سعيد بوخليط
حقيقة، مثلما أشارت هالة قضماني الصحفية الفرنسية السورية، في تقديمها لحوارها الذي أجرته مؤخرا مع أدونيس(1)، لازال صاحب أغاني مهيار الدمشقي(سنة1961 )، وقد بلغ آنيا سن الواحد والتسعين، يتمتع بحضور فيزيائي وعقلي مذهلين. الدليل على ذلك، اجتهاده بلا توقف بخصوص تأمل مجريات الوقائع، الكتابة، إبداء مواقف موضوعية في غاية الشجاعة، ثم انخراطه في حوارات وسجالات عمومية، تقتضي توقدا كبيرا لحواس الشخص؛ونَفَسا قويا على التفاعل والتحمل.
يذكرني، أدونيس في هذا السياق بأحد شيوخ القرن الكبار، المفكر الفرنسي إدغار موران، الذي بلغ سن المائة، غير أن قدراته الذهنية حيوية دائما، مستمرة بكل صدق وعمق في خوض مغامرات التأويل والكتابة والإبلاغ، بمرجعيات نقدية فذة تنهل بموسوعية من علوم عدة، قصد تشريح بنيات الخلل التي تكابدها البشرية وستكابدها أكثر فأكثر، مع تكرس وتوطد مآلات الليبرالية الهمجية؛ولايتردد غاية الآن بخصوص دق ناقوس الخطر.
أيضا، رغم إدراك أدونيس عمرا متقدما، يهتدي في المعتاد بصاحبه نحو كسل دوغماطيقية النمطية، وكذا طمأنينة يقينيات منقادة بلا روية، بل مستكينة فقط إلى منطق الاستسلام، وأحيانا تبني شعار مابات يعرف بالمراجعات الفكرية، وفي أسوأ الحالات التواري والانسحاب إلى الهامش؛والتخلي عن الجَمَل بما حمل، ثم الاستقالة وربما النكوص. فإن شاعرنا الكوني المعاصر، أحد أبرز مؤسسي القصيدة العربية الحديثة ، المفكر، المترجم، مؤسس مجلات أدبية أشهرها ”شعر” بجانب يوسف الخال، المرشح الحاضر سنويا للفوز بنوبل في الآداب، المترجمة دواوينه ودراساته إلى مايزيد عن عشرين لغة أجنبية، المتداولة نصوصه قراءة وتمحيصا لدى شباب بلد ناء جدا مثل الصين، قياسا إلى مستوى ذلك داخل محيطه المحلي والإقليمي:”بالنسبة لبلد كالصين حيث صدرت عشرات عناوين مؤلفاتي، بعضها تجاوزت مبيعاتها ثلاثين مليون نسخة. بهذا الصدد، أخبروني بأنه لم يتداول قط عندهم سابقا اسم شاعر لازال على قيد الحياة بهذه الوتيرة”(2).
يلزم القول، لازال أدونيس مقتنعا تمام الاقتناع بذات فتوة قناعاته، فيما يتعلق بأسباب مفصلية لتأخر العرب، المرتبطة ببنيات الانحطاط والانحدار والإذعان والتوتاليتارية والأصوليات والجهل، ثم ممكنات دخولهم العصر الحالي. أطروحات طليعية وجذرية، لوح بها أدونيس منذ بداية مشروعه البحثي والشعري، قبل عقود طويلة تعود إلى أواسط الستينات، واستمر تمسكه الشفاف بتصوراته الرؤيوية؛ذات الأفق الحداثي بامتياز، وضعت موضع سؤال جذري، مختلف معاني المقدس الدينية والسياسية والايديولوجية.
ضمن هذا السياق، أصدرت دار لوسوي الفرنسية، خلال شهر مارس الأخير، مجموعة شعرية، اختار لها أدونيس عنوانا غريبا، إلى حد ما، لانجد له من الناحية الدلالية معادلا في العربية. فما قصده من تسمية “أدونيادة”؟. يجيبنا مؤلف أجزاء الثابت والمتحول، قائلا:”أدونيادة كلمة مركَّبة. تردد أصداء الإلياذة، الإغريق والعصر القديم. لكن أيضا البحر الأبيض المتوسط، بحر الحضارات، بحرا عربيا، من أنطاكية غاية طنجة، لكننا نشعر في نفس الوقت بغيابنا على امتداد هذا البحر. كل ذلك، في إطار علاقة مع أدونيس، مادام يتضمن حياتي وأفكاري. يمثل هذا العنوان بالعربية، اختزالا ل”عالم أدونيس”(3).
نتيجة قراءتي الأولية لبعض جوانب حيثيات هذا الإصدار، أمكنني تجميع الملاحظات التالية:
* سنتفاجأ حتما، لأن أدونيس أصدر عمله هذا، باللغة الفرنسية، قبل اطلاع القارئ على مضمون النسخة العربية. ترجمة، أنجزتها الباحثة الجامعية بنيديكت لوتوليي، المختصة في الأدب المقارن، مع إثرائها العمل بمقدمة ذات عمق كبير، لافتة للانتباه. تفكك بدورها عنوان أدونيادة كما يلي:” ترنّ أدونيادة على منوال تلك الكلمات الغريبة، الساحرة والجذابة، المضيئة والمبتسمة، التي تكشف لنا بنوع من الغموض عن حقيقة ما:أجواء أندلسية، أو ربما رقصا إسبانيا، ملحمة تنتمي إلى البحر الأبيض المتوسط، فضاء منسيّا تقريبا أو متخيلا، موضِع هناك خصب، فنّا شمسيا، احتفالات باهرة، ملامح امرأة. هنا، ستتجلى لنا بلا شك، بأن أدونيادة كلمة فرنسية كُتبت بالعربية، مشتقة من الاسم الأسطوري لأدونيس، مؤلِّف هذه المجموعة الشعرية. تذكرني أساسا أدونيادة أدونيس، بنصوص من الأدب الأوروبي مثل الإلياذة و لاهنرياد (فولتير)، بحيث تتقاطع معها على مستوى البنية المعجمية للعنوان، وكذا البعد الملحمي”(4).
*أدونيادة، قصيدة طويلة أشبه بمجرى نهر(5)، تأخذ طابع وصية، يستعيد في إطارها أدونيس ثانية الموضوعات العزيزة على قصيدته. مقاطع شعرية بلا جنسية للشاعر الرحالة:”أن تسافر، يعني رؤيتك العالم بطريقة مختلفة، تغيير البلد يفسح المجال أمام تغيير العلاقات بين الأشياء والكلمات، بالتالي أن تبدع. أدونيادة بمثابة سفر بين طيات سريرة التاريخ، والوجود الإنساني. ليس الفضاء الخارجي ذريعة لرؤية الفضاء الداخلي. تمثل رؤية اللامرئي شرطا جوهريا كي نتبيَّن المرئي بشكل أفضل. ”(6).
*تضمنت عبارة أدونيادة، اسم أدونيس من ناحية، وكذا عنوان الملحمة الهوميرية الإلياذة من ناحية ثانية، بحيث اقتفى الشاعر هنا أثر هوميروس وكتب ملحمته.
*أدونيادة، ملحمة تحكي التاريخ الأسطوري لألوهيات انبعاث أدونيس، الذي استعار منه الشاعر لقبه، وأيضا شهادة مثيرة عن أفق حداثتنا.
*أدونيادة، سيرة ذاتية وذهنية وشعرية، استلهمت تقليدا يوظف القصيدة ضمن منظور إنساني للتسامح والانفتاح، دون افتقادها قط معنى الغنائية، مستلهما الثقافة الإنسانية في بعدها الكوني المتسامية بقيم الاختلاف والتعدد والتسامح.
*أدونيادة، ملحمة غنائية طموحة وعظيمة من خلال واحد وعشرين نشيدا، تستحضر ثانية تيمات مركزية في قصيدة أدونيس، عبر هوية متجددة تتشكل بالترحال الشعري والجغرافي. ترحال، يتحمله الشاعر كحالة، والغياب مكانا أصليا للذهاب أو الإياب، يبدع هوية داخل القصيدة باعتبارها وطنه الوحيد في نهاية المطاف.
*أدونيادة، ملحمة تجسد مسار أدونيس الشعري والفكري، ويقترح على قرائه نصوصا كتبها خلال السنوات العشر الأخيرة عبر محطات أسفار إلى: بيروت، دمشق، باريس، شنغهاي، نيويورك، يريفان(أرمينيا)، أفسس(تركيا)… ، صحبة حكماء مرشدين قصد السمو نحو حلم للنور:بودلير، رامبو، ماريا ريلكه، أنطونين أرتو، أورفيوس، المتنبي، كونفوشيوس، هوميروس، دانتي…
القصيدة عند أدونيس فضاء للتلاقي، لذلك يتذكر هنا على سبيل المثال، ضمن سفره الشعري، معاناة الشعب الأرميني، حيث أهدى إليه من خلال رمزية جبل أرارات قصيدة غنائية: “لكن لايتعلق الأمر بوصف أمكنة تمت زيارتها ولا اعتبارها مجرد مراحل من أجل العودة، بل إعادة خلقها شعريا عبر انصهار خطوط سير الرحلة”(7). بحيث، تمثل أسفار أدونيادة دعامة اكتشاف داخلي.
هوامش المقالة:
(1) Libération:2 Avril 2021.
(2)ibid.
(3) ibid.
(4)Adonis:Adoniada ;seuil 2021. page:7.
(5)Pauline Donizeau:En attendant Nadeau ;19 Mai 2021.
(6)L orient et le jour ;17 Mai 2021.
(7) Pauline Donizeau:En attendant Nadeau ;19 Mai 2021.