آية السمالوسي
في المشهد الأدبي العربي، حيث تتزاحم الأصوات وتتكرر الأشكال، يبرز أشرف الصباغ كاسم لا يشبه غيره، وكاتب يمتلك مشروعًا خاصًا يتشكل عبر سنوات من التراكم المعرفي والتجربة الوجودية العميقة. هو أحد أبناء جيل الثمانينيات، الجيل الذي وُضع في قلب تحولات كبرى طالت السياسة والاجتماع والثقافة، والذي كان عليه أن يواجه عالمًا تتشابك فيه الانهيارات بالطموحات، وتتنازع فيه الثوابت مع المتغيرات المتسارعة.
مسيرة الصباغ لا تبدأ من صفحات الأدب، بل من عوالم الفيزياء النظرية والرياضيات، حيث كان العقل مُدرّبًا على الدقة والتحليل. ولكن، كما لو أن ضيق المعادلة لم يعد يكفي لتفسير العالم، انتقل إلى ساحة أخرى من ساحات المعنى، هي الصحافة. ومن قلب الأحداث، كمراسل متنقل في بؤر التوتر، تشكّلت لديه نظرة خاصة للعالم، قوامها الوعي بالتاريخ وهو يُصنع، والناس وهم يعيشون داخل لحظاته الفارقة. فقد غطى الصباغ بصفته الصحفية مراحل مصيرية، من انهيار الاتحاد السوفيتي إلى الانتفاضات والثورات التي اجتاحت العالم العربي، وما بينها من احتجاجات ومشاهد دبلوماسية ومآسي إنسانية شكلت بمجملها خلفية حية وعنيفة لتكوينه الأدبي.
هذا المسار المتعدد، من المعادلة الفيزيائية إلى الصورة الصحفية ثم إلى الجملة الأدبية، منح كتاباته نوعًا من العمق لا يتأتى من مجرد التأمل النظري. فالكاتب الذي جرّب قسوة العالم وملامسته عن قرب، والذي رأى تقلبات الحظوظ السياسية والإنسانية، لا يمكن إلا أن يكتب برؤية نافذة، مفعمة بالتوتر الداخلي، ومشحونة بأسئلة لا تطلب إجابات بقدر ما تستدعي إعادة التفكير.
إن ما يميز تجربة الصباغ الأدبية هو قدرتها المستمرة على التجدد، ورفضها الانصياع لقوالب محددة. ففي كل عمل جديد، يقدم رؤية مختلفة، ويدخل منطقة أدبية جديدة، وكأنه في حوار دائم مع اللغة، ومع الأسلوب، ومع الذات. لا يسعى إلى كتابة مألوفة، بل يغامر في استكشاف حدود اللغة وتجاوزها، في بناء عوالم سردية تتسم بالتماسك الظاهري والتشظي الداخلي في آن.
في نصوصه، يلتقي الواقع بالخيال، والفلسفة بالمفارقة، والعقل بالحس الجمالي. إنه يكتب بوعي نقدي عميق لا يغيب عن أي سطر، لكنه في الوقت ذاته يرفض الاستغراق في التنظير، ويفضّل أن يتسلل إلى قارئه من خلال المفارقة، ومن خلال تصويره للمشهد الحياتي العابر الذي يتحول تحت قلمه إلى رمز متعدّد الدلالات.
السخرية في كتابات الصباغ ليست أداة للتهكم المجاني، بل وسيلة للكشف عن أعطاب الواقع. وهي سخرية لا تكتفي بإضحاك القارئ، بل تترك أثرًا من الحزن الكامن، إذ تشير دائمًا إلى خلل أكبر، إلى مأساة مغلّفة بابتسامة. إنه يستخدمها بوصفها استراتيجية جمالية، وأداة تحليل اجتماعي ونفسي في آن واحد، تُعرّي الخطاب الرسمي، وتفكك التابوهات، وتفتح الباب أمام قراءة أكثر عمقًا للوجود الإنساني.
لا يمكن قراءة نصوص الصباغ دون الانتباه إلى الاقتصاد اللغوي الذي يميّزها. فكل كلمة تأتي في موضعها بدقة، وتحمل أكثر من معنى، وكأن اللغة تحت يده تتحول إلى أداة جراحية دقيقة تفتح الجرح دون ضجيج، وتضع القارئ أمام واقعه بلا تزييف. لا يعتمد على الحشو، ولا يغريه الإطناب، بل يذهب مباشرة إلى لبّ المعنى، مستفيدًا من خلفيته العلمية التي تصقل عباراته وتحكم هندستها.
ولأن تجربته تتقاطع مع الذاكرة الفردية والجماعية، تحتل مسألة المكان والزمان موقعًا أساسيًا في كتاباته. فهو ابن البيئة الشعبية، لكنه لا يقدمها بوصفها خلفية فلكلورية، بل باعتبارها فضاءً معيشًا، له رائحته ولهجته وشخوصه الذين يتحركون على المسرح الروائي لا كمجرد أدوات، بل ككائنات حيّة تمارس فعل الحياة بكل ما فيه من عبث ووجع.
من جهة أخرى، تنفتح كتاباته على الأفق العربي والعالمي، ليس فقط من خلال التفاعل مع القضايا الكبرى، بل عبر انخراطه في الترجمة، وتقديمه لنصوص أدبية وفكرية من لغات وثقافات أخرى. هذا الانفتاح يعكس إيمانه بأن الأدب لا يعيش في عزلة، بل يتغذى من الحوار المستمر مع الآخر، سواء أكان هذا الآخر هو القارئ، أو الثقافة، أو السؤال نفسه.
وربما من أكثر ما يلفت الانتباه في شخصية الصباغ الإبداعية هو تلك العلاقة المعقدة بين الكاتب ونصه. هو لا يكتفي بأن يكون صانعًا للنص، بل يعيش داخله. يُعطي لشخصياته حرية الانفلات من قبضته، ويستجيب لتحولات المزاج والسياق، ما يجعل أعماله مفتوحة دائمًا على احتمالات سردية جديدة. وفي حواراته، يتحدث عن هذه العلاقة بعفوية صادقة، كاشفًا عن طقوسه في الكتابة، عن الأماكن التي يكتب فيها، وعن قناعته بأن ما لا يُكتب هو الأهم، وأن على الكاتب أن يظل دائمًا في حالة صراع مع الرقابة، سواء كانت رقابة السلطة أو رقابة الذات.
من أبرز السمات التي تميز كتابات أشرف الصباغ هي قدرتها على استفزاز القارئ بشكل مقصود، لا بدافع الإثارة العابرة، بل بهدف تحريك ما ترسخ في الأذهان من تصورات جامدة، وإجبار المتلقي على إعادة النظر في المسلّمات. إنه استفزاز فكري “صحي”، أحيانًا يتجلى كصفعة توقظ، وأحيانًا أخرى يبدو وكأنه استفزاز من أجل الاستفزاز ذاته، كأن الكاتب يختبر حدود القارئ ومدى قدرته على التحمّل أو هكذا أظن.
كما لا يمكن تجاهل ما يمكن أن يُصطلح عليه في عالمه الروائي بـ”الواقعية القذرة”، حيث لا يتردد في استخدام لغة حادة أو تعبيرات قد يراها البعض خارجة عن السياق الأدبي التقليدي، لكنها تأتي عنده في مكانها الصحيح: واقعية وصادمة، تحمل من الجرأة بقدر ما تحمل من صدق. تلك اللغة لا تهدف إلى الإهانة أو الإسفاف، بل إلى تكثيف الشعور بالضيق أو الغضب، وربما إثارة نوع من النفور والمناكفة المتعمّدة يدفع إلى التأمل.
في أحيان قد تجاهد لقراءة ما خطه الصباغ علة تجد في النهاية مع يجعلك تصب جم غضبك عليه بما يستحق؛ لكن قد يتغيير ذلك في الختام
حتى على منصاته الرقمية، لا يتوانى عن طرح آراء في قضايا تبدو محسومة أو مغلقة، فيفتحها من جديد بمنطق هادئ، تحليلي، يخالف التيار السائد دون صخب. وقد تكون هذه العقلانية المتطرفة في بعض الأحيان مدعاة للضيق، خاصة لأولئك الذين يفضّلون الطمأنينة الفكرية على المواجهة.
وربما تكون تجاربه المتعددة في مناطق الصراع والحروب قد شكّلت فيه حساسية مختلفة، بل نوعًا من الجفاف العاطفي أحيانًا، والحيادية المملة يجعله يبدو، في تعبير شعبي صادق، ” مَلُوش مَلَكة”. ومع ذلك، فإن عناده في التمسك بآرائه، وسخريته المبطنة من المواقف المخالفة، تأتي غالبًا مشفوعة بخفة ظل تجعله قريبًا، رغم كل شيء، حتى من أولئك الذين يختلفون معه.
هذا الملف هو دعوة لاكتشاف هذا المشروع الأدبي المتفرد، لا بوصفه تجربة فردية فحسب، بل باعتباره مرآة لتاريخ كامل من التحولات، ومرصدًا حساسًا لتحولات النفس الإنسانية. ومن خلال الشهادات التي يتضمنها، والقراءات النقدية التي تحلل أعماله، والحوارات التي تكشف عن خلفيات تفكيره، نأمل أن نقدّم صورة متكاملة عن كاتب هو اليوم من أكثر الأصوات الأدبية حاجةً إلى الإصغاء.
يهدف هذا الملف إلى تقديم قراءة شاملة لتجربة الكاتب أشرف الصباغ، أحد أبرز الأصوات الأدبية التي تشكّلت في ظل تحولات كبرى شهدتها مصر والعالم العربي خلال العقود الأخيرة. تتسم تجربته بالثراء والتنوّع، حيث تتداخل فيها خلفيته العلمية، وتجربته الصحفية، مع رؤيته الأدبية الخاصة، لتنتج مشروعًا إبداعيًا متفرّدًا يتجاوز التصنيفات التقليدية.
ومن خلال هذا الملف، نسعى إلى الاقتراب من عالمه، عبر مجموعة من المواد التي تتكامل لتسليط الضوء على مساراته المختلفة، وتشمل:
شهادات من مبدعين ونقاد وأصدقاء: يتناول هذا القسم آراء وانطباعات شخصيات أدبية وثقافية قريبة من الكاتب، تقدم رؤى إنسانية ومهنية تضيء جوانب خفية من مسيرته.
قراءات نقدية: تضم هذه الفقرة تحليلات معمقة لأعماله، تكشف عن أدواته الفنية، وأسلوبه السردي، والمضامين الفكرية التي تنطوي عليها نصوصه.
حوارات مع الكاتب: نعرض في هذا الجزء مجموعة من اللقاءات التي يتحدث فيها أشرف الصباغ عن تجربته، وعلاقته بالكتابة، ورؤيته للأدب ودوره في قراءة الواقع وتجاوزه.