حاوره: الشاعر سمير درويش
أشرف الصباغ شخص استثنائي ومختلف، ودود وصعلوك ومثقف واسع الاطلاع، ساخر وابن نكتة، قريب جدا وبعيد للغاية، يسخر من نفسه ومن كل الناس والأشياء حوله، وفي لحظة تالية يتفلسف ويضع سياقات للحوار ويرتب الأحداث بشكل منطقي ليخرج بنتائج علمية، أشرف الصباغ غير نمطي، يفعل كل شيء وأي شيء حتى منتهاه، بإخلاص نادر وعزيمة لا تلين.
التقيته ونحن طالبان في الجامعة عام 1979 في تبادل أنشطة الأسران كان طالبا في علوم المنوفية، وكنت طالبا في تجارة بنها، ومن اللحظة الأولى انتخبنا بعضنا بعضا لنصبح مقربين بالنظر إلى ما يجمعنا دون رفقائنا من حب للأدب والشعر والقصة والقصيرة، وممارسة أحيانا، ومن الاقتراب من أجواء السياسة كثيرا من مواقع مختلفة وتطورت علاقتنا واستمرت حتى الآن.
أشرف الصباغ رقم مهم في كل المجالات التي خاضها، في كتابة القصة والرواية، والترجمة والإعلام التليفزيوني وملاحقة الأحداث وصنع التقارير، وفي كتابة المقالات السياسية والاجتماعية والثقافية، إنتاجه في أي من هذه المجالات يفوق كثيرين لا يفعلون سوى ما يخص مجالهم الواحد. لهذا يمتلك وجهة نظر ثاقبة علمية في الحياة والناس والسياسة والثقافة، يرى الأمور من منظور عميق، ويرتب الأشياء بالشكل الذي يستنطقها ويجعلها تبدو أوضح.
بعد أن حصل على بكالوريوس العلوم، وعمل لفترة قصيرة صحفيًا في قسم الفن بجريدة المساء، أتته منحة دراسية لدراسة الفيزياء النظرية والرياضيات في موسكو بداية تسعينيات القرن العشرين، فحصل على ماجستير في الفيزياء النظرية والرياضيات 1990 في كلية الفيزياء جامعة موسكو الحكومية، ومن نفس الكلية والجامعة حصل على دبلوم اللغة الروسية (تعليم وترجمة) عام 1991، ثم الدكتوراة في الفيزياء النظرية والرياضيات 1993.
أصدر أشرف الصباغ سبع مجموعات قصصية: قصيدة سرمدية في حانة يزيد بن معاوية 1996، خرابيش 1997، العطش 1997 طبعة ثانية 1999، صمت العصافير العاصية 2014، أبواب مادلين 2022، حبيبتي طبيبة العيون السيريالية 2022، وأول فيصل 2023.. كما أصدر أربع روايات: مقاطع من سيرة أبو الوفا المصري 2006، رياح يناير 2014، شرطي هو الفرح 2017، وكائنات الليل والنهار 2019.
وله ترجمات عديدة من الروسية: نتاشا العجوز / قصص فالنتين راسبوتين 1998، الابتزاز الصهيوني والهم الإنساني 1999، الفنون التشكيلية في مصر 2000، السرد والمسرح 2000، المهلة الأخيرة رواية فالنتين راسبوتين 2010، جوانب أخرى من حياتهم (إعداد وتقديم) 2000 ميلان كونديرا 2002، تقديم الباحث التشيكي فرانتشيك أوندراش، الأدب الروسي في السنوات العشر الأخيرة 2002، الوصية السياسية أفكار بليخانوف الأخيرة 2010، في المستشفى (قصة للكاتب الروسي فالنتين راسبوتين) 2010، مختارات من الأدب الروسي المعاصر والحديث 2012، بوشكين حياته ومصرعه 2015، تشيخوف بين روتشيلد والخال فانيا 2016، مجالات / نص مسرحي 2017، كيف تحب وطنًا فلسفة وفكر (أوكسانا تيموفيفا) 2021.
وفي السياسة له أربعة كتب: المسرح الروسي بعد الانهيار 1999، غواية إسرائيل: الصهيونية وانهيار الاتحاد السوفيتي 2000، 10 سنوات على انهيار الاتحاد السوفيتي 2001، والدروس المستفادة من الثورة الروسية 2012.
بعض الأصدقاء الذين لا أشك لحظة واحدة في إخلاصهم ووطنيتهم، أعلنوا مؤخرًا ندمهم على المشاركة في 25 يناير 2011، و30 يونيو 2013، بالنظر إلى التدهور الكبير الذي حدث في مصر بعد هذين الحدثين على جميع الأصعدة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية.. هل تشاركهم هذا الندم؟ وما تقييمك للحدثين بعد هذه الفترة؟
– أعتقد أن الندم ناتج عن الغضب والإحساس بالخديعة والخذلان، وليس إطلاقا بسبب انتصار الثورة المضادة، وإلا سيكون الأصدقاء في هذه الحالة بعيدين تماما عن الفهم الصحيح لمسار الثورات وتموجاتها وتقدمها وتراجعها وتراكماتها. أنا لا أشارك أحدا الندم، لأن ما حدث في 25 يناير 2011 كانت نتيجة طبيعية وبديهية ومنطقية لسنوات من الانهيار أصابت البلاد بالتجريف ودمرت عقل المواطن ومستقبله، وساهمت في تكريس المزيد من الماضوية والغيبية وتعميق حدة الجهل والفقر. أما كيف تم دفع الثورة في اتجاه آخر، وعدم ولاء بعض الكتل المشاركة واختلاف أهدافها ومناوراتها غير الثورية، وقوة الدولة العميقة، وغياب القيادة أو القيادات الصلبة والمتمرسة في العملين السياسي والجماهيري، فهذه كلها أسئلة تحتاج إلى عدة كتب ومؤلفات لتفسيرها وتحديد سياقاتها وفاعليتها وتأثيرها، واستخلاص الدروس والعبر.
ثورة 25 يناير ستبقى حدثا حيا وحيويا في تاريخ مصر حتى لو تم تغيير أشكال وأسماء كل الشوارع والميادين التي شهدت على هذا الحدث المهم في تاريخ مصر الحديث، وحتى لو تم تغييب أسماء الشهداء، وتهميش وتغييب الذين شاركوا فيها والانتقام منهم وتدمير مستقبلهم. إن غياب القيادات والمنهج والبرنامج، وعدم القدرة على الحركة بعيدا عن النظام القديم بكل تفرعاته، وتغلغل الدولة العميقة ليس فقط في المؤسسات وفي صلب حدث الثورة، بل وأيضا في العقل الجمعي وفي أوساط المثقفين والنخب السياسية، ومحاولات توجيه الحدث في اتجاه تغيير هوية الدولة، بدلا من بناء دولة حديثة ومعاصرة.. كل ذلك ساهم في عملية خلط شديدة الوطأة وغير مسبوقة. وكان من الطبيعي أن يحدث ما حدث في 30 يونيو، وأن تتمكن الثورة المضادة من السيطرة على الوضع بكل الطرق الممكنة، والتي لا تزال مستمرة إلى الآن.
إن آخر مرة شهد فيها المصريون هبات شعبية واسعة قبل أحداث 25 يناير، كانت قبلها بـ 34 عاما، في 18 و19 يناير 1977. أي أننا هنا أمام كارثة تاريخية، لأن بعض أسباب هبة 77 كانت موجودة ضمن أسباب هبة 2011. ما يعني أن الأوضاع سيئة للغاية، وأن لا شيء يتغير، وأن كل التغيرات والتحولات في كل المجالات تجري انطلاقا من احتياجات المؤسسة العسكرية حصرا، ووفق رغبات ومصالح جماعات المصالح واللوبيات ومنظومة البيزنس المتخلفة برجال أعمالها وعصاباتها قصيرة النظر.
في نهاية المطاف. لا ندم، ولا حاجة لأحد بالندم. هناك غضب وخذلان وإحساس بالخديعة. وهذه إحدى مهام الثورة المضادة بآلتها الإعلامية ومنظومتها الإدارية وإجراءاتها “القانونية” غير الدستورية، ومناوراتها اللا إنسانية وأدوات انتقامها وتصفية حساباتها. ولكن من جهة أخرى، هناك الوقت والزمن وتوالي الأجيال واختلاف الأدوات والوسائل.
في حوار مع واحد من أساتذة السياسة والاقتصاد، قال لي إن المفكرين الفرنسيين الذين دعوا إلى الثورة في نهاية القرن الثامن عشر، تراجعوا عن تأييدهم لها بعد أن رأوا دماء الناس تهدر في الشوارع، وجثثهم تعلق على المقاصل.. هل ثمة سبيل للتغيير في الدول التي تسميها “دول الغبار البشري” غير الثورة بكل مآسيها؟
– لا شك أن الثورات، سواء نجحت أو فشلت، تؤدي إلى بحار من الدم، والظلم والتعسف وأكوام الضحايا. حتى ما يسمى بـ “الثورة البيضاء” في مصر عام 1952، والتي يزعم الكثيرون أنها كانت بيضاء لأنها كانت سلمية وبعيدة عن إراقة الدماء، لم تفلت من مصير الثورات الأخرى، من حيث القمع والفساد وتكريس جذور الاستبداد، ومن حيث المعايير المزدوجة وتركيز السلطة في يد المؤسسة العسكرية، وضرب كل مبادئ التحديث الديمقراطي وتقليص مساحة الحريات، والانتقام من أعداء الثورة وقمع الأقليات. فما بالنا بالثورات الفرنسية والروسية مثلا. والذين يندمون بعد رؤية الدماء والضحايا والازدواجية والتطرف في تطبيق القوانين “الثورية” لا مكان لهم في النظام الجديد. وعادة ما يتم تصفيتهم بسرعة، أو عزلهم وتهميشهم حتى النسيان. هناك قوانين ومعايير للثورات. لكن الأهم هو سرعة التعافي، ومحاولات طرح صيغ عقلانية للتعايش في الدولة الواحدة، والسعي لتكريس وتوطين مبادئ الديمقراطية وإشاعة الحريات وضبط الأوضاع الاقتصادية، غير ذلك ستستمر إراقة الدماء وإهدار الموارد وتغييب الحريات ووأد الديمقراطية والمستقبل والمشاركة في الحضارة الحديثة والمعاصرة. وهذا الكلام ينطبق على الثورات والثورات المضادة..
أما سؤالك بشأن “هل ثمة سبيل للتغيير في الدول التي تسميها “دول الغبار البشري” غير الثورة بكل مآسيها؟”، فهو سؤال صعب ومتعدد المستويات. فدول الغبار البشري في مأزق تاريخي ووجودي وحضاري. وعلى الرغم من ذلك فهناك تجارب نجحت في البرازيل والأرجنتين وأوكرانيا وجورجيا ومولدوفا. وكان من الممكن أن تنجح تجربة قيرغيزستان التي بدأت في عام 2010، ولكن للأسف لم تستمر إلا عامين فقط، وتم وأدها، لأن روسيا لم تكن راضية عن إقامة أي كيانات ديمقراطية بالقرب منها أو في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق التي لا تزال تعتبرها موسكو حدائق خلفية لها ومناطق نفوذ تاريخية.
وعلى الرغم من نجاح بعض نماذج دول الغبار البشري، إلا أن غالبيتها ترزح تحت وطأة الجهل والفقر من جهة، والقمع والاستبداد من جهة أخرى، وتحت وطأة التخلف العلمي والتقني وعدم المشاركة في أي منجز للحضارة المعاصرة من جهة ثالثة. وبالتالي، فليس من المستبعد أبدا أن تحدث فيها هبات عشوائية، أو احتجاجات فئوية، أو تمردات جزئية وموضعية. وفي كل الأحوال لن يصل إلى السلطة، أو بالأحرى لن يبقى في السلطة إلا النظام القديم أو أحد أذرعه. للأسف الشديد، دول وشعوب الغبار البشري تتحول تدريجيا إلى عبيد و”نوع بشري من الدرجة الثانية والثالثة” في الحضارات المقبلة. وذلك بسبب إصرار الأنظمة الحاكمة في هذه الدول على السكونية والتحجر، والتمسك بالماضي، وتمجيد الفساد والمعايير المزدوجة، وامتلاك الحقيقة، والتلاعب بالديانات وتعطيل البرلمانات ووسائل الإعلام عن ممارسة أدورها الحقيقية، والتصميم الغريب على نبذ تداول السلطة…
لا أدري، هل ستظل الأمور هكذا إلى أن تتحول دول وشعوب الغبار البشري إلى عبيد للحضارات الأخرى، أم تتحول إلى ديناصورات سرعان ما ستنقرض! إن الأنظمة الآن تستخدم كل منجزات العلم ليس من أجل توطين العلوم في بلادها، وإنما من أجل مراقبة الشعوب وإخضاعها، ومن أجل فرض المزيد من الضرائب، و”الزوغان” من تقديم الخدمات وتحسين الأوضاع التعليمية والطبية. لا أدري، ماذا يمكن أن تفعل شعوب هذه الدول عندما تضيق الأمور بها إلى ذلك الحد الذي لا يمكن أن تجد الأمان ولقمة الخبز والكرامة لها ولأبنائها.. ليس عندي أدنى تصور. ولكن في كل الأحوال، يجب أن تتغير هذه الأوضاع، بأي شكل من الأشكال.. لابد…
بعض الكتاب والمثقفين يقولون إن (الثورة) التي بدأت في يناير 2011 وامتدت حتى 2013، لم تفشل، وأن ما يحدث في مصر الآن من هيمنة “الثورة المضادة”، والتنكيل بجيل كامل شارك في الحراك، أمر طبيعي حدث في كل الثورات العالمية، وأن الحكم على النجاح والفشل سابق لأوانه، لأن الأمور تحتاج إلى وقت أطول لتتضح.. هل تشاركهم هذا الرأي؟ أم ترى –مثل آخرين- أنها فشلت وانتهى الأمر؟
– لا توجد ثورات فاشلة. هناك ثورات لم تتمكن من استكمال مهامها بنتيجة أسباب وعوامل وعناصر معينة. الثورة ليست مجرد “إجراء” يتم اتخاذه في لحظة أو بجرة قلم، وإنما هي “عملية” مستمرة، تتقدم وتتراجع بفعل تلك الأسباب والعوامل والعناصر. إذا فهمنا الثورة بهذا المعنى، سنتأكد أن لا احتجاجات 77 ولا أحداث 2011 كانت فاشلة، أو أنها هُزِمَت ولم تترك نتائج وتراكمات. إن الهزيمة الحقيقية حدثت في مسارات أخرى، مثل انهيار التعليم والصحة، وانهيار المنظومات القانونية والقضائية، وتغييب المؤسسات الرقابية، مثل البرلمان والصحافة والإعلام.. تغييب كل ذلك، وفي الوقت نفسه ترويج لصورة ذهنية بأن لدينا برلمان وإعلام وأننا كنا أول دولة في التاريخ وأن العالم يعيش بفضلنا وفضل علومنا وابتكاراتنا وعزيمة أجدادنا!!! هذه هي الهزائم الحقيقية. أما المخاض الدائم، والعصف وعدم الرضا واستخدام العقل حتى إذا حدثت كبوات أو تراجعات، فهي ليست هزائم وإنما دروس، واستكمال عناصر ومعايير في تلك العملية المستمرة. وبالمناسبة، رواية علاء الأسواني “جمهورية كأن” تتحدث عن “شبه الدولة”، وعن المؤسسات الوهمية، وعن الديمقراطية الغائبة التي و”كأنها موجودة”، عن الدولة التي “وكأنها موجودة”…
بحكم إقامتك في موسكو ما يزيد عن ربع قرن، وحصولك على الدكتوراة في الفيزياء فيها.. ما الذي ينقصنا في مصر لكي نشارك العالم في صنع الحضارة الحديثة والمعاصرة؟
– ينقصنا “العقل”. نحن مغيبون تماما عن العلوم، ومنفصلون تماما عن الواقع، وعن مسارات التاريخ الحديث. نحن في عزلة شبه كاملة عن المشاركة في المنجز العلمي التقني. نحن مجتمعات “دينية” بصرف النظر عن فهمنا الصحيح أو الخاطئ للدين. بمعنى أننا نرتكز على الغيبيات وننطلق منها للنظر إلى العالم وفهمه والتعامل معه. وبالتالي، أعتقد أن السؤال المقابل هو: ماذا لدينا في مصر لكي نتمكن من المشاركة في صنع الحضارة الحديثة والمعاصرة؟!
هناك شبه اتفاق على أن المحاور الخمسة الأساسية للعالم الجديد تتلخص، على الترتيب، في: التقدم العلمي- التقني، والاقتصاد السياسي، بما في ذلك الركيزة الأساسية للاقتصاد الدولي (الشركات متعدية القومية)، والسياسة الدولية، والمجال الجيوسياسي، والأمن الدولي. هذه المحاور الخمسة تمثل الدعائم الأساسية، بما يتفرع عنها من مسارات دقيقة نسبيا، وبناءات رأسية وأفقية وأولويات وقدرة على تبديل الأولويات حسب الطلبين الاجتماعي والسياسي من جهة، وحسب المتطلبات الدولية والإقليمية من جهة أخرى… فماذا لدينا من هذه المعايير والمقومات؟!
كلامي هذا لا علاقة له ببث الإحباط أو بتشويه “سمعة” مصر. إنه كلام واقعي بحاجة ليس إلى مؤتمرات للشباب العالمي، أو حوارات وطنية ولجان شعبية وكل هذا الكلام الفارغ الذي يهدر موارد الدولة ويبدد أموال الضرائب، ويتم استخدامه بأشكال سياسية لتبرير القمع والفساد، وإنما بحاجة إلى خطة عمل إجرائية والبدء بالعمل على أرض الواقع بعيدا عن الفساد والتلاعبات السياسية. إنه خطة للبحث عن عناصر ومقومات بناء الحضارة الحديثة والمعاصرة. لكنني أعتقد أننا سنظل بعيدين عن أي مشاركة طالما تتسيَّد الغيبيات ويشارك الدين في الحكم وفي صياغة العقل، وطالما هناك حضور للقمع والاستبداد والفساد، وطالما هناك غياب مزمن واحتقار للحرية والديمقراطية والإنسان.
بالرغم من حصولك على الدكتوراة في الفيزياء إلا أنك عملت مراسلًا تليفزيونيًّا، ومترجمًا.. لماذا لم تعمل في مجال تخصصك، على الرغم من الندرة في هذا المجال؟
– هذه قصة طويلة ومؤلمة. وهي قصة جيل بالكامل. قصة مرتبطة بالمصائر الفردية، وبالتحولات التاريخية والظروف السياسية العامة. لقد أنهيت الدكتوراه مع انهيار الاتحاد السوفيتي، وانهيار الشعارات والأحلام الكبرى. وفي الحقيقة، فتخصصي على سبيل المثال كان موجودا فقط في جامعة بغداد وفي جامعة الفاتح من سبتمبر. والغريب، أنه مع انهيار الاتحاد السوفيتي، بدأت حرب الخليج وتم تدمير العراق. وقبلها تم ضرب الإمكانيات العلمية للعراق، وتم تجريد ليبيا من أي مقومات علمية وتعليمية في مجال العلوم الطبيعية. طبعا كان من الممكن العودة والعمل مدرسا في الجامعة أو في أي مدرسة أجنبية. ولكن ماذا نفعل إذا كانت المصائر الفردية تتشابك مع التحولات التاريخية والسياسية!!! وأعتقد أن هناك كثيرين غيري حدث معهم ما حدث معي بدرجات مختلفة ومتباينة وربما بتفاصيل أخرى.
في تلك الفترة، فترة تسعينيات القرن العشرين، كانت الأمور سيئة للغاية في روسيا التي كانت على وشك الإفلاس والانهيار والحرب الأهلية. وكان العلماء الروس أنفسهم يهربون إلى الخارج: إلى المانيا وإسرائيل وأمريكا والدول الإسكندنافية. وفي عالمنا العربي، الأمور ليست على ما يرام دائما. لم يكن هناك طريق آخر لمواصلة العمل بالتخصص إلا التوجه إلى أي دولة غربية. ولكن للأسف، لم تكن هناك الإمكانية لذلك، لأسباب شخصية وأسرية. وعدتُ إلى العمل بالصحافة والإعلام والمراسلات الإخبارية، وبدأت بإصدار أولى مجموعاتي القصصية عام 1996 والتي تأخرت كثيرا بسبب سفري ودراستي.
منذ أن قررت ترك مجال التخصص عام 1995، لم أفكر أو أندم، ولم أشغل نفسي بأي أسئلة افتراضية من قبيل، ماذا لو كنت قد بقيت في مجال التخصص؟! لماذا لم أهاجر إلى الغرب لمواصلة العمل بالتخصص؟! ماذا ستفعل الفيزياء بدوني وبدون جهودي الجبارة؟! كل ما هنالك أنني بدأت السير في اتجاه آخر لتلبية احتياجاتي واحتياجات أسرتي حصرا، بعيدا عن الطموحات الكبرى والشعارات الكبرى و”الأوهام” الكبرى، وانا مدرك جيدا أن ما لم أحققه من طموحات وأحلام في مجال العلوم، سيحققه غيري من أي جيل لاحق، سواء في مصر أو في روسيا أو في ألمانيا. هكذا تتحدد المصائر الإنسانية، وتظهر الاختلافات بين مصير إنسان وإنسان آخر. فالمصائر لا تسير على خطوط مستقيمة ولا بأشكال مثالية.. حتى في الروايات والقصص والسينما والمسرح لا يمكن أن نجد مصائر تسير في مسارات أحادية أو ممهدة أو مستقيمة، فما بالنا بالحياة نفسها، وبأبطالها الواقعيين الحقيقيين الذين هم نحن بلحمنا ودمنا وظروفنا وتحولاتنا وتحولات العالم من حولنا.
كمراسل تليفزيوني كنت حاضرًا في معظم النقاط الملتهبة حول العالم، حيث الاضطرابات والمظاهرات والاعتصامات والحروب والمجازر والنيران.. ما الذي تود أن تقوله عن هذا الجنون الذي يصيب الناس؟ وكيف استفدت أنت شخصيًّا من هذا التواجد؟
– ستظل المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات موجودة في كل دول العالم، طالما هناك ظلم وفساد ومحاولات لقمع الناس واقتطاع أجزاء من جهودهم ونتائج أعمالهم. وهذا في الحقيقة أمر رائع ومهم، ويجب أن يبقى، وأن تظل المجتمعات متيقظة لمصالحها، وقادرة على إيقاف عجلة التعسف والغوغائية التي تمارسها الأنظمة السياسية في الشرق أو في الغرب، مع الفارق طبعا. يجب أن تظل هناك عصا مرفوعة دائمة على رؤوس الموظفين الذين يتولون إدارات الدول، وهذه العصا هي القانون والدستور والضمانات اللازمة والكافية لتطبيقهما، وهي كذلك المظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات.
أما الحروب فهي شيء آخر تماما. إنها عدو الحضارة والعلم والتقدم، والضد لإنسانية الإنسان، لأنها تجرد الإنسان من إنسانيته وتحوله إلى وحش ومستبد وكائن عدمي مضر. أنا أدرك أن ما أقوله يبدو “مثاليا” للغاية. وأعرف تماما أن أسباب الحروب لا تزال كما هي منذ الإنسان البدائي الأول: أن يحصل طرف على ما لدى الطرف الآخر تحت مبررات كثيرة، أن يستولى طرف على ما لدى طرف آخر وفق سردية معينة!!! قد تكون أدوات الحرب هي التي اختلفت، وشكل الأسلحة وقدراتها، ووسائل الاتصال والأقمار الصناعية، واستخدام العلوم الطبيعية والاجتماعية. ولكن تبقى طبيعة الحرب وجوهرها: عدو الحضارة والتقدم، والضد لإنسانية الإنسان، مهما كانت المبررات والسرديات. الحرب هي “الجنون”، كما قال الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر في رسالته، عام 1960، إلى رئيس تحرير جريدة “أونيتا” الإيطالية ماريو أليكاتا، بمناسبة الهجوم الكاسح على فيلم “طفولة إيفان” للمخرج الروسي أندريه تاركوفسكي، حيث كيلت له صحافة الأحزاب والتنظيمات الشيوعية آنذاك الاتهامات بالانتهازية والجهل، وتزعم الحزب الشيوعي السوفيتي حملة وضيعة ضد المخرج وضد الفيلم. ولكن سارتر خرج شاهرا سيفه ضد الأحزاب الشيوعية التي تنضوي تحت سقف التحريفية الروسية- السوفيتية، ووضع النقاط على الحروف، ووضعهم بالمرة في أماكنهم التي تليق بهم.
الحرب هي الجنون والوحشية والسلب والنهب، مهما كانت السرديات والتبريرات. وربما كان هذا هو العامل المؤسس لموقفي من النداءات الوحشية التي تصاعدت في السنوات الأخيرة لتوريط جيشنا بشن حرب في ليبيا أو في أثيوبيا. وعادة ما تجد أن أولئك الذين يدعون للحرب، هم أول من لا يذهب إليها، بل وتجد أن أولاده لا يهبون إلى الحرب، أو يذهبون ليعملوا في المكاتب والخطوط الخلفية. هناك طفيليات تدعو دوما لـ “الجنون” وتدفع في اتجاه الحديد والنار، لكنها دوما تناور وتهرب وتفر تحت دعاوى كثيرة من أجل أن تقبض ثمن دماء وأرواح الضحايا، وتظل تستأثر بالسلطة والمال والنفوذ وتورثها أبنائها.
للأسف الشديد، لم يرق تعاملي بعد، مع مادة “الحرب” وتجاربها المختلفة في أكثر من دولة، إلى عمل أدبي كامل. ربما اقتصر الأمر على المقالات والتحليلات السياسية أو التقارير الصحفية والتلفزيونية. وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى موضوع المصائر والظروف. وفي كل الأحوال، وربما من حسن الحظ، أنني لم أفكر يوما في احتراف الأدب أو الكتابة. كل ما هنالك أنني لا أزال أتعامل كهاوٍ ومُجَرِّب. وبالتالي، فأنا أسامح نفسي عندما تفلت مني لحظات أو أحداث ملهمة ومحرضة على الكتابة.
أنت الشاهد الأول والأكثر دراية بالحدث الأبرز على الساحة الدولية الآن، الحرب الروسية الأوكرانية، كيف ترى هذه الحرب بعد مضي هذا الوقت الطويل دون حسم؟ وما توقعك لما سوف تؤول إليه أوضاع التنافس بين رواسيا والغرب؟ هل نحن أمام مستنقع مثل أفغانستان الثمانينيات؟ أم أن روسيا تملك أوراقًا تجعلها تستفيد من الحرب بتعديل موضعها في العالم؟
– نحن الآن في بداية العام الثاني للغزو الروسي لأوكرانيا والذي بدأ في 24 فبراير 2022. وكما قلنا في بداية الغزو، لن يتمكن أي من الطرفين من حسم الحرب على الأرض. ومهما امتلكت روسيا من أسلحة، لن تتمكن من حسم الحرب بانتصار استراتيجي على أوكرانيا رغم الفارق بين البلدين في كل شيء من حيث القدرات العسكرية والتقنية والنووية وحجم الحشود والنفوذ اللوجستي في مجلس الأمن والأمم المتحدة. هل استطاعت الولايات المتحدة ان تحسم الحرب في فيتنام؟! هل استطاعت روسيا- السوفيتية أن تحسم الحرب في أفغانستان؟! هل تمكنت روسيا السوفيتية من إخضاع بولندا أو تشيكوسلوفاكيا أو المجر عندما تدخلت عسكريا بدباباتها في هذه الدول؟!
إن روسيا، ببساطة، تريد أن تحسن شروط تواجدها في المنظومة النيوليبرالية الجديدة، وتسعى لتغيير حجم حصتها في مجالات الأمن الدولي والمال والفضاء. وهي لا تسمح بإقامة أي كيانات ديمقراطية مجاورة لها، لأنها تعرف جيدا مخاطر ذلك على أفكارها القومية، ووضعها كإمبراطورية من إمبراطوريات الأطراف. والسؤال هنا: هل تمتلك روسيا المقومات الكافية واللازمة لتحسين شروط تواجدها في النظام العالمي، وتغيير حجم حصتها في الأمن والاقتصاد والمال والفضاء؟! علما بأن الأسلحة النووية لا يمكن أن تكون كافية لتحقيق ذلك، إلا إذا أرادت النخبة الحاكمة الروسية حرب عالمية ثالثة تستخدم فيها أسلحة الدمار الشامل.
مثل هذه الحروب لا يمكن أن تكون حروب صفرية او هزائم وانتصارات كاملة ونهائية. لا يمكن أن يفكر في ذلك، وبهذه الطريقة، إلا أحمق أو عدمي أو وحش. سيتم إضعاف روسيا تدريجيا، وستظل متأخرة بعدة خطوات عن الغرب في المجالات الأساسية، وعلى رأسها العلوم الدقيقة ومقومات الحضارة الرقمية. وستبقى موردا للخامات (النفط والغاز والأخشاب والحبوب والأسمدة). وفي الحقيقة، فالغرب لم يرغب أبدا في تفتيت روسيا أو هزيمتها هزيمة استراتيجية، وإلا كان قد فعل ذلك عندما كانت روسيا في أضعف وأحط حالاتها بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ولكنه هو بالذات الذي حافظ على وحدة أراضي روسيا وساعدها على الحفاظ على ترسانتها النووية. وما يتردد حاليا على ألسنة المسؤولين الروس وقادة الكرملين بشأن رغبة الغرب في هزيمة روسيا وتفتيتها والقضاء عليها، مجرد سردية للرأي العام الداخلي بالدرجة الأولى، وليتامى وأرامل روسيا والاتحاد السوفيتي لإقناعهم بصحة الغزو ونجاعته.
هناك عدة سرديات أخرى بشأن النازية في أوكرانيا، وبشأن تعدد الأقطاب، وبشأن تحرير أراضي الشعوب السلافية، وبشأن استعادة أملاك الإمبراطورية الروسية، وبشأن حق روسيا في ميراث الإمبراطورية البيزنطية، وبشأن نفوذ روسيا كحضارة “أوراسية”.. كل هذه العناوين يجري تداولها كسردية هشة وغير متماسكة من أجل إقناع العالم بحق روسيا في غزو أوكرانيا. وإذا راجعنا التاريخ واسترجعنا “سرديات” روسيا السوفيتية في غزو المجر وتشيكوسلوفاكيا وأفغانستان، سنكتشف أن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية كانت على رأس هذه السرديات، وسنجد أن القضاء على الإمبريالية والرأسمالية العالمية وبناء المجتمع الشيوعي من ضمن عناصر تلك السرديات.. فماذا حدث بالضبط؟!
عموما، الحرب في أوكرانيا، ستكون حربا طويلة ومرهقة ومكلفة لجميع الأطراف، حتى إذا انتهت العمليات العسكرية المباشرة في الأراضي الأوكرانية. وأشك أن هذه العمليات ستنتهي حتى قبل عامين أو ثلاثة أو خمسة.
منذ التقينا عام 1980 تقريبًا وأنت تكتب القصة القصيرة، بالإضافة إلى كتابة المقالات السياسية والاجتماعية، وعملك الصحفي.. لماذا تأخر حضورك الأدبي مقارنة بأدباء جيلك، ومقارنة بحضورك الفاعل والأبرز كمراسل ومترجم؟
– أنا أعرف أن أربع روايات وسبع مجموعات قصصية على مدى أربعين عاما، شيء محزن للغاية. بل ولا يمكن حتى مقارنته بعدد الترجمات التي قمت بها داخل مصر وخارجها أو الكتب التي تم تأليفها في مجالات أخرى. وبالتالي، فهذا السؤال يستدعي استعراض ظروف وأوضاع جيل الثمانينيات، وحقبة الثمانينيات. ويستدعي أيضا مسألة السفر والتشتت والغياب عن المكان وعن الوسط الأدبي والجماعة الثقافية. كما يستدعي في حقيقة الأمر الحديث عن تركيبة هذه الحركة وتوجهاتها وتواطؤاتها وجهودها وحسناتها وجرائمها ومناوراتها وفسادها.
في الحقيقة، جيل الثمانينيات غائب عن المشهد النقدي المنهجي من جهة، وغائب أيضا عن القارئ من جهة أخرى بحكم الزمن والنقلة التاريخية والاجتماعية والتقنية وبعض الحسابات الأخرى. وربما أيضا بنتيجة عمر هذا الجيل القصير من حيث الفترة الزمنية بين سطوة جيلي الستينيات وهيمنة جيل السبعينيات والهجوم الكاسح لجيل التسعينيات الذي كان مسلحا آنذاك بأدوات أخرى وبأفكار وإمكانيات أخرى تماما، وربما بنتيجة تشتت أسماء هذا الجيل وتباين مصائرها. فهناك من ترك الإبداع ورحل إلى الصحافة، ومن ترك العملية الثقافية كلها وهاجر إلى مكان آخر أو سافر في نفس المكان أو اختفى في الإحباط وقلة الحيلة أو مات. ومن أهم تقاليد الكتابة عند هذا الجيل، هو الاغتراب الداخلي وانعدام اليقين والإحساس المُذل بالغربة من جهة، والثقة في نتائج العملية الإبداعية والكتابة بصرف النظر عن النتائج النهائية، والإقلاع عن تقليد وتقاليد الستينيين والسبعينيين، ومحاولة ابتكار زوايا مختلفة للنظر إلى التفاصيل وإعادة إنتاجها وصياغتها من جهة أخرى. ومع ذلك فلا توجد محاولات لرصد تقاليد الكتابة لدى جيل الثمانينيات، وكأن هناك اتفاقا ضمنيا على تجاهله بمبررات سخيفة ومثيرة للتساؤلات، من قبيل ندرة الإنتاج، أو قلة الأسماء، أو التأثير الأدبي، أو بحجة الغياب والسفر، وصعوبة الإلمام بإنتاج هذا الكاتب أو ذاك أو عدم القدرة على جمع أو تتبع الأعمال…
إن جيل الثمانينيات هو أيضا عدو نفسه. وربما يكون من أحط الأجيال الثقافية والفنية والإبداعية التي وردت على الحركة الثقافية والفنية والفكرية. لم يفلت منه إلا السينمائيون، وعلى رأسهم مجموعة “الواقعية الجديدة”. عدا ذلك فهو جيل يشبه في زئبقيته ونكوصه وبخله وشحه، الشريحة العليا في الطبقة الوسطى المصرية.
الفكرة أن أحد أهم العوامل المشتركة “الجيدة” بين جيلي الستينيات والسبعينيات، هو أنه رغم الشللية والمنفعة وتبادل المصالح، إلا أن هذه الشلل والمجموعات توافقت على صيغة مهمة نافعة تتمحور حول دعم بعضهم البعض، وفتح الطرق أمام بعضهم، وتسويق أعمال بعضهم والترويج لها. وطبعا نحن نتحدث في العموم وفي سياق تيار عام بعيدا عن استثناءات وضغائن معينة أو تهميشات لشخص او اثنين، سواء في جيل الستينيات أو جيل السبعينيات.
كانت الخلافات بين أبناء جيل الستينيات عقائدية وأيديولوجية، ولا نستثني أيضا الخلافات المادية والنفعية المباشرة. ولكنهم كانوا يوسعون الطريق أمام بعضهم، ويتحايلون بطرق معينة للترويج وتبادل المصالح التي تعود بمنفعة عامة على الحركة الثقافية والفنية والفكرية.
أما جيل السبعينيات، فكانت خلافاته تتضمن جزءا أيديولوجيا بعد انهيار الأيديولوجية والأحلام الكبرى وفقدان الثقة في الشعارات الكبرى ولا نستثني أيضا “أموال” الخليج أو أموال منظمة التحرير الفلسطينية والهلال الأحمر الفلسطيني و”فلوس” البعثين السوري والعراقي و”عطايا” القائد معمر القذافي. وكان الصراع متمركزا حول تكوين شلل جديدة، وشغل مناصب في المؤسسة الثقافية وقيادة سلاسل للنشر. وبطبيعة الحال، ساعدهم كل ذلك للترويج لأعمال كل واحد منهم على حدة، وعلى الترويج لأعمال بعضهم البعض وفق أسلوب تبادل المصالح (شَيِّلْني واشَيِّلَك)، وفتح الأبواب أمام بعضهم البعض للنشر هنا وهناك، للحصول على الأموال والحظوة والجوائز.. وهذا بدوره ساهم في تنشيط الحركة الثقافية والفنية والإبداعية بدرجات كبيرة وجيدة على الرغم من المشاكل والصراعات والدناءات الكثيرة التي كانت تحدث
غابت كل هذه التقاليد بحلوها ومرها وسوءاتها عن جيل الثمانينيات الذي يمكن أن نطلق على أبنائه مصطلح “الجزر المنعزلة”. وعادت فقط مع قدوم جيل التسعينيات الذي جاء رافعا سيف التمرد على كل الأجيال السابقة، ومسلحا بمعرفة اللغات الأجنبية والتعليم العالي الجيد والنوعي، وامتلاك الأصول “الأرستقراطية!” والانتماء العرقي لآباء بيولوجيين من إفرازات الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، ما ساعدهم على إزاحة كل ما سبق من تأثير فلول الستينيات والسبعينيات والثمانينيات. وأصلا لم يكن هناك جيل ثمانينيات له ملامح أو تقاليد. كان مجرد “جزر منعزلة” و”جثث حية” وحضور رمادي.. هذا طبعا إضافة إلى امتلاك جيل التسعينيات شعارات وصيغ مختلفة عن النسوية وعن “الصراع بين الرجل والمرأة”، وامتلاك تصورات مغايرة عن الشعارات الكبرى بعيدة تماما عن لغو الأجيال السابقة، وذلك في محاولة للبدء من الصفر على أنقاض أجيال فاشلة من وجهة نظره. ولكن لم يكن يرفض مساعدة أفراد بعينهم من جيلي الستينيات والسبعينيات، ونسج علاقات ذات طبيعة معينة معهم تعود عليه بالمنفعة، سواء في العمل بالجامعات أو في النشر أو في فتح الأبواب.
يبرز جيل الثمانينيات بين هذه الأجيال الثلاثة، مثل “الغراب الأبيض” بفشله ونكوصه وشحه وإحباطاته واغترابه. وحتى عندما ظهر لفلوله وبقاياه بصيص ضوء من أجل الحياة والاستمرار أو لتحصيل بعض المكاسب التافهة، تعامل مع الأمر وكأنه فعلا جيل ثمانينيات ليس لديه أي هدف أو منهج.. تعامل بعشوائية وانعدام ثقة، ولم يكن ير أبعد من أنفه، أو بالأحرى أبعد من الكائنات التي تحاصره وتفرض عليه سطوتها المادية والمعنوية والجسدية.. واتضح أنه جيل محروم من كل شيء، حتى من نظرة حنان أو كلمة امتنان، أو أي تقدير. فراح يبحث عنها بجائزة أو بشهادة تقدير أو بكلمة مدح على السوشيال ميديا. والحديث هنا عن سياق عام وحركة عامة وملامح جيل، وليس عن جهد فردي أو مبادرة شخصية، حتى لا ينزعج أبناء أي جيل من الأجيال المذكورة…
لا شك أن حقبة الثمانينيات شهدت بعض النماذج التي كانت تحاول تقليد نجيب سرور ويحيى الطاهر عبد الله وأمل دنقل على مستوى السلوكيات والتصرفات و”الصعلكة” و”السنكحة”، ولكن هذه النماذج فشلت بامتياز، لا لأنها كانت فاشلة إبداعيا فقط، بل وأيضا لأنها لم تكن نماذج إبداعية أصيلة من حيث مصادر الإبداع وامتلاك الموهبة الحقيقية. كما أنها انطفأت سريعا بفعل تشتيت الطاقة والجهد، وتغير الأوضاع الاجتماعية والثقافية والسياسية، وانحسار المد الثقافي- الفكري- الحضاري، ودخول العالم منذ بداية التسعينيات، أو منذ منتصف التسعينيات، إلى المرحلة الانتقالية التي كانت مقدمة لما نحن فيه الآن.. (لا أملك أي توصيف عقلاني أو موضوعي أو منهجي للمرحلة الحالية)..
ومرة أخرى، أعود إلى جيل التسعينيات الذي ظهر بقوة كالشهاب. وكان ينتمي إلى مشارب متنوعة ومتعددة، وله خلفيات اجتماعية مختلفة تماما عن الأجيال الثلاثة التي سبقته، لأنه كان هناك تيار قد تأسس منذ الخمسينيات. هذا التيار الاجتماعي- السياسي- الثقافي أنجب لنا أبناء وأحفاد، سواء عبر رابطة الدم أو رابطة السياسة أو رابطة الشلل الحزبية والتنظيمية أو رابطة صالونات الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، إضافة إلى أولاد وأحفاد المشاهير والناس المعروفين في مجالات معينة. وظهر جيل التسعينيات من أبناء الشرائح العليا في الطبقة الوسطى ولديهم، ولديهن، رأسمال رمزي من الأب أو الأم أو الانتماء إلى شلة أو مجموعة، أو تم تكوين مجموعات وشلل معينة لديها لغات أجنبية إمكانيات مادية وتعليمية ساعدتها على التمدد في الداخل وفي الخارج. هذا الجيل على الرغم من رفضه كل شيء، وتعاليه على الأجيال التي سبقته، ومحاولة انفصاله، أو بالأحرى محاولته قتل الأب، استطاع أن يستفيد جيدا من علاقاته الشخصية والفردية والسرية من الأجيال التي سبقته عبر علاقات شخصية وجنسية وزوجية واستلطاف ومصالح، وأيضا قدرات إبداعية… وأنتجوا لنا إنتاجا مهما ومتنوعا يحمل قيمة أدبية وفنية وتاريخية تعتبر بحق بداية الموجات الجديدة التي جاءت بعد ذلك. وأنا أقول “بداية الموجات الجديدة”، لأنه إذا دققنا جيدا ونظرنا بمنهجية، سنجد أن أدب التسعينيات يميل من حيث التقاليد إلى أرقى نماذج أدب جيل الثمانينيات إضافة إلى امتلاكه لتقاليده الخاصة أيضا. أما ما جاء بعد جيل التسعينيات، فهذا أمر آخر تماما!
أعتقد أن الحديث عن جيل الثمانينيات ومصيره، قد قدم إجابة معقولة على سؤالك الصعب والموجع. وأنا في الحقيقة، لا أريد التطرق هنا إلى جانب آخر من الصورة الثقافية المظلمة التي تضم شبكة الفساد المرعبة، إذ تجمع بين حركة النشر والجوائز الأدبية والصحافة الثقافية. وهي إحدى أكثر شبكات الفساد في الحركة الثقافية المصرية. ولكن دعنا لا نقترب من أعشاش الدبابير الآن. ربما يأتي الوقت المناسب والمكان المناسب والجيل المناسب لفضح شبكة الفساد هذه، والانتقال إلى مستوى توطين النشر وتدشينه كصناعة وليس كوسيلة للنصب والاحتيال و”الاسترزاق الرخيص” وتكريس الفساد، والمتاجرة برأسمالنا الرمزي وليس استثماره. والأهم هو فصل تلك المسارات الثلاثة: حركة النشر والجوائز والصحافة الثقافية، مثلما نطالب بفصل السلطات في الدولة من أجل المزيد من الشفافية وتقليص رقعة الفساد.
حضورك قوي ولافت على فيس بوك، لدرجة أن لديك القدرة والوقت لتكتب عدة تدوينات طويلة كل يوم، وغالبًا ما تدور حول موضوع واحد، ويختلط فيها الجد بالهزل.. هل فكرت في الاستفادة من هذه الكتابات الغزيرة؟ أم أنها مجرد تفريغ طاقة لا تستهدف من ورائه شيئًا؟
– كلمة “الهزل” تروق لي، لأنها مناسبة لطبيعة “التايم لاين” العربي في الفيسبووك. ويمكن بالطبع استثناء بعض الصفحات الجادة والمهمة، أو الكوميدية الخالصة أو المتخصصة في علوم ومهن ووظائف ما. ولكن أنا أميل إلى الهزل بمعناه الإبداعي والنقدي. وبالتالي، فأنا لا أفصل في الحقيقة بين الجد والهزل في العديد من الأفكار والموضوعات التي أكتبها على صفحتي. وفي الواقع، فهناك موضوعات جادة يتم نشرها على صفحتي. لكنني لم أفكر أبدا في كيفية الاستفادة من هذه الموضوعات الطويلة التي تستهلك وقتا ومجهودا، ولكن لا يمكن استثناء أن تكون بعض الأفكار محرضة لعمل تحقيقات وملفات ثقافية أو فنية، أو تتضمن معلومة ما مفيدة لأحد، او تكون قادرة على رسم ابتسامة أو ضحكة على وجه أحد. ولكي لا أظهر بمظهر الشخص اللا مبالي جدا أو المترفع جدا، فأحيانا تنفعني الصفحة كأرشيف لأفكار يمكن كتابتها بشكل أكثر جدية لجريدة أو مجلة أو موقع من أجل لقمة العيش.
في كل الأحوال، أصبحت السوشيال ميديا جزءا من “الواقع الإبداعي” الراهن. بل وأصبحت تمثل وسائل للنشر. وهناك من يستطيعون كسب الأموال منها. وهناك من يواصلون تقاليد جيل الثمانينيات في تبديد الجهد والطاقة والوقت. وما أود أن أقوله، هو أن تفريغ الطاقة حتى وإن لم نكن نستهدف منه شيئا، فهو في حد ذاته صورة من صور الفعل والتأثير والتراكم. ولكن طبعا من الجميل والرائع أن يأتي تفريغ الطاقة هذا ببعض الأموال أو العلاقات. فكلنا بحاجة إلى الأموال والحياة الجيدة والأمان المادي.
أما الأمر الآخر، فهو يتمحور بشكل جوهري حول أنني لا أرى في نفسي كاتبا محترفا، ولم أحلم أبدا لا بالشهرة ولا بالجوائز ولا بترتيب بين الأدباء والكتاب والمشاهير. كل ما هنالك أنني لا أملك مشروعا أدبيا أو فكريا ولا أفكر في ذلك، ولا أنوي أصلا امتلاكهما. اليوم أقف على ناصية الحلم وأهتف: “ليس لدى أي مشروع أدبي.. ولم أفكر أبدا في امتلاك أي مشروع من أي نوع”.. ربما يكون مشروعي الوحيد البسيط والمضحك، هو “إعادة بناء العالم بشكل هزلي، لأنني فعلا لم أعد قادرا على التعامل معه بجدية”. وهذا الأمر لنفسي فقط ولا أمليه على أحد. كما أنني لا أريد إطلاقا تغيير العالم، وإنما الاستمتاع به ومناكفته وإعادة اكتشافه يوميا. ومن يريد أن يغير العالم، فعليه أن يختار الوسائل المادية المناسبة والفعالة للتغيير ويترك الكتابة والفن لأداء دور آخر أكثر تواضعا وسموا ومتعة وإنسانية.
وهنا أود أن أختم بمقطع سردي لصديقي الشاعر والناقد والمثقف طاهر البربري:
هذه الشوارع لا ذاكرة لي فيها، هذا الخراب لم يعد ينكأ جرحًا، أو يصطاد شخرة أسى في حنجرة. أنا الجديد على المكان، الجديد على الزمان، لي مقاهٍ أخرى، وشوارع جديدة حككت فيها قدميَّ حافيتين كي أنسى.
نسيت: زعقةٌ تافهة بنشيد وطني حيث بالغ الشاعر في اصطناع آهة واجتلاب دمعة….
وسرق الملحن ما تيسر من ضربات الطبول كي يؤكد على عزيمة الفدا، وأمومة البلاد للبلاد!!!
وترنم الكورال ببلاهة- لا أساس لها ولا قوصرةٍ- كي يفسر الخرافة التي لا علاقة لها بنيل ولا حضور لها على سفح هرم.
هذا بيان بالكفر بكل ما ترك في القلب شرخًا وفي الروح قيحًا وفي العمر ما أسماه الرومانتيكيون اغترابا..
………………
* مجلة “ميريت”- العدد (52)، أبريل 2023