البهاء حسين
نعم يا حبيبتى
تقول الملابس ما لا يقوى عليه الفم
الملابس مقنعة أكثر
عرفت، مثلاً، من ملابسك، أنك تفضلين الحضن على القبلات
وحين تلبسين قميصك الكاروه
فمعنى ذلك أنك في منتهى الوحدة
تقول اليد، وهى تسلّم، ما لا يقوله الفم
غير أننى لا أملك ما يكفى من الأصابع
لأقول كل عواطفى
،،
أحياناً أفكر في الملابس على أنها قدر
وأحياناً أفكر أن القدر ثوب مفصل على مقاس صاحبه
إبرة انتهت من مهمتها
أفكر أن ملابس الموتى تنتظر عودتهم
،،
تعلق ثوبى الوحيد مرة بباب القطار
ظللت أجرى معه، حتى انتهى الرصيف
ولا أعرف، إلى الآن، كيف نجوت من العرى
رأيت ابن عمى يجرجر أمى من شعرها ويمسح بها الأرض، حتى تعرت من ملابسها، لتتنازل عن بضعة قراريط نملكها، ولا أعرف، إلى الآن، لماذا أبكى كلما مررت بشجرة عارية من القشرة
:
أنا يا إيمان قادم إليك من بلد بعيد
من يتمى
أريد فقط أن أضع رأسى بين نهديك، ليقص عليهما تاريخه
أن أحكى لقمصانك
لوجهك المسترسل في البياض، للإيشارب
كل ما يخص جسدى
كيف أن الشتاء لا يمنح الفقير معطفاً
كيف أننى أشترى، الآن، ملابس كثيرة
تيشرتات وأربطة عنق، لأقول لك حبى بطرق مختلفة
:
تقول الملابس صاحبها بحذافيره، أصله وفصله، كأنها تشفه
حتى خجله تقوله البقع
البقع عواطف جفت، لأنها لم تجد من يقولها
:
الملابس في الفاترينات أكثر طلاقة، لأن البقع لا تلتصق بالزجاج
كل بقعة هي ندبة تسللت منك إلى ملابسك
اشتري ملابس كثيرة، أشترى بشرة
مع أن الملابس تستر العورة، لكنها لا تستر العرى
أنا قادم إليك من طفولة ولدت عارية
مثل حبى
،،
الأيام تدور أيضاً
فهمت من البرد أن العش لا يكون دافئاً ما لم يكن هناك عصفور وعصفورة
أن الروح تبكى في الوحدة كفتاة فقدت أمها
،،
الملابس تأتى بالسماء إلى الأرض
كل بلوزة سحابة
:
فهمت العرى .. أن الرصاصة تعرى ويأكلها الصدأ بعد أن تغادر الفارغ
فهمت الفرحة التي تولد من القلب حين نشترى ملابس جديدة
صالحت طفولتى بهذى الطريقة
“لم أعد أرى الفاترينات كعيب خلقى في الشوارع”.
حتى الولد المانيكان الذى يبتسم خلف الزجاج لم أعد أكرهه
لم أعد أغار من هدومه
سوف أصلح شيخوختى .. الشعر الأبيض وزيادة الشجن في الصوت
باللون الرمادى أو الفيرانى
بالأسود الذى سرق من أمى عمرها
هذه الألوان حقيقية
لدرجة أن إيمان تضيء حين ألبسها
أعرف العين حين تقول: أحب اللون الرمادى عليك، بينما تقصد أنها تحبك
أعرف كيف تنظر إيمان حين تحب
لطالما اشتريت لنفسى ملابس من أجلها
أعرف من صوتها أنها تخفى ندوبها في الكحة المزمنة التي تشرخ صدرها طوال الشتاء
حساسة إيمان كاللون الأبيض، وطيبة كالقطن
أعرف من أحذيتها أن المرأة، حين يضحى بها زوجها، لأنه يحب الكلاب
حين يضحى من أجل هوايته بحبه
لن تهتز أردافها، لن تكون أردافها في البنطلون الجينز
طريقاً باتجاهين
لن تمشى بخطوة مثالية
لا يمكن لامرأة جميلة أن تخفى حظها العاثر
:
جميلة إيمان مثل نية صافية
مثل نار تحت آنية في الصقيع
كثدى في فم طفل حديث الولادة
كطفولة لم تجرب اليتم
كالملابس
:
الملابس يا إيمان أنستنى طفولتى البالية
جعلتنى طفلاً في الرابعة والخمسين
يفرح بالقمصان التي اشتراها اليوم
يضعها على ترابيزة المكواة، كأنها ملابس العيد
ويترك الدولاب مفتوحًا، ليتفقد طفولته قبل النوم
سأشترى ملابس
سأشترى السحب
سأكون سحابة
سأقبلك بطريقة مختلفة
سأقبل قميصك الكتان في الحلمات
الكتان صديق مشترك، يعرف كيف يمتص العرق
الأملاح والسنوات الجافة
يمتص حزنى، ربما لذلك يكرمش بسرعة مذهلة
بينما يظل قميصك بلا كرمشة
:
الكلاب يا حبيبتى تمنح صاحبها الونس
الملابس تمنح الدفء
:
البسى الكتان، لأنه من طينتنا.. منكسر
،،
حين تبلى ملابسك تخلص منها بحب
لا تشتر، بدلاً منها، ملابس مستعملة
لأنك ستأتى بأرواح أصحابها إلى دولابك
إلى طفولتك المخبأة بداخله
احتفظ بالطفل هناك واترك طفولتك، لأنها اهترأت
أصبحت مستعملة
،،
فهمت البرد يا إيمان
فهمت الدولاب
أن الملابس تجعل الوحدة ملونة
:
من، غير الملابس، يعبر عنك
من، غير الملابس، يفهم الإنسان؟