د. مصطفى الضبع
دون الدخول في تفاصيل يعلمها الجميع: المشتغلون بالسينما، محبوها، جمهورها، مؤيدوها، المتربصون بها، المنتفعون منها، دون الدخول في هذه التفاصيل لا يخفى على هؤلاء جميعا عدة حقائق باتت من رواسخ الأفكار المتعلقة بالسينما المصرية:
- دور السينما في تشكيل الوعي والذائقة الإنسانيتين.
- المستوى المتردي الذي وصلت إليه السينما المصرية، في مقابل كل فيلم جيد عشرات من الأفلام الهابطة عديمة القيمة الفنية أو الجمالية أو الإنسانية (ليدلني أحد علي قيمة فنية واحدة في الشخصية التي اعتنقها محمد سعد وراح يكررها على مدار أفلامه وأي مبدأ فني ينطلق منه صناع أفلامه مرسخين لكل ماهو هابط وغير منطقي؟ ).
- ما فعلته السينما من تخريب للذائقة المصرية خلال سنوات سابقة اعتمدت فيها السينما على ما يسمى بالسينما التجارية وكأن أي فيلم له قيمته ليس من أهداف صناعه الربح .
- استمرار الوضع دون أن يبدو أن هناك جهة ما أو مؤسسة ما أو شخصا ما ينتوي فعل شيء أو تقرير مصير شيء أو إنقاذ ما يمكن إنقاذه إن كان هناك ما يمكن إنقاذه بالفعل .
ما بين ثلاثة مفاهيم خاطئة تنحصر السينما المصرية :
- مفهوم يخص الرقابة : إذ فهمت أن المنع يخص السياسة أو الدين فجاء فعلها ملكيا أكثر من الملك وعندما غابت ذائقة الرقيب ضاعت السينما الجادة التي كان عليه التشجيع عليها، وكان عليه أن يدرك رسالته في تقديمها ورسالتها في تشكيل وعي الجماهير.
- مفهوم يخص الجمهور : تأسس على أن السينما تنحصر وظيفتها في الترفيه فقط، وأن دورها الفاعل هو التسلية وإزجاء وقت الفراغ، والنسيان المؤقت لأزمات لا تنتهي.
- مفهوم يخص صناع السينما: لعب على المفهوم السابق معمقا إياه ومعتمده في تشكيل مفهومه رافعا شعار : “الناس عايزه كده ” وهو شعار تبريري أكثر منه شعار من يقوم على رسالة مما أدى إلى الدخول في ثنائية : الرقصة والخناقة وأن الفيلم المصري أصبح رقصتين وخناقة أو خناقتين ورقصة والأغنية الهابطة.
- لم تتعامل المؤسسة السينمائية مع السينما بوصفها صناعة ثقيلة، وهنا نحن محكومون بتذكر تجربتين :
- تجربة طلعت حرب: ذلك المؤمن بأن تجديد الاقتصاد في مصر رهين بازدهار الثقافة، وأن استنارة العقول رهينة بالأفكار الجديدة والثقافة الرفيعة، والمدرك قيمة الثقافة بوصفها استثمارا وكان ترجمة ذلك كله تأسيسه ستوديو مصر (1935) في مرحلة تاريخية نعرف ملابساتها ونعرف طبيعة الشخصية المصرية التي تشكل وعيها خلال هذه المرحلة، وكيف تضافرت مجموعة من العوامل الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية في تشكيل ذائقة المتلقي في واحدة من أنضج التجارب المصرية المؤثرة في تاريخ مصر الحديث، وهو ما انعكس على السلوك الاجتماعي للأفراد، وانعكس واضحا على فاعلية المثقف والمؤسسة الثقافية .
- التجربة الأمريكية : وقد استثمرت السينما اقتصاديا، وثقافيا وأحسنت توظيفها وهو ما تبلور في مجموعة من المظاهر في مقدمتها : تقديم النموذج الأمريكي للعالم، إضافة إلى إحداث تغيير مجتمعي ظهر أثره واضحا في زوال صورة الأسود التقليدي في السينما الأمريكية، إذ لم يتوقف الأسود عند كونه خادما أوسفرجيا أو بوابا أو سائقا كما رسخت السينما المصرية وإنما تجاوزته إلى كل ذلك فجاء الأسود بطلا منقذا: فيلم “يوم الاستقلال” (1996) بطولة الممثل الشهير ويل سميث وفيلم ” كتاب إيلاي ( كتاب إلياس )” بطولة دينزل واشنطن، وغيرها من مئات الأفلام التي لعب فيها الممثل الأسود كل أدوار الحياة : زوجا وحبيبا وقاضيا وموظفا وضابطا وطبيبا ومخترعا وبطلا رياضيا فكانت النتائج التي نراها عيانا ويكفي الإشارة إلى اثنين منها : تحول المجتمع الأمريكي عن العنصرية القائمة على اللون عبر تذويب الأسود في تفاصيل التكوين البشري للمجتمع.
وعلى الجانب الآخر فإن النقد السينمائي نفسه يعاني كثيرا مما يجعله غير قادر على القيام بدوره تجاه السينما أولا وتجاه المتلقي ثانيا، وهو ما يمكن ملاحظته عبر مظهرين أساسيين :
- قلة نقاد السينما قياسا إلى تاريخ السينما المصرية الممتد لقرابة القرن وربع القرن، وقياسا إلى وجود مؤسسات أكاديمية متخصصة في تدريس النقد وتخريج أجيال من الدارسين، وقياسا إلى هذا الكم الكبير نسبيا من الأفلام المنتجة سنويا مع الوضع في الاعتبار أن الناقد السينمائي عامة والمصري خاصة ليس دوره ينحصر في متابعة الأفلام المصرية فقط وإنما يتسع مجال عمله لمقاربة السينما العربية والعالمية أيضا وتمرير منتجهما للجمهور المصري.
- افتقاد النقد السينمائي لمساحات من التطور تجعله قادرا على التعامل مع الفيلم بوصفه نصا فنيا، تمنيت كثيرا ناقدا يقف على الفيلم بوصفه نصا له طبيعته الجمالية، بوصفه نصا قائما بذاته يقاربه الناقد من داخله كاشفا عن خصوصيته ومساحات الفن فيه تدعيما لذائقة متلقيه، وكشفا عن مناطق جمالية لا يراها المتلقي العادي، وكم من مشاهد تمر على المتلقي مرور الكرام فلا يدرك ما وراءها ولا يستوعب ما وضعته يد الفن فيها، ولا ما حققه صانعها من نجاحات فنية في صناعتها، وكم نفتقد نموذج الراحل عمار الشريعي في “غواص في بحر النغم ” نفتقد مثيله أو قريبا منه في السينما، ذلك الناقد المدرك دوره بوصفه وسيطا له ذائقته الفنية القادرة على التأثير في ذائقة المتلقي عبر فتوحاته الجمالية، وقدراته في التأويل وثقافته الاستقطابية القادرة على استقطاب المتفرقات المتشابهات بمعنى اعتماد طرائق مختلفة لتشكيل وعي المتلقي عبر توسيع دائرة مجال رؤيته للعالم.
ستظل السينما عامة محتفظة بموقعها المؤثر تجاه متلقيها، وستظل السينما المصرية تدور في حلقة مفرغة بحثا عن عملية إنقاذ تدرك ما يجب القيام به تجاه فن قادر على التغيير، فن نحن في أمس الحاجة إلى ممكناته لإصلاح ذائقة مجتمع بكامله.