مجدي نصار*
يكتب أشرف الصباغ مثلما يحكي؛ أو لعله يحكي مثلما يكتب. يسرد بالطريقة نفسها التي يتحاور بها ويحلل في المكتوب كما يفعل في الشفاهي. هذه بضاعة الساردين من عينة الصباغ؛ يتعاملون مع العالم كسردية كبرى جامعة تتألف من عدد لا نهائي من السرديات المتجاورة، المتفاعلة والمتداخلة، المتناغمة في لحظة والمتنافرة في لحظة تالية، والتي يراقب بعضها بعضا منتظرا لحظة يشتبك فيها مع غيره. ساردون يمشون على الجمر؛ جمر التأمل والحيرة، جمر الملاحظة والتحليل، جمر الالتباس والارتياب، هم أبناء الأسئلة وصانعوها، يفرون من الأجوبة، وتفر الأجوبة منهم، عيال الشك الذين يرفضون أي انتساب لليقين، لا يعرفون يقينا بعينه، وربما يظنون اليقين وصمة لا ينبغي أن تلتصق بهم. هؤلاء، يتعاملون مع الوجود كمتن كبير مرتبك ومعقد ومع الإنسان كتائه في طريق بلا نهاية ولا دليل، يقدسون الفوضى باعتبارها النظام الوحيد الذي يمكن أن يُستدل عليه كنظام. أشرف، واحد من أولئك الذين يقفون على الحافة بين زمنين، يعرفون أن الدائرة تدور كشرع وكفريضة وأن الأرض لا تكف عن تكرار النسخ البشرية. الصباغ واحد من الممزعين بين عالمين، عاشوا طويلا في الهامش، وغاصوا عميقا في المتن، انجذبوا إلى الأول، وسخروا من الأخير، وانتقدوا الاثنين بشدة لاذعة، أحبوا البساطة ولعنوها، وفتتوا التعقيد وأبدوا اندهاشهم منه جنبا إلى جنب اعترافهم بحتمية وجوده، لا يرفضون شيئا وقد يبدو لك أنهم يرفضون، ولا يقدسون شيئا مهما بدا لك أنهم يفعلون ذلك نحو شىء بعينه. في حياته وفي متونه السردية على السواء، يسير الصباغ في الظلام حاملا ذهنه اليقظ كشعلة، يوجهها للخلف مرة وللأمام مرة، وعلى اليمين تارة وإلى اليسار أخرى، لا ليعمق حيرته ويزيد ارتباكه، إنما ليجذب ذاك نحو هذا، وليقرب تلك من هذه، وليضفر بين فكرة وأخرى، فتخرج سردياته مزيجا من شيئين وأكثر، حالتين في مواجهة، موقفين في مجابهة، شخصيتين في رحلة فيما هما من عالمين لا يلتقيان إلا صدفة. هذه الصدفة المدهشة، تمنح سرد الصباغ مساراته المتفرعة وطبقاته المتراكمة، فهو يحكي، ويصف، ويسأل، ويندهش، ويمتدح ويهاجم، ويجل ويشتم، ويغوص في السخرية في عز الجد، ويطرح سؤالا فلسفيا في عز الهزل، فيصبح الحزن جميلا والفرح مترددا والبوح منظما وحرا في آن. يعيش الصباغ في زمننا ويعيش في الماضي، كأنه هناك وهنا في اللحظة ذاتها، يحاور الجماد كما يحاور الناس، يستنطق الأشياء، يجمع بين لغتين وثقافتين ويمتلك الدراية بمعارف متنوعة، ويضم في نفسه رجلا مصريا عتيدا وغارقا في المحلية إلى جانب رجل إفرنجي يستطيع كالحرباء أن ينفي عن نفسه تلك المحلية، لكنه لا يفعل، يحب الوقوف على الحافة، عين على الهامش وعين على المتن، يد في الشرق ويد في الغرب، قدم في التاريخ وأخرى في الحداثة. يمشي الصباغ في موسكو مشيه في القاهرة، يعرف المصريين كما يعرف نفسه ويعلم عن الاجتماع الروسي ما قد يندهش منه الروس الذين لا يأبهون بما يدور حولهم. هذا هو أشرف، يكتب الفصحى كأنها عامية ويفصِّح العامية كأنها ولدت في المعاجم ولم تنبع من الشارع يوما، يخترق أعتى مروية تاريخية ويمنحها نفحة أدبية وصبغة معاصرة قد توهمك أنه هناك الآن وأن ما يقوله هو الحقيقة التي تدحض كل المرويات السابقة. هو السارد والمحلل والفيلسوف والمترجم والخبير بالسياسة والاجتماع، هو كل هذا وأكثر، في سردياته يختلط الشىء بالنقيض، تمتزج الصورة بالفكرة، ويتحد الذهني بالنفسي، والواقعي بالغرائبي، حتى أن البعض قد يستثقل كل هذا الكم من التحليل والتعليق والتساؤل والتفلسف والإسهاب، لكن الصباغ في نصوصه يسأل داخل الحكاية ويحكي داخل السؤال، يحمل المتلقي على كف الراحة ليخترق به عوالم جديدة، قد تبدو مألوفة، لكنه يقدمها مندهشا ومدهشا، مستكشفا وكاشفا، فينسى القارئ موقفه الذي اتخذه قبل لحظة ليكمل مع الصباغ مشواره وحكايته.