أربعة مقاطع من بوابة العالم الخفي

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

منتصر علام

-1

فكرْتُ في ذلك الهامس الذي لا ينفك يُحدثني ويُرشدني ويُحذرني.

– من أنتم وماذا تريدون مني؟!

عاودني بالردّ:

– اقرأ كتاب جدّك.. اقرأ كتاب جدّك.

أيّ كتاب؟

ذهبتُ لأسأل أبي عنه، وجدتُه يجلس بين إخوتي يتناول طعامه، نظرت إليه فعاجلني بالردّ: “ليس الآن يا ناصر”.

كيف عرف ما أريد؟

انتظرته في غرفة الجلوس، انتهى من طعامه ودخل غرفته عدة دقائق ثم جاء إليَّ يحمل شيئًا ملفوفًا في جلبابِ صوفٍ قديمٍ أعتقد أنه لجدّي، محكوم الربط بحبل يكاد يُبلى، ماتت عُقدته بمر السنين.

مَدَّ أبي يده في فتحة صدر جلبابه، وأخرج سكينه الإنجليزي المثبت بسلسلة في الصديري، وقطع الحبل، وأرجع السكين مكانه، وأخذ يفكُّ طيّات الجلباب برفق.

رفع أبي الجلباب، فإذا بصندوق خشبي قديم، دفعه لي ونهض مغادرًا وطلب أن أذهب به إلى غرفتي وأوصد بابها من الداخل.

 أنظر إلى الصندوق، وأتذكّر ما قاله أبي، وهذه الهالة التي خلَّفها حوله، حدقت به، أقلبه يمينًا ويسارًا؛ هو مجرد صندوق لكنني أشعر برهبةٍ غريبةٍ لم أشعر بها في أصعب مواقف حياتي وما أكثرها! أنظر إلى ذلك المشبك الصغير الذي يغلق الصندوق، مددتُ يدي ورفعته، لكنني لم أرفع عنه الغطاء.

عاودت النظر إلى الصندوق ربما أنتظر أو أعطي لنفسي فرصة؛ لأتخلص من تلك الرهبة، لكن يبدو أن ذلك لن يحدث في حضرة هذا السر، مددتُ يدي ورفعت الغطاء، حاولت إبعاد ناظريّ عنه لكن لم أستطع، إنه كتاب يكاد يكون مربع الشكل أو مستطيلًا بشكلٍ بسيطٍ، ذو غلاف أسود أو لعله بُني تغير لونه بفعل الزمن، يبدو عليه القدم، على غلافه كتابات بخط غريب يشبه تلك المصاحف التي كتبت في بداية عصر النبوة، لا أستطيع قراءته، يبدو أنني سوف أحتاج إلى متخصص يقرؤه لي، مددتُ يدي؛ لأفتح صفحاته وأرى ما بين دفتيه، فوجئت أن صفحاته بيضاء، أقلبها جميعها خالية، ما هذا، كل هذه الهالة والرعب والتحذير من أجل كتاب فارغ، أيعقل هذا؟!

نهضتُ غاضبًا، فانطوى الكتاب وأُغلق الصندوق وعاد المشبك كما كان، اضطربت مما حدث، وعلمت أن بالكتاب سرًا عظيمًا، لعله كتاب سحر، لكن جدي وأبي من بعده كانا يرفضان السحر أو الاقتراب منه، فهل يحتفظان بكتاب له، واليوم يدفعه لي أبي، لعله سحر عظيم يفوق ما يوجد في عصرنا الحالي.

“ماذا كُتب فيك، ومن الذي كتبه، ولمن كتبه، وما علاقتي وأبي وجدي به وبما فيه؟!”.

-2

من كل قرى مصر، كانت قريتنا “شُبراريس”، ومن كل بيوتها، كان بيت “عمر”، حيث هذه البوابة، بوابة العالم الخفي، أرى هناك حيّة خضراء ضخمة تتسلق الحائط تلتفت وتنظر إليَّ.

تتسارع دقات قلبي وأسمع طقطقة شعري، ودبيبًا في جسدي، لم أتعرض لهذا الموقف وهذا الإحساس من قبل، يتنفسون في أذني كأنهم يشكون أنني لم أشعر بهم بعد، أريد أن أطمئنهم أن كل ذرة في جسدي شعرت بوجودهم، انتبهت و”عمر” يجذبني ولا يستطيع تحريكي كأنني تجمدت مكاني والتصقت بالأرض.

البيت قديم متهالك تُغطي الرطوبة جدرانه حتى أكلت جزءًا من طوبه الأحمر، يرتفع سطحه الخشبي، يغطي النشع وبعض بقع الماء المدخل، ثلاث غرف على اليمين، ومثلها على اليسار، يليها فضاء واسع.

سمعت صراخًا يدوي في المكان، جذبني وأدخلني غرفة عن يميننا، هنا من يصرخ، عمتي أم “عمر” تجلس وبجانبها “خالد” أخوه، وترقد أمامهم “سارة”، أختهم الوسطى بين خمس بنات، هن أخواتهن بين ستة ذكور.

نظروا جميعًا إليّ، لا أملك لهذه الفتاة شيئًا فيما هي فيه، طلبت منهم أن يُحضروا لها طبيبًا، أكدوا أنهم أحضروه أمس، وهي تتناول الدواء، لكنهم صدموا عندما وجدوا قطعة أخرى قد قطعت من جسدها اليوم.

-3

تحركنا عائدين سمعت الهامس يقول:

– اذهب معه الآن… الآن.

ذهبت معه إلى بيتهم، دخل الغرفة أمامي، فأُغلق عليه الباب، ظللت بالخارج عدت لأتفحص المكان، الإضاءة خافتة والمكان شبه مظلم، رأيت ما يخرج من الأرض ويرتفع حتى استوى بطولي، أشباح لا أرى لها ملامح، فقط تلمع عيناها الحمراوان، تُحيط بي وتلتف حولي، لكل منها ذراعان طويلان وأصابع وأظافر كبيرة، هل هذه هي هيئتهم الحقيقية، ماذا يريدون مني؟!، يكاد الخوف يُوقف قلبي، تراجعت حتى لامس ظهري الحائط، لم يعد في إمكانهم الالتفاف حولي، أحاول استجماع قوتي، رأيت ذراع هذا الشبح أو ربما أراني إياها وقد قُطع منه قطعتان، وشبح آخر قطع من ذراعه قطعة واحدة، الآن عرفتهم، فأنا من فعلت بهما هذا، تذكرت رعبهم مني سابقًا.

شعرت بالحرارة تسري في جسدي، وانتفضت كأنما ازداد طولي، وتضخمت جثتي، تضاءلوا أمامي، وبدأ يعتريهم الخوف، وهموا بالهروب فأمسكت أحدهم من خلف عنقه، أخذ يصرخ، دفعته أمامي، حتى وصلت إلى تلك الفتحة أو بالأصح البوابة، اقتربت منها، فإذا بسلم دفعته ونزلنا عليه.

دقَّقْت في كل تفاصيل المكان، يوجد باب على اليمين، ومدخل سرداب على اليسار، حاول الهرولة إلى اليمين، حيث الكنوز تتلألأ، لكنني دفعته يسارًا ليدخل السرداب، تسمر مكانه وأخذ يصرخ ويحاول العودة للخلف، وأنا أدفعه للأمام حتى جلس على الأرض وأخذ يبكي كالطفل، تركته فعاد يجري على يديه ورجليه حتى ابتعد وانتصب مهرولًا هاربًا.

وقفت أنظر في ظلام هذا السرداب، سمعت أصواتًا كأن ماءً يغلي وشيئًا يرعد ويزبد، لا أرى شيئًا، خَطوت عدة خُطوات، شيء يدفعني؛ لأستكشف غياهب هذا المجهول، أعرف خطورة ما أفعل، فقد أسقط، فيغرس في جسدي عشرات الحراب أو الخوازيق المدببة، لا أرى أين أضع قدمي.

تتوالى خطواتي ثقيلة، التصقت بظهري للحائط، مشيت بجانبي، ثم اعتدلت، وأكملت سيري، بدأت أُسرع بخطوات ثابتة قوية، أسمع وقع أقدامي ينتشر في المكان، شعرت بشيء أمامي، أقترب منه يكاد يكون في طولي، وقفت، إنه أمامي مباشرة، اقترب ببطء، أشعر بأنفاسه على وجهي، نتبادل أنفاسنا، تلامست أرنبتا أنفينا، يُزمجر ويزوم، لا أراه لكنني أشعر بقوته، يبدو أنه يعتقد أنني قوي مثله، وإلَّا لم اكتفى بمحاولة إخافتي من دون أن يأتي بأكثر من ذلك؟!

دَفَعْتُه حتى يسمح لي بالمرور، لكنه تشبث بالأرض، يحاول منعي، دفعتُه بقوة فوقع، ثم أسرع واقفًا، توقفت أعتقد أنه يجب أن أكتفي بذلك لهذه الليلة، فسوف آتي يومًا ما؛ لأعرف ماذا يريدون مني.

لقد قال إنني سوف آتيهم ولن يأتوني، وسوف أنزل إليهم ولن يصعدوا إليَّ، إذًا فهنا يكمن السر، خلف هذه البوابة، ماذا يريدون، وأين تنتهي هذه السراديب؟!

لكن.. ما علاقتي بكل هذا؟!

-4

أكملت سيري، صعدت عدة درجات من سلم متجهًا إلى قاعة أو صالة بلورية تضوي نورًا وجمالًا، نظرت بعدها، إذا بحائط من زجاج أوشكتُ على الوصول له، تغير لون الأرض، اقتربت أكثر، وجدت بابًا في ذلك الحائط، انفتح شيئًا قليلًا، توقفت وعدت خطوة للخلف فعاد وأُغلق، خطوت خطوة للأمام فانفتح كما المرة الأولى، نظرت داخل تلك الغرفة، بها طاولة ضخمة من زجاج أحمر كأنها ياقوتة أو جوهرة ما، فوقها كتاب ضخم أظنه من جلد الغزال، آه، إذًا فهذا هو “كتاب العهد”.

وأغُلقت البوابتان.. لكن بقي هذا العالم في مكان ما في باطنها داخل رحمها جزءًا منها، علمه من علم، وجهله من جهل، وسوف يظل جزءًا منها، ذلك الابن الغائب، لكنها تسمع أنفاسه في أحشائها.

………………………..

*فصل من رواية الرواية تصدر عن دار “إبهار” للنشر والتوزيع بالقاهرة.

مقالات من نفس القسم

amr ezz aldeen
تراب الحكايات
موقع الكتابة

فيزوف