شريف العصفوري
نزهة عقلية أن تتابع أشرف الصباغ على الفيسبوك حيث يُعد من الكُتّاب القلائل الذين يمتلكون قدرة استثنائية على المزج بين عوالم متباينة، سواء من حيث الموضوعات التي يتناولها أو الأساليب التي يكتب بها. فهو ليس مجرد روائي أو قاص، بل هو مراقب دقيق للواقع، مسلح بثقافة واسعة تمتد من أزقة القاهرة الشعبية إلى تعقيدات الصراعات الدولية، ومن التحليل السياسي إلى السرد الأدبي المشبع بالسخرية والعمق الفلسفي.
عند متابعة ما يكتبه الصباغ على وسائل التواصل الاجتماعي، نلاحظ أنه لا يقتصر على ذكريات أحياء القاهرة مثل السيدة زينب، بل يأخذنا إلى قضايا جيوسياسية كبرى، مثل صراعات الدول العظمى، والعلاقات الروسية-الأوكرانية، والتغيرات التي تعصف بالعالم الحديث. لكنه لا يقدم هذه القضايا من منظور مجرد أو جاف، بل يسردها بطريقة تمزج بين المعلومات والتحليل، وبين الحكاية والتجربة الشخصية، مما يجعل القارئ جزءًا من المشهد، لا مجرد متلقٍ سلبي.
في عالم الصباغ، نجد شخصيات مثل “هيلجا”و”موهميد”، المهاجر غير الشرعي الذي يحاول النجاة في بيئة قاسية بينما مصر على حمل إرثه السلفي الثقيل وفرضه على الآخرين. كما يظهر “المثقف الأبنوسي”، ذلك النموذج للمثقف المتعالي، الذي ينتمي إلى دوائر النخبة المغلقة، لكنه في الوقت ذاته منفصل عن الواقع الحقيقي للمثقف الشللي المتعالي والمتغابي عن حقائق العالم الراهن من اجل عالم مزيف ومفتعل نعيش نحن فيه كأنه العالم الحقيقي. بلغته العربية، فهي مزيج من الفصاحة والدقة، حيث يكتب بلغة أدبية عميقة دون أن تفقد روحها الحية أو طابعها النقدي اللاذع. يمكن للمرء أن يرى في لغته أثر أساتذة كبار مثل محمد علي سعد الدين الأبنوسي، الذي تمكن من استخدام العربية الفصحى ببراعة دون أن تفقد الاتصال بالحياة اليومية والتعبيرات الحية للشارع المصري.
شخصيات كثيرة يختلقها الصباغ ثم نقرأها في روايات أو قصص، تعكس حس فكاهي وذكاء غير عادي في جلبنا لخناقة كبرى مع الثقافة “السلطوية والمكرسة” لنحلق في فضاء من جمع بين الثقافة العربية والروسية.
هذه الشخصيات ليست مجرد أسماء، بل هي انعكاسات لحالات فكرية واجتماعية متجذرة في الثقافة المصرية والعالمية، وتقدم لنا صورة نقدية ساخرة عن المثقفين والإعلاميين الذين يعيشون في أبراجهم العاجية بينما يتجاهلون أسئلة العالم الراهن.
قرأت غالبية أعمال أشرف رواياته مثل “أول فيصل” و”مراكب الغياب” تعكس بوضوح أسلوبه في الكتابة، حيث لا مجال للمراوغة أو التلميحات الغامضة، بل هناك وضوح في الرؤية والموقف، سواء في انتقاده للنظم السياسية أو سخريته اللاذعة من الخطابات الفكرية الجاهزة والمعولبة. رغم هذه الجرأة، إلا أن هناك تيارًا دفينًا من الحنين والمحبة يسري تحت السطح، مرتبطًا بالحي الشعبي، بالأقارب والجيران وأصدقاء الطفولة، مما يمنح كتاباته أصالة لا يمكن إنكارها.
من جهة أخرى، تتجلى خصوصية الصباغ في كونه كاتبًا يعيش بين ثقافتين، العربية والروسية، ويجمع بين خلفيته الأكاديمية في الفيزياء وخبرته الطويلة في الإعلام. هذه التعددية منحت كتاباته طابعًا فريدًا، حيث تبدو أفكاره كأنها وليدة حوار داخلي دائم بين عقلانية الباحث وجرأة الثائر. إنه كاتب لا يهادن، لكنه في الوقت ذاته لا يفقد حسه الإنساني العميق، ولا يتورط في المبالغة أو الشعارات الجوفاء.
في النهاية، يمكن القول إن أشرف الصباغ يمثل نموذجًا خاصًا في المشهد الثقافي المصري والعربي، حيث يمتلك قدرة نادرة على المزج بين النقد والسخرية، بين التحليل السياسي والتعبير الأدبي، وبين المحلية والعالمية. إنه كاتب ينتمي إلى مصر بكل تفاصيلها، لكنه يحمل عينًا تراقب العالم الأوسع، وهو ما يجعل أعماله ذات قيمة تتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ.