الصباغ في تلك “المقاطع” التي شكل مجموعها روايته أن يرسم عالما متغيرا وسط ما يبدو للقارئ بُعَيد شروعه في القراءة أنه مزيج، أو بالأحرى نسيج فيه خيوط من الحلم حينا وما يشبه حالات من السكر حينا آخر، غالبا من “هلوسات” محزنة ممتعة يجعلها تصل إلى قمم عليا فيها قد يصح أن توصف بأنها حالات من الجنون “العاقل” الذي ينفذ مثل “أشعة سينية” إلا أنها تكشف عن بواطن النفوس أكثر من غورها في الأجساد. استطاع الصباغ وبنجاح جارح التقاط نبض مشاعر تمتزج فيها النقمة والشعور بالخيبة والسخرية عند كثير من مثقفي و”تغييري” العالم العربي وربما العالم في شكل عام بعد أن تحول كثير من الثوار التغييريين إلى “أتباع” من نوع أو آخر.

إنه حديث نجد بعض أشكاله وسماته أو بعض جمله وإن باختلاف كبير في الشكل التعبيري الفني عند نجيب محفوظ مثلا في “اللص والكلاب”.

ونجد بعض أصدائه تتردد حاليا في أقوال وكتابات صارت عوضا عن الكلام عما كان يطلق عليه في السياسة تعبير “عرب أمريكا” تتحدث عن مصطلح جديد هو “يساريو أمريكا”.

ويذهب بعضهم ومنهم يساريون في سخريته الشديدة إلى حد استرجاع بعض مصطلحات “الحرب الباردة” بالحديث مثلا عن “يساريي العالم الحر”.

الرواية التي جاءت في 177 صفحة متوسطة القطع صدرت عن مؤسسة ” الدار للنشر والتوزيع” في القاهرة. وهي العمل السابع عشر لأشرف الصباغ بعد ستة عشر كتابا بين قصص وأبحاث تناولت المسرح والفنون التشكيلية والصهيونية، ومنها ترجمات تناولت الأدب والمسرح الروسيين وغير ذلك.

الصفحات الأخيرة من الكتاب أي الواقعة بين الصفحة 137 والصفحة 175 جاء كثير منها أقرب إلى ما يطلق عليه اسم “قصص قصيرة جدا” وقد أوردها الكاتب تحت عنوان “هلوسات”.

القسم الأخير من الإهداء عند الصباغ يكشف بوضوح عن مدى السواد في نظرة الكاتب، إذ يقول “… وإلى إيزيس وآدم لعلهما يدركان حجم الكارثة المقبلة والأمل المؤجل”.

ويبدو أن كثيرا من شخصيات الصباغ هي من “لحم ودم” فعلا، أي أنها إلى حدود متفاوتة إناس حقيقيون. وهنا قد يكون المفجع أشد هولا.

في الرواية مراوحة في الزمان والمكان فعلا أو بالتذكر بين حاضر وأمس هو غالبا عهد الدراسة في روسيا. والمكان إذن هو بين مصر وروسيا. ينقل الكاتب بقدرة بارزة أجواء من وقائع مرة يقدمها لنا مغلفة أو “مهربة” وقد لفها بدثار هو “السكر” فلا يعود القارئ يستطيع التمييز تماما بين سكر فعلي وهلوسة، إذ تضيع الحدود بمكر فني.

ويبدو أن الخيبات ترد بعض الناس إلى عالم من التخيّل والتوهم أو الكذب “الصافي” يعوضون بذلك عن هذه الخيبات.

يقول الصباغ ممهدا لكثير مما سيأتي “للخمر قوانين لا يخالفها إلا الجاحد بالنعمة والناكر للجميل. في رحابها تنكسر حدود الواقع تتمدد مساحات الخيال تنهار كل الأطر والحواجز ويحلق الإنسان في عالم خاص يجب احترامه بصرف النظر عن أي شيء آخر. أنا أحيانا وبعد القنينة الثانية أو الثالثة أحكي عن علاقتي بمديحة كامل وسعاد حسني ويسرا وأحكي بتفصيل عن حادثة لقائي بنجيب محفوظ عندما وجهت إليه نقدا لاذعا ووافقني..”.

يتابع الكاتب بلسان شخصيته هذه وكأنه يقول لنا إننا عندما نفقد تاريخا وأحلاما حقيقية علينا أن نملا الفراغ بتاريخ “بديل” مخترع. الحياة لا تقبل الفراغ خاصة في النفوس.

ونتابع القراءة، إذ يقول “هنا تكون الخمر هي المنقذ. فما تبدعه عن نفسك في جلسة الشراب عليك أن تكرره في الصحو أيضا، لا لكي تؤكده للآخرين ولكن لكي تصدقه أنت نفسك ويصبح جزءا من تاريخك، ثم تاريخك، ثم أنت نفسك”.

وصل البطل إلى هذه النتيجة بعد شرح اختصر فيه الكثير من وقائع الحياة الجديدة “في الآونة الأخيرة ومع انفتاحة موسكو حصل كل منا على عمل محترم في وسائل الإعلام العربية. ولكن لسوء حظي فقد فصلوني سريعا بينما صار الأصدقاء في لمح البصر نجوما في الصحف والتلفزيونات. بل وصار جزء كبير منهم محللين سياسيين متخصصين في علم السياسة والثقافة والقانون الدولي واللاهوت. وبالتالي كان لا بد من أن يصنع كل واحد لنفسه سيرة ذاتية جديدة مطعمة ببعض بنود النضال ضد الإمبريالية والاستعمار..”.

ويتحول عالم هؤلاء الناس إلى عالم من “الخناجر” في صور ألسنة نهاشة وخطط تجعل من الناس أشبه بأكلة لحوم بشرية كل منهم يتسابق إلى لحم الآخر.

يسود الادعاء والكذب والتلون ويطفو على السطح كل أنواع النتاج التافه. يسود التعهر الفكري وينكفئ الأصيل الجيد كأنه غريب في هذا العالم. وربما جاء “الحل” بالانتحار أحيانا. لكن يبدو أنه حتى الموت لا يستطيع أن يمحو شهوة “النهش” الرهيبة هذه.

يكتب أشرف الصباغ ما يضحك وما يبكي وعنده قد تتبادل انواع الضحك والبكاء الأدوار. إنه “جدي” مثل شفرة قاطعة حتى حيث يضحك القارئ. شفرة حادة يحركها الغضب والحزن والقرف. إلا أنه قادر في كل ذلك على شد القارئ اليه وجعله يتابع القراءة بلذة وشغف.

……………….
28 مارس 2008

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم