الفنان يوسف إسماعيل*
في مطلع الثمانينات من القرن الماضي تقابلت أنا وأشرف الصباغ للمرة الأولى في أحد مسارح القاهرة، وهو مسرح السامر، أثناء مشاهدة أحد العروض المسرحية. وتعرف كل منا على الآخر، حيث إنني كنت وقتها أشق طريقي في عالم التمثيل والبحث عن فرصه جيده للوصول إلى الجمهور. والأهم من ذلك كله هو اكتشاف العروض الجديدة والبحث عن ما هو جديد في المسرح الحديث.
وكان أشرف وقتها هو ذلك الشاب الجميل الطويل النشيط الذكي اللبق المحب للإنسانية. والحقيقة كان مولع جدا وبشغف شديد بالثقافة والفنون والأدب والمسرح. وكانت رؤيته وقتها شاملة إلى حد كبير، رغم إنه كان في بداية الشباب.
كان أشرف بيحب المشي جدا. فمشينا بعد المسرحية ما خلصت من مسرح السامر في العجوزة لحد وسط البلد. وبعد كده قعدنا على القهوة وقعدنا نتكلم في المسرحية، وفي الفن والثقافة عموما.
منذ ذلك اليوم أصبحنا أصدقاء. وتعرف كل منا على أصدقاء الآخر، فصرنا مجموعة كبيرة من الأصدقاء تتخطى الـ 20 شخصا، نعمل جميعا ف كل مجالات الفنون والثقافة، نلتقي ونتسامر ونشاهد عروض مسرحية ونتناقش، ونفكر في مشاريع، ونطرح أفكار.
فترة الثمانينات كانت من أزهى الفترات في الثقافة والفنون والأدب والشعر، والفن بشكل عام. كان لها طبع مميز وظروف خاصة وتفاصيل تتعلق بجيل الثمانينيات، كل ده كان بيخلي اللقاءات والتواصل والفرجة والزخم اللي موجود في المناخ العام ميؤثر فينا وفي رؤيتنا للمستقبل، وكان يؤثر أيضا في نشاطنا بشكل حيوي كبير. وبعد كده، اشتغل أشرف في دار التحرير للطبع والنشر، في جرنان المساء، في صفحه الفن. وبدأ يكتب عن العروض المسرحية والندوات، وينشر مقالات شهرية في مجلة “الثقافة الجديدة” عن المسرح والأدب بشكل عام. فكانت الفترة دي من أبرز محطات أشرف الصباغ المليئة بالنشاط والحيوية والإنتاج. هذا إضافة إلى أنه كان يسافر ويتجول في الأقاليم، ويتنقل ويتابع العروض المسرحية أو يشارك في عروض.
في نهاية الثمانينيات، سافر أشرف الصباغ إلى موسكو، لاستكمال دراساته العليا في الفيزياء النظرية والرياضيات. ورغم بعد المسافات، ظل على اتصال وتواصل دائمين مع أصدقائه ومعارفه. وطبعا الاتصالات كانت صعبة في البداية، لأنه لم يكن هناك لا إنترنت ولا ماسنجر ولا فيسبوك. ورغم ذلك، كان أشرف حريص دايما على إن هو اللي يتصل بأصدقائه وأصحابه من موسكو. وفي الواقع، أشرف بيحب أصحابه وأصدقاءه جدا، ودي ملحوظه مهمه، لأننا سندرك عمق المحبة دي في شغل أشرف.
أما الملحوظة الثانية المهمة، هي إن لما أشرف سافر موسكو، كان أكثر واحد فينا وفي أصدقائنا بيتابع بشكل كبير جدا وملفت لكل اللي بيحصل في مصر، سواء على مستوى الثقافة أو الفنون أو الأدب أو الشعر أو السياسة أو الاقتصاد، أو حياة الناس بشكل عام. ولمسألة مش بس لها علاقة بالغربة وبعد المسافات، لكن كان فيه حاجات تانية مهمة خاصة بأشرف نفسه وبعلاقته بمصر وبالقاهرة، وبأصدقائه. ولما كان بينزل أجازة، وهو في الحقيقة كان بيحاول ينزل مرتين في السنة، كل مرة في حدود أسبوعين أو ثلاثة، كان تقريبا بينزل عشان يشوف أصحابه. طبعا أكيد كان بيشوف أمه واخواته، لكن فكرة ارتباطه بأصدقائه وأصحابه، وانشغاله بيهم وعليهم، كان شيء مميز. وخلال وجوده في القاهرة، كان يتابع الفعاليات الثقافية والندوات أو العروض الفنية، لكن كان بيقضي معظم وقته، في الحقيقة، مع أصحابه اللي هو بيحبهم، واللي مع الوقت كانت العناصر المشتركة والأصيلة بتزيد وتتضاعف بينه وبينهم.
يمتلك أشرف الصباغ ذاكرة بصرية حادة وواسعة، ومخزونا بصريا وسرديا وحبا للأماكن والأصدقاء. وأنا أشك أنه يستطيع الفصل بين الناس والمكان عموما، وبين الأصدقاء والأماكن على وجه الخصوص. وعندما نتأمل إبداع أشرف الصباغ في القصة القصيرة والرواية، بداية من “مجموعه خرابيش” و”قصيده سرمدية” و”العطش”، مرورا بـ “يناير” وببقية الإبداعات التي ظهرت حتى الرواية الأخيرة، وهي مراكب الغياب. الحقيقة بيظهر حب أشرف للمكان وللأحياء الشعبية، وبيبان قد إيه الأماكن دي متشالة جوه وجدانه وبتظهر بأشكال مختلفة في أعماله ومقالاته ورؤيته للعالم، وقد إيه الناس الجميلة اللي هو شافها واتعامل معاها في مختلف مراحل حياته، بتنصهر ملامحهم مع ملامح أبطال رواياته وقصصه، من خلال محبة وانحياز ورؤية واسعة ومركبة للطبقة الشعبية والطبقة البسيطة. كل دا باين جدا في شغل أشرف الصباغ، إلى جانب المكان والشوارع ولأحياء الشعبية اللي طول الوقت بيلعبوا دور أبطال من لحم ودم.
والحقيقة مجموعه خرابيش كانت ملهمة للصديق الراحل الفنان رفعت المصري وعمل منها سيناريو فيلم سينمائي لكن للأسف لم ينتج بسبب الرحيل المبكر والمفاجئ لرفعت المصري.
أشرف عايش في موسكو أكثر من 35 سنه، ولكن وجدانه ظل داخل مصر، وظلت روحه متعلقة بكل شارع وكل حاره وبكل إنسان وكل صديق قبله في مصر. عوالم أشرف الصباغ هي عوالم الزاوية الحمراء والوايلي، وعوالم السيدة زينب والظاهر والدراسة والحسين ووسط البلد، كل الأماكن دي عوالمه، وأبطاله هم الابطال المصريين البسطاء اللي احنا نعرفهم كلنا وقابلناهم في حياتنا مش شرط يبقى اسمهم إيه بس متشابهين في حاجات كثير جدا. ورغم إن حياته امتدت لسنوات طويلة في الغرب، إلا إن دا مخلاش خياله وعالمه الابداعي يبقى مستلهم ومستوحى من الغرب خالص، وإنما عاش هناك كل هذه السنين، وبقي خياله ووجدانه وعالمه الإبداعي داخل وطنه مصر.
……………..
* مدير المسرح القومي سابقا