أشرف الصباغ.. مدينة لا تعرف الأبواب المغلقة

shaaban youssef
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

شعبان يوسف

الكتابة عن الكاتب والقاص والروائي والمترجم والإعلامي الدكتور أشرف الصباغ، مسألة شديدة الحيرة، ليس لأن الناقد أو الباحث أو القارئ لن يجد ما يقوله عن إبداعات الصباغ العديدة، بل الحيرة تتلخص في أي المجالات يمكن أن يطرقها المرء، خاصة أن كل مجال في تلك الوجبة الدسمة التي وفرها الصباغ للقارئ المصري والعربي، كلها من الأنواع فائقة “الجودة، والنفع”، إذا تعاملنا مع منجزه الكبير والمتعدد بمنطق السلعة النافعة، وهذا المنطق ذاته يغيب عن أذهاننا، ويتعامل معه البعض بنوع من الترفع، لكنني أراه منطقاً سوياً للغاية، وهذه مسألة تحتاج إلى شرح وطرح وقسمة وجمع لا علاقة لنا بها الآن، فنحن في حضرة ذلك المبدع الفنان الانسان أشرف الصباغ الذي قابلته ذات يوم في زمن التسعينات، وكانت سيرته تسبقه، وأقواله “المأثورة” رضي الله عنه والمثقفون المناكفون، يعرفها القاصي والداني من جمهرة شباب المبدعين من كتّاب ومبدعي “وسط البلد”، وكذلك “إيفيهاته” التي يتم تداولها بفرح بينهم.

لا أتذكر متى التقيت به، لأنني عندما التقينا، شعرت بأننا أصدقاء منذ فترة طويلة، بل نعرف بعضنا جيداً، للدرجة التي تجعلنا نتحاور حول شخصيات سياسية معروفة لدينا، ولا حاجة لنا بأن يقول كل منا بأنه شاعر أو قاص أو صحفي، كل تلك المقدمات كانت معروفة سلفاً قبل أن نلتقي، حتى عندما اصطحبني إلى منزله “بيت العائلة”، شعرت وكأنه بيتنا، وكدت أنهض لكي أعد لنفسي الشاي، فلا توجد هناك تلك “الغربة” التي يعرفها “الضيف”، فلست ضيفاً، بل أنني صاحب بيت، كما يشعرك أشرف الصباغ دون أن يقول ذلك.

إذن هذا هو مفتاح أشرف الصباغ، كسر الغربة والافتعال والمسافات المصنوعة بين الناس في أي مكان، إنه مدينة أو قرية، أو حي شعبي بلا أبواب، ولا تذاكر دخول، ولا أي احتياطات من تلك الاحتياطات الحذرة التي يستشعرها كثيرون عند التعرّف على شخص جديد، إنه ببساطة شخص متاح، وتجده أول شخص معك في وقت الشدة، هذه ليست مبالغة، لكنها الحقيقة التي لا يعرفها عنه كثيرون، وربما كانت ومازالت تزعجني، فهو الأقدر في إدارة حوارات انسانية وثقافية واجتماعية مع جميع الأجيال باقتدار، بداية من أستاذنا الراحل الكبير محمود أمين العالم حتى أصغر- عمراً- مبدع يجلس على زهرة البستان، وعادة ما كنا نتحاور في مسألة ما، وكنا أحياناً نخرج عن تلك المسألة، فتجده ينبهك مثل شقيقك الأكبر، رغم أنه الأصغر، ويقول لك: “خش في الموضوع:، أشرف تستطيع بكل أريحية أن تتحمل وضوحه وصراحة منطقه المتعدد الوجوه، فهو ابن بلد بشكل مفرط، ولو سجلنا له حواراً، واستمع له شخص ما لا يعرفه وبعيداً عن وجوده، لن يستطيع تمييزه عن أي شخص يجلس على المقهى في المطرية أو عين شمس الغربية، مفردات من قلب الحارة، وعلى سبيل المثال، ذهبت معه لمناقشة أحد كتبه في القناة الثقافية، عندما كانت في المقطم، وكانت القناة توفر للضيوف “ميكروباص” ينتظرهم عند مبني ماسبيرو، ويذهب بنا إلى هناك، وركبنا الميكروباص، ومعنا ضيوف آخرون، كما كان معنا مذيعات ومعدّات برامج، وكل اثنين أو ثلاثة أفراد راحوا يتحدثون فيما يخصهم، هذا الأمر كان في أواخر التسعينات، وبالتالي أخذنا نتحدث، وكانت نبرة أشرف في الحديث عالية، لدرجة أنه لفت النظر، لم تكن نبرة الصوت وحدها هي التي لفتت الانتباه، ولكن لغة ابن حيّ الوايلي الشعبي هي التي تتنفس في الميكروباص، ليست اللهجة أيضاً، ولكن المفردات التي لا بديل لها، تلك المفردات التي تخدش الأذن، وكنت أحاول تنبيهه، لكنه ليس هنا، هو منشغل بكل تفاصيل ما يقول، وأنا مرتبك وقلقاً من الآنسات حولنا، ولكنني فوجئت بأن الآنسات المؤدبات “فطسانين على روحهم” من الضحك، ويتغامزن في شبه حركات سرية، وأشرف كان سادراً في حديثه دون أن يتوقف عن إرسال لهجته ومفرداته التي لا تعرف التزييف، ولا “الإتيكيت” المبالغ فيه، ورغم أنه كتب القصة والرواية والدراسة والمقال، والشعر الرومانسي، إلا أنك ستشعر أنه مازال يلهو في الشارع والمقهى والحارة.

وكانت الأقدار تخبئ لنا حدثاً مشتركاً بيننا، ففي مطلع عام 2000 تلقيت هاتفاً منه، أي من موسكو، وكان والدي قد رحل قبل ذلك بيوم واحد، ولم يكن لدينا فيسبوك ولا كل وسائل التواصل الأوتوماتيكية المسماة بوسائل التواصل الاجتماعي، وخطر على رأسي فور رؤيتي لهاتفه على الموبايل بأنه سيقدم لي العزاء في والدي، واندهشت من كونه علم سريعاً بالوفاة، وبعد السلامات السريعة، أخبرني بأنه سيصل القاهرة غداً، ولم يقدم لي التعزية، فسألته عن تلك الزيارة الطارئة، فوجدته يقول لي بنبرة أسى “أبويا مات”، هنا شعرت بأننا أشقاء بالفعل، وهذا الشعور لم يفارقني حتى الآن، رغم أي ملاحظات يضمر أي شقيق لشقيقه، ملاحظات إيجابية أو سلبية، فنحن- هو وأنا- من جيلين متعاقبين مباشرة، وكل منا يحمل أمراض جيله بكل فخر واعتزاز وأريحية، وجاء أشرف في اليوم الثاني بالفعل، وعشنا مأساة رحيل الوالدين معاً، كأنه أب واحد.

طبعاً كانت تصدمني أفكاره حول شخصيات سياسية مرموقة، ولها أدوار تاريخية في الحركة الوطنية والتقدمية على مدى عقود كثيرة، كنت أنا على علاقة سياسية وفكرية مع بعض من تلك الشخصيات، وكانت بيننا حوارات في السياسة والفكر والتوجه، ولكن أشرف كان على علاقة عمل متنوع بشكل مباشر، واستطاع أن يعرف ويكتشف ما لم أستطع اكتشافه ومعرفته من خلال اللقاءات المكتبية أو التنظيمية، أشرف الصباغ ابن الحارة الشعبية حتى لو لم يكن ابن حارة بشكل عضوي، وابن الشارع المصري بكل محمولاته، تلك المحمولات التي تجلّت بإبداع رائع في كتاباته القصصية والروائية، تلك الإبداعات التي نجد فيها كل التناقضات التي يموج بها الوقع الذي نحياه ونتنفسه، وعندما ترك لي روايته “رياح يناير” لكي ينشرها في سلسلة “كتابات جديدة” التي كان يرأس تحريرها أستاذنا ابراهيم عبد المجيد، وكنت مكلفاً بكتابة تقرير نشر عنها، فتنت بها، رغم أنني وجدت الشارع يضج في الرواية بكل مفرداته ووضوحه وشجاعته وحتى فوضاه، والمدهش أنني اندهشت عندما قرأت له “قصيدة سرمدية في حانة يزيد بن معاوية”، وكان أول كتاب له، اندهشت لأن اللغة مختلفة، والعالم يبدو بعيداً عن أشرف، ولكنه كان مازال في مرحلته الرومانسية التي تبحث عن أبواب وشوارع وأزقة لغوية مناسبة، أشرف لا يهتم ب “الحسوكة”، فالفن لديه دفعة من مياه تتدفق، وهو يبحث لتلك الدفعة أو الدفعات عن قنوات طبيعية لكي تجري فيها، هذا هو أشرف الصباغ باختصار بعيداً عن أي تجميل أو تزويق أو ماكياجات نقدية مستهلكة، أشرف المبدع، هو أشرف الانسان الذي يجلس معنا في الزهرة وفي ريش وفي النادي اليوناني وفي ورشة الزيتون وفي حزب التجمع، أشرف الذي يحنق على المزيفين، ويعشق الصادقين في الأرض، مثل عشقه الذي يصل إلى حد الولاء لناقدة كبيرة هي الأستاذة فريدة النقاش، ويقول: “اختلفوا انتم معاها زي ما انتم عاوزين، لكن أنا باحبها وباحترمها وباقدرها، وليها دور كبير”، أشرف عندما يحب، فهو يقبل بإفراط، وعندما لا يميل إلى شخص، وأحب أن أختار مفردة “لا يميل”، لأنه لا يكره، ولا يعرف للكراهية أبواب، ولكنه عندما لا يميل إلى شخص، يعزف عنه في هدوء، أو صخب، أو صمت تام، أشرف الصباغ “مدينة لا تعرف الأبواب المغلقة”.

 

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم