هناك سوء فهم لأدب الخيال العلمى ،حيث ينظر البعض إليه على أنه ادب ترفيهى يجنح للخيال ويهتم بالخوارق والفانتازيا ويبتعد عن الواقع، وهناك من يصنف أدب الرعب على أنه أدب خيال علمى بينما يطرق الخيال العلمي أبواب الاستكشاف بين ما هو حلم اليوم، وما يمكن أن يكون عليه واقع الغد، لذلك كان موضوع بحثى عن أدب الخيال العلمى وعلاقته بالفنون السردية، من خلال الكشف عن البنى السردية فى الفنون السردية ( القصة والرواية) ، لمَ لأدب الخيال العلمى من دور بارز، بل يعد من أهم الأجناس الأدبية المعاصرة لارتباطه بتوقعات البشر، وحياتهم المستقبلية، نتيجة للتقدمات العلمية والتكنولوجية التى يشهدها العصر، فهو يعود إلى بدايات ” القرن العشرين، فقد نما فيه وترعرع”(([1]
جذور الخيال العلمى:
منذ القدم وهناك تصورات الإنسان عن الواقع، يكتشف الطبيعة والعالم وأسراره، ففى الآداب السومرية نجد ملحمة ( جلجامش) أقدم قصة كتبها الإنسان تبدأ الملحمة بالحديث عن جلجامش، ملك أورك – الوركاء الذي كانت والدته إله خالدا ووالده بشرًا فانيًا، ولهذا قيل بأن ثلثيه إله والثلث الباقي بشر سعى هذا البطل باحثًا عن الخلود ، وجدها سرقت منه، ولا يكون الخلاص إلا بالأعمال الخيرة، فراح يبنى أسوار أورك لكى يخلد ذكراه أمام شعبهإ، حتى أن القدماء المصريين كتبوا عن رحلات خيالية إلى كواكب أخرى.
كما تحفل العصور الجاهلية بكم كبير من الأساطير والقصص التى احتل فيها الخيال بعدا تكوينيًا ، وتميزت بفانتازيا جامحة تعكس مخاوف الناس وأحلامهم، وطرق الدفاع عن أنفسهم، تلك الأساطير تعمد إلى السرد القصصى من حبكة وعقدة وشخصيات، تحكى هذه القصص سير الآلهة، تدور مواضيعها حول أصل الكون، والموت والعالم الآخر، ومعنى الحياة، وسر الوجود، وتجنح دائمًا إلى الخيال والعاطفة، والإشارات فى ألف ليلة وليلة من حصان طائر –بساط سحري- ومصباح علاء الدين – وطاقية الإخفاء- والإنسان المجنح)، وترى الباحثة أن الأسطورة هى النتاج الأدبي الأول لتفاعل الإنسان مع العالم المحيط ، فهى تعد الجذر الحقيقي للخيال العلمي ، يقول د. نجيب التلاوى عن بداية ظهور هذا النوع من الأدب “الجذور الحقيقية لمعطيات الخيال العلمى إنما بدأت فى الحقيقة مع السحر والأساطير وكتب التراث القديمة التى امتلأت بالأفكار التى صعدت إلى الفضاء وغاصت فى أعماق البحار.فإذا كانت الأسطورة ترجمة لتطلعات حضارة الإنسان الأول، فإن قصص الخيال العلمي ترجمة لتطلعات الإنسان المعاصر مع التحفظ على فارق التفكير بين العملين والعصرين.”([2])
فإذا كان الكتاب البدائيين فى العصور القديمة حاولوا إعادة تشكيل العالم وفق رؤية محددة، فإن كتاب الخيال العلمى اليوم يحاولون خلق العالم واكتشاف الكون وفك طلاسمه وأسراره ,إعادة تشكيله برؤية حضارية جديدة، يساعدهم التطور التكنولوجى الهائل الذى يشهده العالم.
– الإرهاصات الأولى لأدب الخيال العلمى فى العالم الغربي والعالم العربي:
يرجع بعض الباحثين أن المحاولات الأولى لكتابة ما يشبه أدب الخيال العلمى إلى اليونان، والبعض يري أن أنها فى القرن السابع عشرمع عالم الفلك، حيث ألهمت الحقائق الرياضية عالم الرياضيات الألمانى المعروف ” كبلر”- وهو أول من توصل إلى الحساب الصحيح لمدار الكواكب – بأولى رحلات الفضاء فى الأدب…. وهكذا كتب قصة بالاتينية اسمها ” الحلم” نشرت عام 1634م، بعد وفاته، وبذلك كان كتاب” كبلر” مزيجًا من الخيال والأدب والمعرفة العلمية عن الفضاء”.([3])
أما محمود قاسم فيرى أن ” الكاتب الفرنسي فونتيل، هو أول كاتب لأدب الخيال العلمى ومن أهم رواياته ” لقاءات فى قمة العالم التى نشرها عام 1686م،وأكد فيها أن هناك حياة فوق سطح القمر والكواكب الأخرى”([4])
ومن المؤكد واللافت أن العقلية العربية قد طمحت إلى توظيف هذا الفهم قديمًا بلا تعلق بمصطلح ( الخيال العلمى)، وهذا ما أشار إليه الروائى والناقد السيد نجم فى بحث ألقاه فى مؤتمر (الخيال العلمي الأول باتحاد كتاب مصر)عام2016م بعنوان ( الخيال العلمى عند قدماء العرب) ، فقد أشار إلى عدد من المؤلفات التى وظفت هذا الفهم القديم ( الفاربى) فى كتابه ( آراء أهل المدينة الفاضلة) والذى صور دولة مثلى تحقق السعادة ، وهذه الفكرة تناولها توفيق الحكيم فى قصه قصيرة ( فى سنة مليون)، وصبري موسي فى ( حقل السبانخ) ، و( المسعودى) فى كتاب( مروج الذهب ومعادن الجوهر)، والذى قص عن الإسكندر الذى سعى إلى اكتشاف قاع البحر مما يشى بخيال أدبى طموح، و( القزوينى) عندما تحدث عن (عوج بن عنق)، والذى بدا وكأنه جاء من كوكب آخر، وصف الأعاجيب على الأرض، وشرح قصة الحياة على الكوكب.
وترى الباحثة أن رسالة الغفران للمعري وهي رسالة ذات طابع روائي حيث جعل المعري من ابن القارح بطلاً لرحلة خيالية أدبية عجيبة يحاور فيها الأدباء والشعراء واللغويين في العالم الآخر، وقد بدأها المعري بمقدمة وصف فيها رسالة ابن القارح وأثرها الطيب في نفسه فهي كلمة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ثم استرسل بخياله الجامح إلى بلوغ ابن القارح للسماء العليا بفضل كلماته الطيبة التي رفعته إلى الجنة فوصف حال ابن القارح هناك مطعماً الوصف بآيات قرآنية وأبيات شعرية يصف بها نعيم الجنة وقد استقى تلك الأوصاف من القرآن الكريم مستفيداً من معجزة الإسراء والمعراج، أما الأبيات الشعرية فقد شرحها وعلق عليها لغوياً وعروضياً وبلاغياً.
وعمل ابن طفيل فى القرن الثانى عشر قبل الميلاد (حى بن يقظان) قصة شخص يدعي حي بن يقظان نشأ في جزيرة بمفرده، بعيدا عن البشر أرضعته ظبية، وتعلم بفطرته وسلوكه الفردى، حتى اهتدى إلى الإيمان بالخالق عزو وجل، فهذه الرسالة تحولى مقومات الخيال العلمي، وتتحدث عن عملية التكوين الإنسانى، وأثر البيئة على الإنسان، فهى مليئة بصور الخيال العلمي الخلاق، وأيضا كتاب (الفرج بعد الشدة ) للتنوخى عام 384ه، وفيه إشارات واضحة عل اختراق الزمن، وهناك أعمال أخرى قامت على الخيال الجامح قصة رأس الغول .
هذه ارهاصات أولية لما عرف بأدب الخيال العلمى، أما البداية الحقيقة كانت مع الحرب العالمية واندلاع الثورات والحروب التى أددت إلى فقدان الثقة فى القيم والمباديء، لم يقتصر ذلك على العالم الغربي فقط بل العالم العربي أيضًا، ومصربصفة خاصة التى شهدت الكثير من الحروب وعانت من النكسات، فما كان من العقل المبدع إلا إيجاد نوع أدبي يستطيع وصف الواقع واللامعقول.
فنجد أن البداية الحقيقة لهذا الأدب فى عالم الغرب، تشكلت على يد جول فيرن الأديب الفرنسي الذى درس الجغرافيا والطبيعة وهو ما كان له أثرواضح فى مصداقية رحلاته، والأنجليزى “هربرت جورج ويلز” فقد نال درجة علمية فى علم الحيوان ودرس الكيمياء والطبيعة، فكتب لنا يوتوبيا جديدة، واخترع ( آالة الزمن).أما فى العالم العربي، فإن كافة الدراسات تجمع على أن ” البداية كانت على يد توفيق الحكيم فى قصة ( فى سنة المليون)1956 م ، ومسرحية ( رحلة الغد)، ثم جاء بعده يوسف عز الدين عيسي الذى قام بكتابة مجموعة من التمثيليات الإذاعية بدأ بتقديمها من الإذاعة المصرية منذ عام 1957″([5])
ثم كتب د. مصطفى محمود روايته العنكبوت 1964م، ورجل تحت الصفر 1967م، ومن بعده كتب نهاد شريف روايته ( قاهر الزمن)1966م، والتى تلتها ست روايات أخرى، وفى السبعينات كتب سعد مكاوى مسرحية ( الميت الحي) 1973م،وقصص ضمن مجموعته( الفجر يزور الحديقة)1975م، وكتب الأديب محمد الحديدى رواية بعنوان ( شخص آخر فى المرآة)1975م، ثم جاءت كتابات رؤوف وصفى، فبدأ بمجموعته القصصية( غزاة من الفضاء) 1979م، وفى الثمانيينات والتسعينات قدَّم الكاتب إبراهيم أسعد محمد مجموعته ( قصصأخرى)1980م، وحسين قدري روايته ( هروب إلى الفضاء ) 1981م، كما كتب صبري موسي روايته ( السيد من حقل السبانخ) 1986م، ثم قدم صلاح معاطى مجموعته القصصية( أنقذوا هذا الكوكب) 1986م، فمجموعته الثانية ( العمر خمس دقائق) 1992م، وكتب عمر كامل روايته ( ثقب فى قاع النهر ) 1987م، كل هؤلاء من مصر، وهناك العديد من الكتاب فى أنحاء متفرقة من الوطن العربي أمثال محمد عزيز من المغرب وروايته( أكسير الحياة ) 1974م، وطالب عمران من سوريا وروايته ( العابرون خلف الشمس) 1987م، وعبدالسلام البقالى ( الطوفان الأزرق) 1979م، …. وغيرهم العديد.
وترى الباحثة أن أدب الخيال العلمي أدب الحداثة والمعاصرة ، فطبقًا لقول صبري موسي والذى اعتبر أن ثورة 1952م،جلبت معها تجديدًا فى أساليب الكتابة الأدبية ، كانت رد فعل ضد التيار الرومانسي فأدب الخيال العلمى أكثر قربًا من هموم الإنسان المعاصر.
مفهوم الخيال العلمى:
لا يوجد تعريف واضح ومحدد لأدب الخيال العلمى ،و قبل الحديث عن الخيال العلمى لابد لنا أن نوضح أن الأدب بصفة عامة ما هو إلا خيال فهو تصوير تخيلى للفكر والوجدان و” تعبير لغوي فى أعلى وأكمل تجلياته”([6])، ولو نظرنا إلي مسماه لوجدنا ( خيال + علم) أى امتزاج الخيال مع العلم فى بوتقة واحدة يطلق عليها اسم أدب الخيال العلمى ، لأن العلم وحده ” لا يستطيع أن يستوعب( التخيلات الخارقة)، واختلافات الإنسان القديم( اللامعقولة) وخرافاته فى حين يفتح الفن و( بالتالي الأدب) صدره لاستيعاب الأساطير والخرافات والافتراضات الساذجة حول الكون”([7])
فالأديب من خلال الأدب يستطيع أن يفسر الكون وما يحيط به من ظواهر وكائنات من ناحية الشعور والوجدان، لذلك فالأديب الحق لابد له من الإلمام ببعض العلوم التجريبية والطبيعية والرياضية وغيرها من العلوم فيذكر ابن خلدون فى مقدمته ” الأدب هو حفظ أشعار العرب والأخذ من كل علم بطرف” ([8])
ولقد عاصر العالم عدد من الثورات (ثورتى البخار والكهرباء – الثورة الثورة الذرية وثورة الاتصالات والتقنية الرقمية)، كل هذه الثورات أدت إلى تطور مذهل فى الفكر والإيديولوجية، وفى النظر إلى الإنسان والمجتمع والكون من حولنا……..، وقدد أدى ذلك إلى نوع من الاستثارة العقلية والنفسية للعالم والفنان والأديب عل السواء” ([9])
فمع التقدم الحادث يحدث نوعًا من التداخل بين الأدب والعلم، بعد أن تمثل التداخل بين الأنواع الأدبية ، وقد ذكر هذا التداخل د. مدحت الجيار فى مقال له بقوله” إن تداخلًا شاملا سيعم العلاقات القائمة بين الأنواع الأدبية بعضها ببعضن ويتم التداخل بين الأنواع الادبية… ثم تداخل آخر بين الأدب من ناحية والعلوم من ناحية أخرى” ([10])
من خلال هذا الارتباط الواضح بين ( العلم) القائم على أسس وقواعد منهجية وبين ( الأدب ) القائم على الخيال، لذلك جاء تعريف ” يوسف الشاروني” : ( إنه نوع من المصالحة بين الأدب والعلم اللذين يعتقد كثيرون أن هناك تعارض بينهما، وهو تعبير عن أحلام البشرية ومخاوفها من آثار التقدم العلمى)([11])
فيوسف الشارونى يرى أن أدب الخيال العلمى مصالحة بين الأدب والعلم مما يدعنا للتساؤل هل كان هناك عداء أو خصومة بين الأدب والعلم ؟، للإجابة على هذه التساؤلات ترى الباحثة أن الأدب بكونه يقوم فى الأساس على الخيال فالأساطير والفانتازيا تعتمد على العبث والسحر والخزعبلات أما العلم فيتعامل مع حقائق ووقائع ثابتة بشكلٍ منهجى فهذا لايعنى أن هناك خصومة فما شهده العصر من تطور تكنولوجي قرب المسافات بالضديات القديمة، حتى أن علماء الاجتماع يؤكدون ذلك بقولهم ” إن الرواية الخيالية من المنظور الانثربولوجى هى الوسيط العظيم بين الأسطورة البدائية والأشكال الأحدث والأكثر تخصصَا “([12]) وهذا لا يعنى وجود عداء لكى تحدث مصالحة بل هو التقاء ومزاوجة.
ويعرفه مجدى وهبة بأنه ” الانتقال عبر آفاق الزمن، على أجنحة الحلم المشبعة بالمكتسبات والتطورات العلمية، فهو ذلك الفرع من الأدب الروائي الذي يعالج بطريقة خيالية تفاعل الإنسان مع كل تقدم فى العلوم والتكنولوجيا، ويعد نوعًا من قصص المغامرات، إلا أن أحداثه تدور عادة فى المستقبل البعيد أو على كواكب غير كوكب الأرض، وفيه تجسيد لتأملات الإنسان فى احتمالات وجود حياة أخري فى الأجرام السماوية، كما يصور ما يمكن أن يتوقع من أساليب حياة على وجه كوكبنا هذا، بعد تقدم بالغ فى مستوى العلوم والتكنولوجيا، ولهذا النوع من الأدب القدرة على أن يكون قناعًا للهجاء السياسي من ناحية، وللتأمل فى أسرار الحياة والإلهيات من ناحية أخرى” ([13])
فقد عدّ مجدى وهبة الخيال العلمى فرعاً من الأدب الروائي،لا تتفق الباحثة معه فى ذلك فهذا اقتصار للخيال العلمى على الفن الروائي ، فالأفضل القول بأن الرواية استطاعت استيعاب إمكانيات الخيال العلمى أكثر من أى جنس آخركالمسرح أو الشعر، أو القول بأنه ذلك الفرع من الأدب الذي يستخدم أسلوب السرد دون اقتصار على نوع محدد فهناك القصة والمسرحية والقصيدة ألم يكن هناك قصائد قائمة على فكرة الفانتازيا والخيال، فقد اقتحم الخيال عالم الشعر.
فهو نوع من الأدب يحاول تفسير حياة الإنسان والألغاز المحيطة به، ويقدم حلولًا لمشكلاته العصرية لذلك هو ” أدب المستقبل، يحلم باللحظة التى ينتصر فيها الإنسان على عوامل ضعفه فى الكون المحيط به، يحلم بالانتصار على الشيخوخة والمرض والبعث، ويكتشف الأعماق المجهولة فى المحيطات، ويلتقي مع كائنات العوالم الأخرى، ويهبط على الكواكب البعيدة” ([14])
ويري د. السيد نجم أن ملامح الخيال العلمى تتلخص فى كونه ” رؤية مستقبلية بتوظيف بدايات تقنيات ومنجز علمى أو نظرية علمية.. سواء باستخدام الغوص فى المكان أو الزمان، بهدف تحقيق سعادة الجميع.
لقد كان ميلاد “أدب الخيال العلمي” خلال العصر الحديث تعبيرًا إنسانيًا ولو من باب الخيال المحض حول الطبيعة، وتجاوز معوقاتها. فولد ذلك النمط الجديد للتعبير عن محاولة الإنسان إستلهام العلم ومحاولة تجاوز الواقع لإستشراف المستقبل.
وتري الباحثة أن أدب الخيال العلمى هو أدب يمزج بين الخيال والعلم، يجنح إلى عالم خيالى متكأً على تيمة العلم فى صنع مستقبل أفضل لإنسان العصر، وهو ليس بجديد بل تصاغ منه الرواية والقصة والمسرحية والقصيدة، يحاول الأديب التحليق إلى عوالم من نسج خياله، ويستدعى أشياء غير موجودة، ربما لا تمت للواقع بصلة،على الرغم من ذلك يراعى القوانين العلمية والنظريات، إلا أن من يتصدى للكتابة فى مجال الإبداع الآدبى (وفى كل الفنون) للخيال العلمى، عليه أن يعي هدفه: أن يتسلح بالمعلومة العلمية، ويتخير موضوعه والقارئ الذي سيتوجه إليه.
كما يلزم أن يكون الكاتب فاهما لجوهر حقيقة العلم، حتى لا يبدو أنه يعمل في إتجاه واحد وغير ملم بطبيعة العلم، التي هي: أن العلم قابل للفهم.. كل العلوم قابلة للتغيير والتطوير.. ليس بوسع العلوم أن تقدم إجابات على كل الأسئلة.. يعتمد العلم على الإثبات والبرهان.. وأن الخيال مشارك للأفكار العلمية في رأس العالم.
الخيال العلمي والفنون السردية:
تنوعت الطريقة السردية التى تناول بها مبدعو الخيال العلمى موضوعاتهم القصصية ، فكتبوا إبداعهم على شكل رواية أو قصة، أو حتى مسرحية، على أنه من الصعوبة تمثيل هذا النوع على شبكة المسرح، وكانت القصة هى الشكل المفضل، فالقصة تكثيف لما يشعر به الأديب يمكنه من الوصول إلى هدفه سريًعا ، وبعدد أقل من الصفحات، أما الرواية ففهى الطريقة السردية المثلى ، لأنها تعطى مساحة أرحب.
السؤال الذى يدور فى ذهننا عند سماع مسمى أدب الخيال العلمى ، هل اختلفت التقنيات التى يوظفها الكاتب عن بالبنية التقليدية المتعارف عليها؟
رأى بعض النقاد أن معظم الروائيون تمسكوا بالبنية التقليدية ، وإن كان الموضوع يتطلب بنية مغايرة، يقول عصام بهى : ” …… إن أدب الخيال العلمى ، على الرغم من خوضه فى موضوعات غير تقليدية فى كثير من الأحيان ، يقع فى التناقض حين يتمسك بالأبنية الأدبية والفنية التقليدية ، والتى لا تتفق… بل ربما تتناقض فى كثير من الأحيان كذلك ….. مع الموضوعات والأفكار الجديدة، والقضايا التى يخوض فيها ويعالجها”.([15])
ترى الباحثة أن كثير من الكتاب اختاروا الشكل الفنى الذى يتناسب مع موضوعاتهم، التى تناولها فى الرواية أو القصة، حيث يقوم السرد فى الخيال العلمى على استلهام القوانين والنظريات العلمية والكونية( النظرية النسبية –نظرية الكم – النظرية البيولوجية)، وهذا يعنى قدرة أكبرعلى الخلق الفنى فى التصور الذهنى للفكرة الجوهرية فى الخيال ، تلك الفكرة تكتمل ببناء شخوصها وأزمنتها وأمكنتها فى تسلسل مترابط للأحداث ومتوازن بين فنية العمل ( الأسلوب)، والفكرة التى تبنى عليها ، لذلك فالأمر ليس بالسهل .
وسأقوم بعرض سريع لأهم التقنيات السردية فى أدب الخيال العلمى من خلال التطبيق على بعض الأعمال السردية التى تناولت هذا النوع من الأدب بإختلاف تقينة كل فن سردى عن الآخر ففى فن الرواية ستكون (شيفرة آدم) الصادرة عن دار الطلائع 2014 للروائى المصري( صلاح معاطى)*، فن القصة ستكون حكاية (العملاق هومو) للروائى (السيد نجم) **نموذجًا.
الجانب التطبيقي:
أولاً: فن الرواية :
تتنتمى رواية ( شيفرة آدم ) للروائى المصري صلاح معاطى إلى أدب الخيال العلمى، وهى تعتبر إضافة جديدة إلى مكتبة هذا الأدب، والذى يعانى ندرة فى أدبنا العربي المعاصر، وما عرفه الأدب العربي من رواية الخيال العلمى يعتبر محاولة متواضعة، ويرى الناقد محمد برادة أن الأمر لا يتعلق بغياب رواية الخيال العلمى عن الأدب العربي، وإنما الأأصح أن نقول: ” هناك ندرة لهذا الجنس الروائي، قياسًا إلى الإنتاج الصادر فى الأقطار العربية”.([16])
نستقبل رواية شيفرة آدم بعتبتين نصيتين، ندخل من خلالهما إلى عالم الرواية:
العتبة الأولى: هى عتبة العنوان فالعنوان مكون بنائى فى النص، وله أهميته وعلاقته بالمضمون حيث “يقيم الصلة بالمضمون، وذلك لكونه يجلو عنه ويبين فحواه، وهو فى العمق غالبًا يعطى للنص قيمة من بين نصوص تنازعه الوجود([17])،كما يقدم نوعًا من الإثارة للمتلقى قبل قراءة النص، ويشير إلى أجزاء النص ،حيث يصنع علاقة رمزية أو صريحة مع المضمون، فيشير إلى الفاعل أو المكان أو الزمان أو الفعل أو أحد الأشياء فى النص.
فالعنوان فى رواية (شيفرة آدم) تدفعنا للتساؤل من هو آدم؟ هل هو اسم لشخص أم آدم يرمز لشئ ما؟ ، وكيف تحدث له عملية الشيفرة؟ هل نحن كبشر يحدث لنا هذا النوع من التشفير؟ كلها تساؤلات تثار فى ذهن المتلقي وتدفعه إلى محاولة كشف والوصول إلى هذا التشفير، وكيفية حدوثه ، سنجيب على كل هذه التساؤلات من خلال عرض رؤية الرواية والتقنيات التى استخدامها الكاتب فى إنتاج هذا العمل الروائى الذى ينتمى إلى حقل الخيال العلمى.
– جاء إهداء الرواية يحمل نداء إلى كل شعوب العالم يؤكد أن التكنولوجيا نتاج بشري من حق كل البشر فلا تستأثر به دولة دون أخرى.. “، ومن تبادل أفكارنا تتقدم البشرية، ولكي تحيا آمنا دعن أعش في سلام.. فربما تكون هذه هي شيفرة آدم“.
ويؤخذ على الإهداء أنه يوحي بفكرة تكريس مبدأ الحقوق على الواجبات، يقول في إهدائه:
فإذا كان من حقك أن تفكر فمن حقي أن أفكر..
وإذا كان من حقك أن تحتفظ بسرك داخل خريطتك التدميرية..
فمن حقي أن أحتفظ بسري داخل خريطتي الجينية..
الحقوق.. الحقوق، فأين الواجبات؟ نحن في عصر أصبح قرية واحدة، فأظن أننا في احتياج أكثر أن نقدم الواجبات على الحقوق، حتى ننجوا جميعا، فكل دولة تحاول جاهدة أن يكون لها ترسانة هائلة من الأسلحة، ولا تفكر أبدا في واجباتها تجاه الدول الأخرى“.
– فكرة الرواية:
تقوم فكرة الرواية على ما يعرف بـ “الذاكرة الوراثيَّة للخلية الحية”، وهو مصطلح يُستخدم لوصف مجموعة من العمليات في علم الأحياء وعلم النفس، حيثُ تمنحُ المادة الوراثيّة ذاكرة لتاريخ فرد أو نوع ما. ويُمكن أن يدل على الشيفرة الجينيّة للـدنا (DNA), أو التغيرات في المادة الوراثيّة, أو الغريزة المتوارثة, أو الذاكرة العرقيّة في علم النفس. ويُستخدم هذا المُصطلح أيضاً للدلالة على إحدى طرق التنبؤ في الحاسوب.
ومما أثار دهشة علماء الأحياء في شريط الحامض النووي الـ DNA هو أن الطريقة التي تمت بها كتابة تعليمات تصنيع الكائنات هي نفس طريقة التشفير الرقمي التي يستخدمها الحاسوب الرقمي لتخزين مختلف أنواع المعلومات في ذاكرته وفي تنفيذ برامجه !!.. ،والشيفرة الوراثية على شرائط الـ DNA هي من النوع الرباعي… وتعتمد على أربعة قواعد نيتروجينية : A- T- C- G ترتبط كل قاعدتين منهما ببعضهما البعض دون تبديل .. الـ A مع الـ T .. والـ C مع الـ G ..
ولا يمكن تعديل أيّ جزء من أجزاء الكائن الحي مهما بلغت بساطة تركيبه إلا من خلال تعديل المعلومات الرقمية المكتوبة على هذا الشريط !!.. وهذا يعني أن عملية تطور أيّ كائن حي إلى كائن حي آخر تتطلب إعادة كتابة أو تعديل برنامج التصنيع الرقمي المخزن على شريط الحامض النووي، وهذا يتناقض تماما مع التصورات السطحية والبسيطة التي وضعها دارون لعملية تطور الكائنات الحية !!!.ونرى إذا لم تكن بدايات الحياة عشوائية، فلا بد أنها قد نتجت عن عقل هادف.
ففى( شيفرة آدم) يقول الدكتور (شريف أيوب) شارحا ذلك، لنا ولآدم أيوب: “يجب أن تعلم أن أجسادنا مكونة من ملايين الخلايا.. الخلية الحية وحدها لديها قدرة فائقة على حفظ كم هائل من المعلومات أكثر بكثير من كل أجهزة الحاسوب التي أنتجتها البشرية حتى الآن.. تصور هذه القدرة الطبيعية على حفظ المعلومات هي التي تحافظ على الصفات الوراثية من جيل إلى جيل، ومع ذلك يمكن حفظ أي معلومات تخصنا عليها ونسخها آلاف المرات واستعادتها بسهولة عند الحاجة إليها”
تصور ما ستصير إليه البشرية في المستقبل القريب حسب تنبأَ كاتب الرواية في قدرة الخلايا الحية علي الحفظ والتخزين حيث تحافظ تلك الخلايا علي الصفات الوراثية من جيل إلي جيل من هذه الحقيقة العلمية ينطلق المؤلف إلي إمكانية حفظ أية معلومات تخصنا عليها بل ستكون أجسادنا بديلا عن الحاسوب وسيتمكن الإنسان من التحدث مع الآخرين بدون هواتف لأنه هوفى الأصل سيكون وسيلة اتصال ، فالرواية فى مضمونها تحوى رؤية مستقبلية وشيئًا مبهرا يدرج ضمن أدب الخيال العلمى لما فيها من تنبؤ قائم على أساس علمى هذه الرؤية المستقبلية تحوي شأنا مبهرا مطلوبا في روايات الخيال العلمى، فالإنسان دائما يسعى إلى التقدم والوصول للقمة، وأن الوصول إلى هذا التقدم هو من إنتاج البشر وحق لهم فلا تستأثر به دولة دون الأخرى، وأن هذا التقدم نتيجة تبادل الأفكار بين البشرية وهذا ما حاول الكاتب تأكيده لنا منذ اللحظة الأولى ( الإهداء(.
فهى تقدم ثوابت علمية تنطلق إلى تخيل موضوعى إلي إطلاع كاتب الرواية علي كثير من موضوعات العلم وحقائقها وشغفه بها ونلمس ذلك في دقة ما ذكر عن الجينات، وعلم الوراثة والذرة وغيرها من الأمور العلمية.
البناء السردى فى رواية (شيفرة آدم):
الحدث والشخصية فى شيفرة آدم :
هناك علاقة وثيقة بين الحدث والشخصية فى الأعمال الروائية، فلا شخصيات بلا أحداث ولا أحداث بدون شخصيات فالحدث كما يرى د/طه وادى:”شئ هلامى إلى أن تشكله الشخصية”([18])، وقد أوضح الكاتب الروائى الأمريكى هنرى جيمس كنة هذه الوضعية بقوله: “إن الشخصية هى التى تحدد نوع الحادثة، والحادثة هى التى توضح لنا طبيعة الشخصية“([19])، فالحدث يقع أولاً أمام أعيننا ثم يتردد صداه ،بعد ذلك داخل الشخصية، حيث تقوم الرواية على العلاقة الجدلية بين الحدث المادى والصدى النفسى للشخصية([20])،فضلاً عن الفعل المادى للشخصية، فالحدث فى الرواية مرتبط بالشخصية ارتباطًا تامًا .
وفى رواية ( شيفرة آدم ) يتم عرض الأحداث عن طريق ترتيب الحوادث ترتيبًا زمنيًا طبيعيًا بحيث يستهل الكاتب أحداث روايته بالبداية ثم الوسط ثم النهاية، أى يكون البناء متتابعاً من نقطة البداية إلى نقطة النهاية .
حبكة الرواية تتضمن صراع ونزال حول حل لغزين مهمين:
– ماذا كانت تتضمن الشيفرة التى يحملها آدم؟
– ومن الذين يطاردونه؟ وأين اختفي من؟ وهل استطاع الوصول إلى الدكتور برهان القليوبى؟ وهل فكت الشفرة؟ وهل استطاع هؤلاء المطاردون الحصول على الشفرة؟وكيف كانت نهاية آدم؟
تتعلق أحداث الرواية بشخص أبعد ما يكون عن العلم (آدم أيوب)ويطلق عليه (آدم بوب) كما يعرف في محال عمله فهو نادل يعمل في مطعم صغير في نيوجيرسي ومدرسة لتعليم الرقص وملهي يعزف به الجاز لكنه يحمل داخل خلاياه سرا علميا حقنه به ابن عمه العالم المصري شريف أيوب الذي يواجه تهديدا بالقتل إن لم يسلم ما توصل إليه من حقيقة علمية وبالفعل قتل ويذكرنا مقتله بما يتعرض له النابغين من أبناء العالم الثالث من اغتيالات وفي رأيي المتواضع أن مثل تلك الاغتيالات تعد جرائم ضد الإنسانية .أيا ماكان الأمر بقي علي آدم أن يوصل الشفرة وسرها إلي عالم في مصر هو برهان القليوبي وتبدأ عملية السفر أو قل الهروب من مطارديه الذين يعلمون أنه يعرف السر حول المعلومات التي توصل إليها ابن عمه العالم المصري شريف أيوب وتدور أحداث الرواية في أكثر من دولة بدءًا من أمريكا إلي إسرائيل ثم مصر، بل في أكثر من موقع في جو من الإثارة وسلاسة في العرض والقطع الذي يبرز قدرة الراوي في النقل الشيق وبالفعل كان ثراء الرواية بالأمكنة التي تدور فيها أحداثها خادما للحبكة بشكل فني ممتاز كما بين التنقل أوقل الهروب المدروس ويتمثل في عبارة حكيمة يزرعها الكاتب في وجداننا “إذا واجهتك أزمة يستعصي عليك حلها فكن شخصا آخر واصنع تاريخا لنفسك ” ونتيجة لإيمان آدم بأهمية ما يحمله من مسئولية تجاه السر بداخله أن يكون شخصا آخر وعليه الوصول به إلي من يفك شيفرته، ومن خلال رحلته للوصول إلي غايته نتعرف علي شخصيات الرواية .
إلي جانب (آدم أيوب) الشخصية المحورية شخصيات رئيسية أخري بدءً بـ “ونس أيوب “ رئيس قسم الهندسة الوراثية بكلية العلوم جامعة القاهرة, حاصلة علي جائزة الدولة التقديرية في العلوم ، حققت ونس الكثير من النجاحات والاكتشافات العلمية في مجال تخصصها ، توصلت في آخر أبحاثها إلي اكتشاف الصفات الجينية من خلال فحص الخريطة الوراثية وهي تحاول تطبيق ما توصلت إليه علي خطيبة أخيها وهالها طبيعة تلك الفتاة المتسلطة الأنانية ذات الميول العدوانية والأخطر ما بها من أمراض خطيرة ,ولا شك أن مثل تلك الصفات تدمر أية علاقة مستقبلة بين رجل وامرأة، نتساءل هنا عن خطورة ذلك البحث إن تم تطبيقة بصورة عملية عند اختيار أنثي للزواج ويعود بنا الأمر إلي ما قاله الرسول صلي الله عليه وسلم تخيروا لنطفكم … تمتاز شخصية ونس أيوب بالجدية والاهتمام بعملها إلي جانب حبها لأخوتها شريف و رجب وطارق وأدي ذلك إلي إهمالها لحياتها الخاصة فنسيت أنوثتها وحقها في دفء أسري .
أما أخيها الأصغر طارق فهو يتبنى مبدأ السرعة والعجلة في تحقيق ذاته وهي غير راضية عن رغبته في العمل كمخرج إعلانات،هو مثل شباب جيله يريد المال دون مجهود، ورجب الأخ الذي يشتغل في مجال الأعمال الحرة لا يهمه مع من يتاجر وهو منشغل عن أخته ونس وما تمر به من ظروف مرضية تحتاج فيها لمن يقف بجانبها فلا يبالي بصلة رحم أو أية علاقات لا تجلب له مكسبا. لم تجد ونس سوي أمل الألفي التي رشحها لها الدكتور حلمي زهران المهتم بها كزميلة عالمة متميزة.
فأمل فتاة مجدة قاومت القهر الأسري من قبل زوجة أبيها فهي تتحدث عن نفسها، تقول: “ أصبت بيتم الأم منذ مولدي،لم يستطع أبي الانتظار طويلا فتزوج بعد رحيل أمي بشهور قليلة فتحت عيني علي قسوة زوجة الأب “ وتمكنت بفضل حلمي زهران أن تدرس وتعمل وهي علي العكس من رجب تهتم بالآخرين وعاشت ما تمنته وعندما وقعت في الحب ثابرت لتفوز بمن أحبت … مثال لشخصية الفتاة المصرية المرحة المتفائلة ولعل في الاسم الذي اختاره لها المؤلف دلالة علي نقطة ضوء أو أمل في وسط عتمة وغموض المواقف .
وتجدر الإشارة إلي أن الرواية تعرض لنا ـ من خلال شخوصها ـ جوانب إنسانية قد لا تتوافر في موضوعات الخيال العلمي لكنها خبرة الكاتب وأدواته التي تمكن منها من خلال كتاباته الأدبية المتعددة .وكما أجاد في طرح الجانب الاجتماعي فأنه أجاد في الطرح العلمي ويمكن إرجاع ذلك إلي تتبعه بشكل واضح للمنجزات العلمية والأهم هو ما يراه من تصور لتطورها في مجال التطبيق .
ولا شك أن تلك الشخصيات التي رسمها الكاتب بكل حرفية تنامت وتطورت بتنامي الحدث وتباينت صورها واختلفت بشكل أعطي ثراء للحوار والسرد معا وعلي الرغم من ذلك التباين والاختلاف إلا أن الجميع في قمة الحدث كانوا متسقين مع الموقف من أجل حماية الشيفرة وإيصالها مهما كان الثمن وهو ثمن أدي إلي مصرع آدم أيوب ذلك البطل الذى حمل شيفرة الحياة وشيفرة الموت .
المنظور السردى فى شيفرة آدم:
يجيب مفهوم المنظور السردي عن هذا السؤال “مَنْ يَسْرُدُ الْحِكَايَة” ؟ ففى رواية شيفرة آدم من الذى يسرد الحكاية ؟
إنه راوٍ عليم بكل شئ، وإن انتقل السرد فى أجزاء بسيطة فى الرواية من السرد عن طريق رواى عليم بكل شئ إلى السرد الذاتى ( بضمير المتكلم )، هذا السرد الذاتى يتطلب غالبا راويًا مشاركًا في الأحداث برؤية داخلية، وهنا تتماهى شخصية البطل مع الراوي، حيث إن الراوي بتعبير عبد الرحيم الكردي ” في هذه الحالة يقترب من الشخصيات اقترابًا شديدًا حتى يصبح واحدًا منها، وموقعه يمتزج بمواقعها، ويصبح الزمان الذي يتحدث فيه هو عينه زمانها الذي تتحرك خلاله، إضافة إلى ذلك فإن هناك تلاشيا أو تضاؤلا للمسافة التي تفصل بين الراوي والشخصيات“([21]).
الراوى العليم: هذا الراوى يتابع الأحداث عن بعد،فهو يترفع عن المشاركة فى أحداث الرواية، ففى ( شفرة آدم) نجده مهتمًا بجميع أبطال النص الروائى بلا استثناء، فهو على معرفة تامة بنفوس الشخصيات، وبواطن الأمور وخباياها، هذا يعنى أن معرفته تفوق معرفة الشخصيات، فهو يترك الأحداث تأخذ مجراها.
يطالعنا هذا الرواى العليم منذ اللحظات الأولى، وهو يسرد لنا حياة الشخصية التى تحدُث لها عملية الشيفرة، ويكشف لنا عما يدور بداخلها، ففي الفصل الأول، يقدم لنا بلغة دقيقة وصفا لمشاعره وأحاسيسه، وهو خائف يترقب، حيث تحول كل شيء حوله إلى عيون بصاصة، نتيجة شعوره بأهمية ما يحمله في أعماقه.
يقول هذا السارد العليم:
” لم يحسب كم مر عليه من وقت وهو ينطلق بكل قوته في اتجاه الشرق باحثا عن شمس جديدة يشكو لها ما أخذته شمس الأمس. لم يفكر في اللحظة التي وصل فيها إلى سواحل نيويورك ووضع قدميه داخل الباخرة العملاقة الرابضة هناك سوى أن ينجو بنفسه وبما يحمله في طياته.. أحس وهو يسابق الريح أن الكل صار حارسا في يده سهم سيسدده نحوه وتحت كل موضع قدم سجنا سيفتح فوهته ليبتلعه، وأن كل طائر في السماء جاسوس سيرشد عنه”
هذا الراوى العليم وصف لنا حالة آدم أثناء اتجاهه نحو الشرق هاربًا من الغرب، فقد تمثل كل تفكيره فى النجاة بنفسه وبما يحمله فى طياته، لم يكتف هذا الرواى بوصف الحالة فقط بل وصف لنا إحساس البطل الذى يسابق الريح فقد رسمت له مخيلته البشر على شكل حراس يصوبون تجاهه نبال سهامهم، وأن كل مكان يضع عليه قديمه هو بمثابة سجن كبير سيبتلعه، وأن الطيور فى السماء تتبعه حيث يكون وسترشد عنه.
أما طريقة السرد الذاتى ( بضمير المكتلم) فقد وظفها الكاتب فى أجزاء ليست بالكثيرة من الرواية، وذلك لسيطرة الراوى العليم، فيقدم لنا آدم أيوب نفسه وهو بطل الرواى يسرد لنا بطريقة السرد الذاتى يقول:
” أنا المدعو آدم أيوب.. أول نسخة بشرية معدلة بعد أن تمت حوسبتها لتكون أعلى سعة تخزينية في العالم.. أدفن في أعماقي سرا مات صاحبه واستراح.. ليجر علي المصائب والهموم.. لو أطل أحدهم إلى وجهي لانكشف السر على الفور.. ولقرأ المستور على جبيني أو من بريق عيني، أو من تفصد العرق على جبهتي أو من برودة يدي.. وما يدريني أنهم حتى الآن لم يخترعوا جهازا يفك الشيفرة ويلتقط المخبوء بمجرد النظر أو اللمس..“
هو آدم بوب، أول نسخة بشرية حدثت لها عملية تشفير، بحيث أصبحت أعلى سعة تخزينية فى العالم،يدفن فى أعماقه سرًا، مات صاحب السر وتركه يجر وراءه المصائب، يخشي ممن ينظر إليه ربما يكشف سره، فلربما تم اختراع جهاز يفك الشفرات ويجلو المخبوء.
الزمان والمكان فى شيفرة آدم:
المكان:
اهتم صلاح معاطى فى (شيفرة آدم) بوصف المكان، فوصف الحارة التى اختبأ فيها آدم ( حارة هنبكة)، يقول السارد: “
في حارة منخفضة، تعلوها درجات بازلتية، كان آدم يهبط الدرجات وهو يتأمل ذلك العالم العجيب الذي نزل إليه وكأنه هبط من السماء.. واسترعى انتباهه سيدات يجلسن خارج بيوتهن، يتركن الدجاج والبط والأوز ترعي في الحارة وتأكل فضلاتها، وأطفال يطوف بعضهم حول بعض وهم يصيحون في غوغائية، وشباب يجلسون على مقهى يطلقون شخيرهم الفج ويلتهمون بأعينهم أجساد الفتيات في الذهاب والرواح.. والعجلاتي الذي يدق طوال الوقت لإصلاح الأعطاب التي طرأت على عجلاته.. الكل ساهر يقظ حتى البط والأوز اعتاد السهر مثل أصحابه فصار مثلهم.. متقلب المزاج.. عصبي الطباع.. يثور لأقل شيء ويملأ الحارة ضجيجا وانفعالا.. ”
الزمان:
إذا كانت روايات الخيال العلمى هى الشكل التعبيرى السردى الذى مكن من استخدام الزمن المستقلبى، مع اللعب بأزمنة الماضى والحاضر، من خلال استثمار معايير علمية متعلقة بالإنسان والكون والفضاء، فالزمن عنصرًا مهمًا في الدراسات النقدية الحديثة وفيه تنطلق أبرز التقنيات السردية المتعددة، كما أنه يمثل عنصرًا من العناصر الأساسية التى يقوم عليها فن القص، تقول سيزا قاسم: ” إذا كان الأدب تعبيرًا فنًا زمنيًا – إذا صنفنا الفنون إلى زمانية ومكانية –فإن القص هو أكثر الأنواع الأدبية التصاقًا بالزمن”([22])، هذا يعنى أنه لا يمكننا كتابة أى عمل روائى بدونه.
وبالتأمل في رواية ( شيفرة آدم)، نلاحظ اعتماد الكاتب غالبًا على الزمن النفسى (الداخلى) فى تناولات عديدة داخل رواياته؛ ذلك الزمن الذى لا يعرف ترتيبًا للأحداث، وإنما يكون الاهتمام الأول بالزمن النفسى الذى تعيشه الشخصية لعرض أبعادها النفسية والاجتماعية والفكرية، ولا شك أن بناء العمل القصصى بهذا الزمن النفسى، يجعله أكثر حيوية ومتماسكًا.
يقول السارد: ” لم يحسب آدم كم مر عليه من وقت في إغمائه.. بدأ يسترد وعيه وإدراكه.. يفتح عينيه ببطء يتأمل الحجرة الصغيرة الموجود فيها مترنحا على مقعد فوتي.. يلمح الشقراء تبتسم ابتسامة جذابة تتنافى تماما مع الشر المخزون في أعماقها من فرجينيا إلى الإسكندرية.. تسأله بصوت ناعم رقيق”
إن إحساس البشر بالزمن يختلف من شخص لآخر، ويمكن لنا حسابه لكن البطل هنا لم يحسب الوقت الذى مر وهو مغمى عليه، بل فتح عينيه ببطء وتأمل الحجرة ولمح الفتاة الشقراء تلك الفتاة التى تطاره من فرجينيا وصولا بها إلى الإسكندرية، فالكاتب من خلال وصف هذه الفتاة اسنطاع أن يرصد هذا التناقض فى ابتسامته الجذابة وما تكمنه من الشر.
وبناء على هذا سنقوم بتناول ” الزمن فى روايات الخيال العلمى ” باستخذام وسيلتين فنيتين تتصلان بالزمن النفسى؛ وهما:
1- الاسترجاع .
2- الاستباق .
1– الاسترجاع:
الاسترجاع تقنية زمنية تعنى استعادة زمن مضى بما فيه من وقائع وأحداث مهمة للشخصية التى تعيشه، وهو:(مفارقة زمنية إلى الماضى بالنسبة للحظة الراهنة الوقعة، أو وقائع حدثت قبل اللحظة الراهنة الواقعة أو اللحظة التى توقف فيها القص الزمنى لمساق من الأحداث ليدع النطاق لعملية الاسترجاع”([23])، أما عن وظيفته: ” فهى غالبًا تفسيرية: تسلط الضوء على ما فات من حياة الشخصية في الماضى، أو ما وقع لها من خلال غيابها عن السرد”([24]).
وفى رواية ( شيفرة آدم) تتذكر ونس أيوب رئيس قسم الهندسة الوراثية مناقشتها وحواراتها مع أخيها شريف العالم،
“كل شيء حولها يذكرها بشريف.. ذلك البيت الذي نشئآ فيه معا، حجرة المعيشة التي كثيرا ما جمعتهما، والمكتبة التي شهدت مناقشاتهما الساخنة حول كتاب ما، والحديقة التي طالما لعبا فيها، تتذكر كل هذا فتنتابها نوبة بكاء حادة.. لم تعد تستطيع الذهاب إلى الجامعة ومتابعة أبحاثها، فلا شيء له قيمة بعد رحيل شريف أيوب..”
ف(ونس) تحاول استرجاع ما كان يدور بينها وبين أخيها هذا الاسترجاع يكشف الحالة الآنية لشخصيتها ويحاول تفسير ما يدور من أجل الوصول لحل لفك تلك الشفرة، وتواصل استرجاع تلك المناقشات تقول:
“فقد أجرى شريف التجربة عدة مرات وقد حدثني بشأنها، بل دفعني دفعا لتوجيه أبحاثي إلى الربط بين الهندسة الوراثية وطريقة تفكيرنا وتعاملنا مع المعلومات وكأنه كان يشعر بما سيجري له فأراد أن يقول لنا تعلموا كيف تقرأون المعلومات المحفوظة داخل الخلية وبالتحديد على الشريط الوراثي “الدنا”.
2– الاستباق:
فيلعب الاستباق دورًا مهمًا فى رواية الخيال العلمى، ونعنى به هنا التنبؤ بما سوف يحدث مستقبلا بهذا الاكتشاف العلمى، أو الرؤية المستقبلية للعالم ككل، فقد اختلف الاستباق فى روايات الخيال العلمى عنها فى الروايات الأخرى، فففى رواية ( شفرة آدم) يدور حوار بين( آدم ) و( شريف) حول إمكانية استبدال خلايا الكائن الحى فى تخزين المعلومات بدلاُ من أجهزة الحاسوب المنتشرة.
أثار الموضوع اهتمام آدم فسأل بشغف:
– معنى ذلك أننا في المستقبل سنستبدل بأجهزة الحاسوب المنتشرة لدينا الآن في كل مكان أجسادنا التي ستقوم بنفس الدور..
أسرع يجيب:
– بالضبط.. فالمعلومات تترجم إلى نبضات كهربية استاتيكية تسطر على صفحة الخلية.. علما بأن القدرة التخزينية للخلية الواحدة تفوق قدرة أقوى جهاز كمبيوتر لدينا، فقد تصل إلى أكثر من 20 تيرا فلوب/ ثانية.. علاوة على استعداد الخلية الطبيعي لنسخ المعلومات عدة آلاف من المرات لكي يحتفظ بها الجسم، كما أنها ستستمر للأجيال القادمة..
مستويات اللغة فى شنفرة آدم:
لقد تعددت مستويات اللغة داخل النص الأدبى، بحسب البيئة الثقافة والاجتماعية للشخصية التى يجسدها، فثمة المستوى الفصيح الذى يمثل منطوق الكاتب فى لغة السرد، وكذلك الشخصيات المثقفة ( العلماء) اللذين تعددت صورهم داخل الرواية، والمستوى العامى الذى يبدو فى حوارات شخوص الرواية خاصة فى حار ( هنبكة.
– اللغة السردية :
وهى اللغة التى تجرى على لسان السارد، أى لغة الحكى والسرد، ويغلب عليها استخدام اللغة الفصيحة، وعادة ما تكون لغة الكاتب نفسه، والتى تنم عن ثقافته وقدرته على ابتكار الصور الإبداعية، وقد ارتبطت لغة السرد بالكاتب حيث تكشف عن أدائه فى الحياة، وتبرز مدى مقدرته على استخدام اللغة، ومدى سيطرته على أدواته الفنية، وتوظيفها بشكل مترابط، ولما كانت تلك اللغة مرتبطة بالمبدع، فقد وجب عليه أن يبدعها بالفصحى([25]).
يمتلك صلاح معاطي، حسا لغويًا عاليًا، يصل إلى درجة أن تصبح لغته “لغة شاعرة”، حيث نجد كثيرًا من الجمل الشاعرية داخل الرواية حيث الوصف الآخذ جماله وتلقائيته بالنفوس, مثل قوله:” لم تأبه الباخرة العملاقة بالأمواج الهادرة وهي تفور فورا فمرت غير عابئة لتقع في الشرك الذي لم ينصب لها ولم تكن يوما طرفا فيه، ثارت الأمواج لتتلاعب بالباخرة فصارت كالجبال.. وكأنها وجدت دمية تصرفها قليلا عن الصراع الأبدي المفروض عليها منذ الأزل..”
وتمتاز اللغة السردية بالوقفات الوصفية الجمالية التى تثرى النص متعة إضافية عند القارئ، وقد امتازت روايات الكاتب بإتباع ذلك الأسلوب من خلال مزج اللغة السردية بالوقفات الوصفية التى أشارت إلى متانة النص، لذا تأتيهم قبل وقوعها .
فالوصف من الأدوات الفنية التى يعتمد عليها الكاتب، فى الكشف عن الحدث، وأبعاد الشخصية، وتحديد الموقف الدرامى، والتخفيف من حدته، وتقريبه إلى ذهن القارئ، فهو من أدوات الروائى الضرورية فى السرد، فهو على المستوى الأسلوبى أداه مهمة، ويتشكل الوصف باللغة كأى عنصر آخر من مكونات بنية النص؛ إذ يتكون من جمل وعبارات، وتراكيب ودلالات، تنصب جميعها فى مقطع واحد، وباعتباره جزءًا من السرد _ ينبغى أن تكون لغته على درجة عالية (فصيحة)، تبتعد عن المغالاة فى التشبيهات والتفاصيل التى تضعف من القصة.
يقول السارد فى رواية ( شيفرة آدم)، واصفًا السماء راسمًا صورة فنية رائعة : “جلس في ركن بسطح السفينة يتأمل السماء الملبدة وكتل الغيوم وهي تتسابق مندفعة فتنقبض وتتمدد لتتشكل من جديد كخراف مذعورة ذاهبة وآتية معا، تُوجه إليها من بعيد عصا سحرية لكي تنطلق في اتجاه واحد لا تحيد عنه، تبتلع سرا غامضا تحوط عليه بإحكام خشية أن تفضحه أشعة الشمس المتسللة..“
فقد وصف السارد السماء وتغطيتها بالغيوم وبدأ يشرح عملية تكون السحاب والتى تتسابق وتندفع، وتبدأ بالحركة في السماء متنقّلةً من مكان إلى آخر بواسطة التيّارات الهوائيّة، ويمكن أن تنتقل رأسيّاً حسب وزنها وكثافتها، وبمرور الغيوم بمناطق باردة تبدأ جُزيئات الماء بالاتّحاد مع بعضها البعض،حتى أن الرواى وصفها بأنها أثناء هذا الاتحاد تحاول أن تبتلع سرًا غامضًا تخشي أن تفضحه أشعة الشمس التى تتسلل بينها وهذا يدل على شدة التحام الغيوب وكثافتها نلاحظ هنا أن الوصف فى رواية الخيال العلمى اتخذ منحى آخر وهو وصف مراحل تكوين السحاب وغيرها، وهذا يعنى الاهتمام بالمناحي الجيولوجية.
2– اللغة الحوارية:
وهى اللغة التى تتحدث بها الشخصيات مع بعضها، وتعد ركنًا أساسيًا فى إظهار طبيعة الشخصيات الحاضرة فى الرواية، وهى” اللغة المعترضة التى تقع وسطًا بين المناجاة واللغة السردية ([26])“.
وتتمثل هذه اللغة فى الحوار الذى هو: ” عرض (دراماتيكى فى طبيعته)، لتبادل شفاهى بين شخصيتين أو أكثر([27])“،فهو أداة لعرض آراء الشخصيات وأفكارها، والكاتب لا يأتى به بصورة
عفوية، وإنما لدلالة معينة، فهو ” ركن من أركان الأسلوب فى القصة، ويستخدمه الكاتب فى تكوين الشخصية، والتعبير عن آرائها ونظرتها إلى الحياة، وفى تصارع الشخصيات بعضها ببعض، وفى شرح عواطفها، وقد يستعمل أحيانًا فى تطوير أحداث القصة، ولكن عمله، الحقيقى المعاونة على رسم الشخصية والكشف عن دخيلة نفسها وتفاعلها مع الشخصيات الأخرى([28]).
أما بالنسبة للغة الحوار، فينبغى لها أن تبتعد كثيرًا عن لغة السرد، وأن يراعى الكاتب المستويات المختلفة للشخصيات، فينطقها بما هو معبر عنها فكرًا وسلوكًا، حتى يقترب من واقعها المعاش.
ففى رواية شيفرة آدم يدور حوار بين الدكتورة ونس والدكتور حلمى زهران الذى يجلس بجانبها، والذى كان يراقبها دون تعقيب،حول الشيفرة .
– الشيفرة التي وضعها شريف أشبه بتلك المعلومات الموجودة داخل الكروموسومات والحاملة للصفات الوراثية بل إنها تنسخ نفسها باستمرار.. هي موجودة بالفعل ولكن بكيفية معينة تعجز عقولنا عن إدراكها أو التوصل إليها..
– على أية حال لا تفقدي الأمل يا ونس، فالمعلومات الكمبيوترية التي وضعها الدكتور شريف داخل خلايا آدم تم تحويلها إلى معلومات بيولوجية عن طريق بروتين خاص.. سوف ينحصر بحثنا عن ذلك البروتين الذي يحمل تلك الشيفرة..
– نحن بحاجة إذن إلى معرفة البروتين الزائد أو الغريب داخل خلايا آدم.. عن طريق فحص الأجسام المضادة ومعرفتها بدقة. وكل بروتين غريب سنجد له جسما مضادا موازيا له..
وبهذه “اللغة الشاعرة” استطاع الكاتب أن يحقق المعادلة الصعبة وهي التحام الشكل بالمضمون, فرواية الخيال العلمي الجيدة هي التي تلتحم فيها المعلومة العلمية بالبنية الفنية بحيث تسقط الرواية وتنهار إذا نزعنا أيًّا منهم، ونجح الكاتب أيضا في توظيف هذه اللغة في التعبير.
ثانيًا- فن القصة القصيرة:
سأتحدث عن فن القصة القصيرة ، وأهم عناصره التى تتمثل فى ( اللغة – – الحدث- الشخصية- – الأسلوب)، وسأتناول قصة ( حكاية العملاق هومو) للروائي والقاص (السيد نجم)، تلك القصة التى تدرج ضمن أدب الخيال العلمى.
اللغة:
تأتى اللغة فى صدارة التقنيات الفنية التى يصوغ من خلالها الكاتب قصته، ” فاللغة لا تنهض فقط بعبء التعبير والتصوير، لكنها ذات دور بالغ فى إضفاء الحرارة والحيوية على النص الأدبي، كما أنها تلقي بظلالها وتأثيرها فى بقية العناصر فالبناء أساسه لغوى، والتصوير المكثف للشخصية والحدث يتكىء على اللغة، والدرامية فى القصة القصيرة تولدها اللغة الموحية والمرهفة، فضلًا عن قدرة اللغة على صياغة وتشكيل الأساليب الفنية، من حوار وسرد ومونولوج داخلى وغيرها”([29]).
وقد اتسمت حكاية (العملاق هومو) بملائمة ألفاظها للجو العام للقصة، تلك القصة التى تتناول فكرة إنتاج جينات جديدة للإنسان وأنه سوف يتم إنتاج إنسان عملاق ( هومو) من خلال الحقن بهذه الجينات، فعنوان القصة ( حكاية العملاق هومو) يثير الكثير من التساؤلات لدى المتلقي، من هو العملاق ( هومو)؟ كيف يتم إنتاجه؟ هل هو من فصيلة الإنسان؟ ماذا يحدث بعد إنتاجه؟
فى اللغة اللاتينية( هومو) تعنى إنسان ويتسم بضخامة حجمه، لكن هذا النوع انقرض، لم يتبقي منه سوى الإنسان المعاصر، هذا يعنى أن العلماء يحاولون إنتاج هذا النوع مرة أخرى فهل سينجح العلماء فى تنفيذ فكرتهم؟ وما هى العوائق التى سيواجهونها؟
فى هذه القصة تشيع الألفاظ ( الخلايا – الكائن الحى- صفات الخلية- الانفجارات الذرية ) كل هذه الألفاظ من شانها مساعدة القارئ على معايشة الجو العام للقصة، ومن ثم تفاعله مع الأفكار التى يريد الكاتب إيصالها لنا.
الحدث:
تدور أحداث القصة فى بناء متتابع فوق جزيرة الأحلام، تلك الجزيرة التى نجح العلماء فى منع كل ما يضرهم، واستطاعوا حماية أنفسهم، هؤلاء العلماء شكلوا ما عُرِفَ بمجلس حكماء الجزيرة، وقد توصلوا إلى إنتاج جينات لها مواصفات غير التى كانت عليها، تلك الجينات هى أجزاء دقيقة داخل الخلايا، كما أعلنوا قرب إنتهائهم من إنتاج الإنسان (هومو)، لكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، فقد حدث انفجار ذرى أدى إلى اضطراب الأمور فى الجزيرة، وعمت الفوضى فى كل مكان، ولكن استطاع هؤلاء العلماء التغلب على آثار هذا الانفجار، وأعلن الحاكم ابتداء عصر جديد بنجاح إنتاج هذا العملاق ( هومو)، وذلك عن طريق حقن سيدة بهذه الجينات التى تحمل كل الصفات التى يتمناها الإنسان، هذه الأم ستلد العملاق المنتظر، وبالفعل نجحت تجربة حقن الجينات، وأنجبت السيدة أول مولود يسمى العملاق( هومو)، كبر هذا العملاق بسرعة مدهشة، لكن بدأت تظهر عليه بعض الجوانب السلبية التى تتمثل فى ( العصبية)، هذا الجانب يرتبط بالجانب النفسي، هذا الجانب لم ينتبه إليه العلماء أثناء الحقن وإجراء التجارب، انتهت القصة نهاية مأسوية، حيث أصبحت تضج بالضجر والصخب، ولم تعد هادئة ووديعة مثلما كانت عليه فى السابق، حتى الشباب أعلنوا أنه يجب أن يحكم الجزيرة الشعراء والأدباء بعيدًا عن غلظة قلب العلماء، وعلى الرغم من ذلك ظلت النهاية مفتوحة، وتتلخص فى قول أحدهم:
“علماء الجزر البعيدة نجحوا في دمار الجزيرة من قبل.. بعد الانفجارات الذرية
التي استخدموها في صراعهم معا.
لذا أرجو من علماء جزيرتنا أن يتابعوا أبحاثهم بعيدًا عن أي صراع.. فلننتظر”
اتسمت النهاية بالترجى والتمنى، ألا يكف هؤلاء العلماء عن إجراء التجارب ومحاولة اكتشاف الجديد لكن بعيدًا عن أى صراع إنسانى يصيب البشرية، فلننتظر ماذا سيحدث هل سيواصلوان تجاربهم؟ هل سيبتعدوا عن مثل هذه الصراعات؟.
الشخصيات:
الشخصية جزء أساسي فى بناء القصة مهما بلغت حداثتها..فالشخصية فى قصة الخيال العلمى خاصة لا تقتصر على العنصر البشرى فقط، بل تمثل فى المخلوقات التى صورها الله سبحانه وتعالى فالشخصية هى محرك الحدث أيا كانت صوره، وشخصيات قصة (العملاق هومو) يجمعها مكان واحد هو الجزيرة شخوصها مغمورين وقلما يرقون إلى البطولة والبطولية فهم من قلب الحياة حيث تشكل التجارب العلمية الموضوع الأساسي للقصة القصيرة وليست البطولات والملاحم، ومع ذلك فقد وصف لنا الكاتب شخصية ( العملاق هومو)، فهو يعتبر محور القصة الأساسي الذى نتج من خلال نجاح حقن الجينات التى تحمل صفات مغايرة، يقول السارد: ” ليس أكثر من وليد يبكى ويأكل, كما كل المواليد.. يقضى أغلب ساعات اليوم من ليل أو نهار نائما!”
الأسلوب:
الأسلوب هو طريقة التناول، كيف كتبت القصة؟ فمهما كان الموضوع بسيطًا، فإن أسلوب الكاتب وطريقة تناوله بضفى عليه جمالًا، وفى قصة ( العملاق هومو)، استخدم السيد نجم الوصف ” وفيها يلجأ الكاتب إلى قطع الأحداث والمواقف؛ ليصف مشهدًا أو موقفًا، أو شخصية من الشخصيات وقد يصف الكاتب الأحداث، مبينًا خلال وصفه رأيه فى كل ما سبق، وحكمه عليه”([30]).
يصف الكاتب جزيرة الأحلام التى تدو أحداث القصة فوقها ، فيقول:
” فوق جزيرة الأحلام المطلة على زرقة مياه البحر, وطيوره البيضاء الجميلة. يتمتع سكان المدينة وزوارها بالهدوء والنظافة, بجمال الطبيعة وهواء البحر المنعش النقي”.
الحوار: هو من أهم التقنيات التى يتم من خلالها بناء عالم القصة القصيرة، وهو عبارة عن محادثة بين شخصين أو أكثر، وقد استخدم السيد نجم أسلوب الحوار ليكشف عن طبيعة هذا الإنجازالذى اكتشفه العلماء،والخطوات التى يجرونها لتنفيذ هذا الإنجاز،يقول السارد:
ما أن دخلوا المعمل, وقد أحكموا البذلة حول رؤوسهم وأجسادهم, لا حيلة أمامهم إلا الانتباه للدكتور لمعي يشرح لهم في صوت خافت وواضح الخطوة التي ينفذونها في هذا المعمل:
“إن المادة الوراثية التي تحمل الصفات المختلفة أو الاستعداد للأمراض وغيره,
هو حامض يوجد في نواة الخلايا, يسمى “د.إن.أيه” أو ﺇختصارًا “دنا”, وهو ما
أمكن إنتاجه في هذا المعمل”
ثم سار بهم مشيرا إلى الأجهزة المعقدة التي تقوم بهذه المهمة. وفى نهاية الجولة, بعد المرور على كل المعمل, تابع قائلا:
“الجزء من الخلية الذي يحمل هذا الحامض يسمى “بلازميد”, وهذا الجزء ينتقل من
خلية إلى أخرى في الطبيعة, عن طريق التلقيح والتزاوج والإخصاب, أي بإدماج
خلية ذكريه مع خلية أنثوية.. سواء في النبات أو الحيوان أو الإنسان.”
ما توصل إليه البحث.
فى الخيال العلمي يقوم عماد السرد على استلهام القوانين والنظريات العلمية والكونية، والنظرية النسبية، ونظرية الكم، والنظريات البيولوجية)، وهذا يعطى قدرة أكبر على الخلق الفنى والتصور الذهنى، وتكاملها فى الشخوص اللازمنية واللامكانية، مما دفع البعض على تصور أن صياغة هذا النوع من الأدب مقتصرة على أصحاب العلوم والاختصاص ، كما أن الأحداث فى أدب الخيال العلمى لا تدور على كواكب غير الأرض فقط، بل تدور الأحداث على كوكب الأرض أيضًا، ولا هو مجرد بحث فى أسرار الحياة والإلهيات، بل يوظف لأغراض أخرى كالتأمل فى المجتمع ومشاكله ورصد مفارقاته، واللغة المستعملة بصفة عامة فى أدب الخيال العلمى تتسم بالسمة العلمية، وتوظف فيها الأرقام، يقول محمد نجيب التلاوى” فى روايات الخيال العلمى تطالعنا لغة يمكن أن نسميها باللغة الوثائقية- إن صح التعبير- وهى لغة محملة بنقيضين هما : التطويل الجملى والعبارات التفصيلية مع الأسلوب التلغرافي( البرقي) الموجز للغاية، فى الحالتين يتحلى الأسلوب بأدوات الوثائقية العلمية، وأعنى بذلك الوجود الضاغط للأرقام والمصطلحات العلمية” ([31]).
(2) قصص الخيال العلمى فى الأدب العربي، دراسة فى تأصيل الشكل وفنيته، دز محمد نجيب التلاوى، دار المتنبي، باريس، بيروت، 1990م، ص38، 39.
(3) القصة العلمية الحديثة إلى أين،د,ى. هينجر، ترجمة ماجدة جوهر، مجلة الفكر المعاصر، العدد 52، يونيو1969م،ص79.
(5) متاهات السرد( دراسة تطبيقية فى الرواية والقصة القصيرة) شوقي بدر يوسف، مطبوعات الكلمة المعاصرة، إقليم غرب ووسط الدلتا الثقافي، العدد 16، الصديقان للنشر والإعلان، الإسكندرية،ط1، 2000م،ص 127.
(7) الوعى والفن، غيورغى غاتشف، ترجمة : د نوفل نيوفن عالم المعرفة، الكويت، العدد146، فبراير 1990من ص11.
(8) مقدمة ابن خلدون، عبدالرحمن بن محمد بن خلدون، حققها وضبط كلماتها: د. على عبدالواحد وافي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، مكتبة الأسرة 2006م، الجزء الثالث، ص 139.
(10) تداخل الآداب والفنون فى عصر التكنولوجيا، د. مدحت الجيار، بحث ألقي فى مؤتمر كلية الآداب جامعة المنيا بعنوان” الآداب والفنون فى عصر التكنولوجيا” عام 1994م.
(11) الخيال العلمى فى الأدب العربي المعاصر، حتى نهاية القرن العشرين، يوسف الشارونى، الهيئة المصرية الامة للكتاب، 2002م، ص 289.
(14) أدب الخيال العلمى، فاديا يوسف يعقوب، مجلة اتوباد السعودية، العدد 24، ربيع الثاني 1427ه- 2006م، ص162.
(15) الخيال العلمى فى مسرح توفيق الحكيم، عصام بهي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ن 1994م، ص82.
* ولد الكاتب والصحفي صلاح معاطي عام 1959 وهو عضو اتحاد كتاب مصر وعضو نادي القصة، وقد عمل مذيعا بعدد كبير من البرامج الثقافية بإذاعة صوت العرب، وعن أعماله الأدبية فاز بالعديد من الجوائز الأدبية في القصة القصيرة والمسرحية ، كتب عددا من الأعمال الدرامية للإذاعة والتليفزيون المصري ما بين السهرة والسباعية والمسلسل.
** حصل السيد نجم على بكالوريوس طب وجراحة الحيوان عام 1971، وعلى ليسانس الآداب، تخصص قسم الفلسفة عام 1980. عضو مؤسس بالهيئة الإدارية لاتحاد كتاب الانترنت العرب، ويشغل منصب نائب رئيس الاتحاد، وشغل من قبل منصب أمين سر الاتحاد. عضو مجلس إدارة نادي القصة بالقاهرة، وعضو مؤسس لجماعة “نصوص 9” الأدبية، وعضو اتحاد الكتاب المصريين. شارك في العديد من المؤتمرات الأدبية, واشترك في العديد من برامج الإذاعة والتليفزيون بمصر والعالم العربي.
[18] – طه وادى، دراسات فى نقد الرواية،مرجع سابق،ص28.
[19] – محمد حسين أبو الحسن، الشكل الروائى والتراث، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 2012م، ص 160، نقلاً عن، محمد عنانى، الأدب وفنونه، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة، 1997 م، ص 132 .
[20] – انظر، نبيل راغب،فن التأليف الروائى، دار مصر للطباعة، 1990م، ص44.
[21] – عبد الرحيم الكردي، الراوي والنص القصصي؛ ط1، مكتبة الآداب القاهرة، 2006م، ص120.
[22] – سيزا قاسم، بناء الرواية، مرجع سابق، ص 26 .
[23] – جيرالد برنس، المصطلح السردى، ط1، ترجمة: عابد خزندار، القاهرة، المجلس الأعلى للثقافة، العدد 2003، ص 25 .
[24] – لطيف زيتونى، معجم مصطلحات نقد الرواية، لبنان: دار النهار (د.ت)، ص 18 .
[25]– راجع، عبد الملك مرتاض، في نظرية الرواية (بحث في تقنيات السرد)، مرجع سابق، ص 132: 133.
[29]– فن كتابة القصة، فؤاد قنديل، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، سلسلة كتابات نقدية، العدد 123، يونيو2002م، ص 131.
[30] – الفن القصصي فى ضوء النقد الأدبي، بين النظرية والتطبيق، د. عبداللطيف محمد الحديدى، دار المعرفة لطلباعة والتجلي، ط1، المنصورة، 1996م،ص 220.
[31] – قصص الخيال العلمى فى الأدب العربي ، محمد نجيب التلاوى، دار المتنبي، 1988م، ص155.