طاهر البربري*
كيف بالإمكان كتابة شهادة عن كاتب مثل أشرف الصباغ وهو من هؤلاء الذين أدركوا مبكرًا أن الحضور في هامش حقيقي يمكن فيه ممارسة الفعل الإبداعي/ الثقافي/ الحياتي خارج مظلة المؤسسة الثقافية الرسمية لهو أفضل بكثير من بذاءة التنميط تحت وصاية سقفها/أسقفها وفي حضرة أساقفتها وكهنتها وسدنة عرشها الهش فاقد القيمة آسن الغنيمة.
هكذا يبدو لي أشرف الصباغ. كاتب متسق بدرجة مدهشة وملفتة للانتباه مع مشروعه السردي المنفتح على تجربة ممتدة زمانيًا ومكانيًا. فتجربة الكتابة الإبداعية لدى أشرف الصباغ متنوعة الروافد فهي تنطلق مكانيًا من مسقط رأسها في مصر مرورًا بتطورها ونضجها في مطارح حط مختلفة من أهمها موسكو. ولا يخفى على أحد أن هذه التجربة مطعمة أيضا ببيئة شاسعة من المعارف تراوح ما بين العلمي البحت (الفيزياء النظرية والرياضيات) والأدبي بجولاته في أروقة الشعر والسرد والتاريخ والفلسفة وعلم النفس؛ هذا إضافة إلى التواجد في الحياة السياسية المصرية وتحولات وتباينات تجربتها السياسية اليسارية من أواخر الثمانينات من القرن الماضي وحتى الوقت الراهن. وأنا هنا لست بصدد كتابة تأريخية بقدر ما أردت التأسيس لجولة سريعة بين عناصر المشروع السردي لدى أشرف الصباغ. المشروع الذي افتتحه بكتابه القصصي: (قصيدة سرمدية في حانة يزيد بن معاوية)؛ العام 1996، مرورًا بكتاب قصصي آخر تحت عنوان (خرابيش) العام 1997؛ وصولاً إلى أحدث استجاباته الإبداعية في رواية: مراكب الغياب التي صدرت أواخر العام الماضي 2024.
بقدر ما تبدو التجربة ممتدة وعلى قدر كبير من التنوع وتراوح ما بين القصة والرواية والترجمة؛ إلا أنني أرى أن الرواية تعتبر عنصرًا مركزيًا في تجربة أشرف الصباغ الإبداعية؛ فهي مصنع إنتاج العالم كما يراه أشرف الصباغ؛ العالم كما ينبغي أن يكون أو كما لا ينبغي أن يكون. الرواية هي المنبع والمصب. هي التعبير النموذجي عند أشرف الصباغ عن انقلابه على التنميط ورفضه لبذاءة الحضور في المؤسسة. المؤسسة على اتساعها: الاجتماعية، الأكاديمية، الثقافية، السياسية. على سبيل المثال في رواية: “شرطي هو الفرح” نلتقي شخصية يوسف وهنا نقف طويلا مع مؤسسة القرية: وهيئة حضور المرأة والرجل في هذه المؤسسة. وكيف أن الإصرار عن استنساخ الأجيال على هذه النحو التنميطي يبدو مثيرًا للسخرية وساحقًا لفكرة الزمن والتطور والآدمية بالأساس.
لا أدعي أنني في متابعتي لمشروع أشرف الصباغ السردي قد اقتفيت أثر أسئلة يمكن نعتها بالوجودية؛ لكنني أزعم وضع يدي على ما هو أهم من ذلك: ما هي صور وجود الإنسان في هذا المحيط المنهار أو الآخذ في الانهيار. مثلا في رواية مراكب الغياب- والتي ذكرنا آنفًا أنها الاستجابة الإبداعية الأحدث لأشرف الصباغ- يتردد في ذهني سؤال، ليس عن علاقة الإنسان بالوجود ولكن عن علاقة الإنسان بحكايته: من صاحب اليد الطولى في اختيار الآخر: الشخصيات تختار حكايتها/ حكاياتها؟!!! أم أن الحكاية هي السلطة المطلقة التي تصطفي من البشر والأزمنة والأمكنة ما يليق برغبتها في مباشرة مهنتها الاثيرة في تلوين الحياة بأطياف تتلاقى وتتباعد تتآلف وتتنافر بلا كلل في محاولة دائمة لطلاء وجه التاريخ المتخيل والمعيش بتبايناتها اللانهائية؟!! أم انه الراوي هذا الخبيث المتحرش بالمفاهيم؛ القابض على كل شيء والعارف بكل شيء كراوٍ عليم تارة؛ والمنصاع للحياة بأحابيلها وأحاجيها كراوٍ ممسرح تارة أخرى؟!! بهذه التساؤلات المتأرجحة بين سطوة الشكل وليونة المحتوى يمكننا ان نفتح بابا واحد من أبواب كثيرا لقراءة رواية مراكب الغياب. وكما في شرطي هو الفرح نمضي في دهاليز الحكاية بصحبة يوسف فإننا نلتقي في مراكب الغياب شخصية رجب الصافوري؛ وهي شخصية لا تتشكل سرديا باعتبارها مركزية في الرواية من سطرها الاول فحسب؛ بل وتلعب دور البوصلة للمراكب كلها اذ تغدو خماصا وتعود بطانا.
أظن أن أشرف الصباغ عبر تجربته الإبداعية يدرك جيدًا أن العالم تجاوز محطات التجارب العظمى بادعاءاتها وأباطيلها؛ ومن ثم فهو يترك عالمه متأرجحًا ما بين السخرية والغرائبية محاولا الاعتراف بطرق متعددة أن المأساة والملهاة أضحتا من العالم القديم مثلهما مثل البطولة بنمطيتها الدائمة ومفاهيمها البائدة؛ إذ لا بطولة في استمرار التناوب بين الشهيق والزفير لأطول فترة ممكنة على هذه الأرض.
ملبورن 2025
……………
* كاتب ومترجم