عاطف محمد عبد المجيد
يسعى الناقد المغربي محمد برادة في كتابه ˮ الرواية العربية ورهان التجديد “ إلى تمييز وتوضيح العلاقة بين الرواية والكتابة، وبالتالي الفرق بين رواية استنساخية نمطية، وأخرى حريصة على استيحاء النبض القريب من الصنع الروائي الكوني، المُعرض عن النموذج الاستهلاكي الترفيهي، والمتطلع إلى أن يجعل من الرواية أداة معرفية ومتعة وتفكير في الحياة والكون وأسرار النفس. كذلك يسعى برادة إلى التمييز بين نمطين من الرواية: أحدهما يستخدم مكونات السرد والتخييل لبلوغ إمتاع القاريء من أقرب سبيل وبأقل جهد في البناء والتفكير، وثانيهما يتوسل بمقومات الرواية لاحتواء مظاهر وأبعاد لا تلتقطها بقية خطابات الثقافة.
(1)
الروائي ناصر عراق يبدأ روايته ˮ الأزبكية “ الصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، والتي يُهديها إلى أبيه الذي علمه فضيلة عشق الوطن، بمشهد عُرس أيوب السبع ناسخ الكتب النبيه وزوجه سعدية، في الثاني عشر من مايو 1805، اليوم الذي ذهب فيه كل من السيد عمر مكرم، الشيخ عبد الله الشرقاوي، محمد أبو أنور السادات، إلى بيت الضابط محمد علي بالأزبكية، مطالبين إياه بتولي حكم مصر.عراق يفتتح روايته هذه بعدة مقتطفات مأخوذة من كتب تحكي تاريخ مصر، خاصة فترة ما قبل الاحتلال الفرنسي لمصر عام 1798 وما بعدها، ككتاب بونابرته في مصر، وصف مصر، وغيرهما.هنا يُسلط عراق الضوء على مصر إبان هذه الفترة، عائدًا بنا إلى مصر تلك الأيام، وما كان يحدث فيها، واصفًا حالها وحالتها تحت نيّر الاحتلال بكل صنوفه، داخلًا بحسه الروائي في عمق دروب وحياة المجتمع المصري فترتذاك. عراق، روائيًّا، يرصد حال المصريين ، والفقر الذي كان يعاني منه معظمهم، وبساطة الحياة التي كانوا يعيشونها، ساردًا كل ذلك من خلال عينيّ الملازم فرتراي الفرنسي حين وصل إلى القاهرة، واقترب من حارة السكرية قرب الجامع الأزهر، مما دعاه يتساءل بعد أن رأى هذا البؤس: أين البشر؟..أين السحر المزعوم؟
(2)
فرتراي يكتب في دفتر يومياته، كما اعتاد، في أول يوم له بالقاهرة فيقول: القاهرة مدينة رثة وقذرة وقبيحة، لا سِحر فيها ولا جمال، كما زعم بونابرت، وتغزوها الكلاب والقطط الضالة في عز الظهيرة، لكنّ بعض مساجدها الضخمة تدعو للاندهاش بحق، لكنّ أهلها خائفون منا ومذعورون، باستثناء قوَّادة عجوز حاليًّا، ومومس سابقًا، إذ لم ألحظ منهم أحدًا إلا القليل، وهذا أمر طيب يجعلنا نسيطر عليهم بسهولة.أما المماليك، هؤلاء الجبناء الذين دحرناهم في إنبابة، فقد رأيت ثلاثة منهم يفرون بخيولهم نحو منطقة صحراوية تبدو في نهاية الأفق.فيما يرى الخواجة شارل الفنان القاهرة عكس ذلك بالمرة، والذي كتب في يومياته قائلًا: لا يوجد مثل شمس سبتمبر في القاهرة..إنها مثيرة لحماسة أي فنان يرغب في التقاط النادر والجميل والباهر.بينما يرى الكابتن جوزيف مورايه أن إقامة مستعمرة فرنسية في مصر ستجعل الفرنسيين يسيطرون على كل بلدان الشرق المتخلفة، ويسعون إلى تطويرها وإيصال حضارتهم العصرية إلى مدنها وقراها، فتزدهر تجارتهم ويربحون الكثير.عراق يتحدث كذلك في روايته عن المقاومة الشعبية التي كان يرى أفرادها في المحتل ذلك الغاصب الكافر الذي دنس بلاد المسلمين ولزم عليهم أن يخرجوه منها في أقرب فرصة.تمثلت نواة هذه المقاومة في الرواية في العصبة السرية التي كان يقودها أيوب السبع، ومعه خليل المنوفي، شلضم السقاء، دياب ضاضو، وغيرهم.يقسّم عراق روايته إلى قسمين، الأول يعنونه بـ القاهرة في الفترة من يولية 1798 إلى يولية 1801، الأزهر في الفترة من 12 مايو إلى 5 نوفمبر 1805. والثاني بـ القاهرة في الفترة من 1801 إلى نوفمبر 1805، الأزهر في الفترة من 11 نوفمبر إلى 16 نوفمبر 1805.ولا ينسى عراق في خضم هذه الأحداث أن يقترب من الحديث عن الثورة الفرنسية وما أحاط بها من أحداث وملابسات، ووجود المماليك في مصر حتى فرارهم بعد دخول الحملة الفرنسية إلى مصر.
(3)
أزبكية عراق، وكما كُتب على غلافها الأخير، تنفخ في روح اللحظة التاريخية واقعًا يجعلها أكثر بهاءً وحيوية، وإيقاعًا يستدعيها من ماضيها إلى حاضرنا، دون أن تفقد نضارتها، أو تتضاءل دهشتها، وتأخذ بتلابيب اللحظة الواقعية فتلمس روح القاريء، وتمر بباب قلبه، حتى يشعر بنفسه وكأنه تجاوز متاهات الزمان، وعبر مفازات المكان، ودخل إلى عالمها، ليعيش أحداثها مع أبطالها، فيشاركهم أفراحهم وأتراحهم ويقاسمهم أحلامهم وكوابيسهم ويلتقي بين سطورها وفي ثنايا جُمَلها أسماءً شهيرة مثل محمد علي، عبد الرحمن الجبرتي، نابليون بونابرت، وأسماء أخرى لن يلتقيها القاريء إلا في هذه الرواية كأيوب السبع، شلضم، الخواجة شارل، مسعدة حجاب، وكلها شخصيات أكسبتها الأحداث روحًا خاصة، ومنحها السرد لحمًا ودمًا.
(4)
كذلك يرصد عراق في روايته حالة الجهل والأمية التي كانت تسيطر على المصريين آنذاك، مما جعلهم لا يفرقون بين حاكم وآخر، سواء أكان مصريًّا أم غير مصري، يصور ذلك مشهد الحديث الذي تم بين شارل الفنان ومورايه الكابتن الذي كان يرى في المصريين شعبًا لا يقرأ ولا يكتب، وبذا فهم لا يستطيعون مواجهة فرنسا العظمى.مورايه يرى في المصريين شعبًا كسولًا وجاهلًا يقضي يومه في معاقرة الجوزة والدخان.فيما يضع مواريه الشعب الفرنسي الذي قام بالثورة في موضع مختلف تمامًا.كذلك ينفذ إلى أعماق المجتمع المصري راسمًا لوحة روائية لتفاصيل حياته ومشكلاته التي كانت تعوق مجراها.هنا لا يكتفي عراق برصد الواقع السياسي إبان تلك الفترة، بل يدلف إلى الواقع الاجتماعي، مُظهرًا لنا أخلاقيات المجتمع المصري التي تتراوح في المسافة ما بين أبطال يضحّون بأرواحهم في سبيل تحرير وطنهم من محتل مغتصب، وبين أخريات بعْنَ أجسادهن مقابل أثمان زهيدة، بل وتحولنَ إلى قوّادات بعد أن مارسن البغاء علنًا أو سِرًّا، عائدًا بنا في أزبكيته، عبر سرد روائي ممتع، وحبكة روائية متقنة، ومهارة روائية في صياغة العالم الروائي وإعادة تشكيله في انسجام تام، إلى الماضي علَّنا نقرأه بطرقة أخرى، لنستفيد منه في واقعنا الراهن، طامحين إلى قادم أفضل مما هو كائن بالفعل، من خلال قراءة أبطاله المحوريين الذين انبنت الرواية على شخصياتهم.هذا ويضع عراق نقطة روايته الأخيرة بمشهد وداع مسعدة حجاب للخواجة شارل بعد أن قرر العودة إلى فرنسا: قبَّلتني في خدي الأيمن وهتفت بصوت مبحوح: لا تَنْسَنا يا شارل..نحن في انتظارك.هنا تنتظر مسعدة حجاب شارل، فيما ينتظر الشعب المصري انتقالًا من عصر الاحتلال إلى عصر الحرية التي يسعى إليها، مهما كلّفه ذلك من تضحيات.
(5)
وبعد، يبدو عراق في روايته هذه محايدًا، إذ لا يُظْهر انحيازه أو ميْله لا إلى مساويء مجتمعذاك ولا إلى مميزاته، كما لا يحاكم فترة تاريخية تتناولها روايته، قدْر ما يكشف فقط أحداثها وما جرى فيها على خارطة الوطن، تاركًا للقاريء مساحة مناسبة يتأملها فيها ويبدي رأيه دون تدخل من الكاتب. مثلما يبدو عراق كذلك ساردًا متمكنًا من فن السرد، مطوّعًا إياه في انسيابية، مُضْفيًا عليه نوعًا من السلاسة التي تأتي مصحوبة بمتعة كبيرة.