أحمد منير أحمد
في البدء كان الصمت، الصمت الذي خرج من رحِمه كل الكلام، كل الحكايات، بل كل الحياة أو الحيوات، وفي الختام أيضا كان الصمت، الصمت الذي هو النتاج الحتمي لكل الكلام، كل الحكايات، بل كل الحياة أو الحيوات.
“الكلام الكثير يقود أخيرا إلى الصمت، ثبّت قلبك على جوهر الفراغ”ـ كتاب الطاو
هكذا تصدّر لنا منصورة عز الدين روايتها ” أخيلة الظل” الصادرة عن دار التنوير – يناير 2017 بمقولة لاوتسو في زهرة حكمته الطاوية، في استهلال بديع لما نحن مقدمون عليه من تجربة فريدة لخلق وتشكيل عالم بل عوالم متكاملة ومتنامية بدأت من اللا شيء ثم تنامت ووصلت للذرى ماديا ومشاعريا واجتماعيا ثم تلاشت وعادت لصفحتها البيضاء من الصمت مجددا.
خلط وتماهٍ عجيب بين الواقعي والمتخيّل، بين الحلم والواقع، بين الماضي والحاضر زمانيا، ويبدو أن هذه الخلطة هي خلطة عز الدين المفضّلة، ثم أخيرا هنا بين الشرق والغرب مكانيا، تمازج يخلط الجميع بالجميع لتتكون خلطة الحياة التي لا تعرف الفارق، بين الأصل والصورة، بين الأشياء وظلالها، بين الأشخاص وخيالاتها، الحياة سيّالة ومستمرة بكل بنيتها والتي يعتبر كل جزء فيها مسكون بشفرتها ويحتوي على سرّها، فمن رحم الموت والمذابح تفر ناجية شرق أوسطية تكوّن حياة كاملة من أبناء وحَفَدة يكون أحدهم ضلع رئيسي في عالم روايتنا، ومن رحم الماضي يتشكل حاضر جميع الشخصيات وإن توهموا مقدرة على الهرب منه لكنهم لن يتمكنوا سوى من معايشة ظلاله.
عالم سائل لكنه متماسك تماما ربما من فرط سيولته، عالم يبدو صلدا ومتماسكا، لكنه ينطوي على محيط هائل من السيولة واللا يقين والشكوك، هكذا أتصور العالم الذي نسجته عز الدين في روايتها والتي قد أعدّها بالتأكيد محطة في غاية الأهمية في مشوار منصورة الفنّي، بل وعلامة فارقة في الكتابة الروائية للجيل المعاصر على مستوى التجريب في المضمون والتناول والتقنية.
“خرج ابن آدم من العدم قلت يااااااه
رجع ابن آدم للعدم قلت ياااااااه
تراب بيحيا، وحي بيصير تراب
الأصل هو الموت و الا الحياة؟!
استدعيتُ هذه الأبيات للعم چاهين بقوة وأنا أقرأ رواية عز الدين بتصديرها في بداية النص عن الصمت الذي هو البداية والنهاية، الرواية وبكل عوالمها العجيبة نشأت من لحظة موغلة في الصمت، مقعد خشبي على ضفة نهر الفلتافا في مواجهة متحف كافكا تجلس عليه امرأة بدينة بجوار رجل ثم يبدأ كل شئ، كل هذا العوالم فيما بعد تنشأ من العدم/ الصمت ثم مآلها إلى العدم/ الصمت بعد مرور حالة من التهويمات واللا يقين والسيولة الحادة عبر مزج الماضي بالحاضر، والقاهرة ببراغ بموسكو بسياتل بسالونيكي، ومزج الشخصيات المُتخيلة بالواقعية، والتي في لحظة ما لا تستطيع أن تحدد أو تمسك بالشخصيات الواقعية في الرواية من المُتخيلة أو تجزم من صنع من أو من كتب من؟!
عز الدين توضّح لنا منذ البداية أنّ الأمر مجرد لعبة، مثل الحياة تماما أليست كذلك؟! لعبة تخيل “تخيلوا معي…”، وبالرغم من أنها توهمنا أنّها مجرد لعبة روائية، مجرد قصة وحكاية، لكنها حكاية لن نستطيع بعد قليل إدراك كاتبها من مكتوبها! إذن نحن فنيا بصدد كتابة عن الكتابة أو رواية داخل الرواية بل روايات وقصص قصيرة وعدة أشكال سردية داخل الرواية الام التي يرويها راوٍ عليم بكل تفاصيل الشخصيات والأمكنة والأزمنة، والحقيقي والخيالي واليقظة والحلم.. إلخ في محاولة تجريبية لإدخال القارئ أو إيهامه بإشراكه في المطبخ الروائي نفسه، مسألة تحضير الشخصيات وإعداد مسرح الأحداث وخلقه وتشكيله كليا بل وفي النهاية هدمه، ولمَ لا إن كنا نلعب؟
“ما لنا والقصص؟ لنتركها للكتاب والمشغولين بالحكايات ذات المغزى، ولننغمس نحن في قد يعيننا على تزجية الوقت…”
لكن منصورة عبر وهم تحطيم المعنى/ المغزى، فإنها تخلق كل المعاني بطريقتها غير المباشرة، فالكتابة هنا تتخطى ذاتها لتصبح لعبة الحياة نفسها، أو بمنطق الرواية هي ظل للعبة الحياة بكل سيولتها وتهويماتها وضبابيتها، تخيلت نفسي في بداية العمل أمام صفحة ناصعة البياض تشع بالصمت، تبدأ بهذا المقعد الخشبي حيث تنظر امرأة تجلس عليه بين قدميها، لحظة تكثيف وتركيز لنقطة واحدة وكأنها النقطة صفر التي سينفجر منها الانفجار الكوني الكبير لعالم الرواية، كي تتراكم الصور والأحداث، صورة بعد صورة وحدثا بعد حدث، يصل في بعض الأحيان لمذابح ونيران قصف وتدمير، أو علاقات حب وجنس أو أخوة وفقد، أسر تقام وتتعثر وتنهار، وأسفار وأنهار وعوالم تتوالد من عوالم في انتقال سلس شفيف ما بين الأمور وظلالها.
وكما هي الحياة بشكوكيتها بل باندماغها الكامل مع أصلها العدَميّ، فكذلك عالم كتابة عز الدين داخل الرواية، لا تعرف فيه إن كان “الأصل هو الورق والا الحياة؟” الأصل أولجا أم كاميليا؟ هل كاميليا هي نتاج أحلام أولجا في يقظتها على تخوم السُكر، أم أنّ أولجا هي نتاج خيالات كاميليا على مقعدها الأثير في حديقة صغيرة مقابل دار الأوبرا؟
خيالات وظلال والكل فيه مسحة من ظلال الكل، على صعيد الشخصيات، كاميليا في علاقتها المرتبكة بأبيها هي ظل ساندور في علاقته المفتقدة لأمه، وكاميليا ظل لأولجا حيث كلاهما يكتب بل يصنع الآخر، وكاميليا أيضا ظل لفلاديمير في نشاطهم المفضل بالمشي على ضفاف الأنهار، النيل في القاهرة والفلتافا في براغ، آميديا المسكونة باللون الفيروزي ظل لفلاديمير الممسوس بالأزرق، وروز التي تحلم بكونها وردة تتهاوى وتتناثر، ظل لكاميليا التي تصر على استعادة وردة حمراء تتناثر بتلاتها، والأماكن ظلال للأماكن حيث مقعد القاهرة القريب من النيل ظل لمقعد على الفلتافا، والازمنة ظلال للأزمنة فالماضي هو ظل الحاضر بكل تشكله، كلنا مسكونون بظلالنا التي تؤثر بشكل رئيس في حياتنا، فجميع شخصيات الرواية ونحن معهم مسكونون بظلال الماضي، روز التي تعيش حياة تعتبر ظلا لحادثة فقد أختها، وكاميليا المسكونة بركلة أبيها، وآميديا التي عاشت طوال حياتها تتهرب وتتنكر لماضيها كي يتمثل لها بكل قوته في نهاية حياتها فتستعيد لسانها ولغتها الأصلية في دحر لفكرتها التي عاشت لأجلها كي تهرب من ماضيها.
لكنّ الظل والأصل في حالة تفاعل وتبادل مستمر مثلما هو الكاتب وشخصياته الفنية حتى تنتهي فلا تعرف الكاتب من شخصياته، ففلادمير مثلا يشعر بأنه شخصية فنية في تلافيف عقل كاتبة، مثل سائل يتشكل بشكل الإناء، لكنه بدوره عبر غطاء الوداعة والاستسلام الظاهرين ينخر في الإناء يشكله!
وبالرغم من التصريح المباشر لعز الدين بأننا بصدد لعبة هي تنسجها خيطا خيطا أمام أعيننا “لنتخيل كذا وكذا…” بل وتدمغ الأسماء في بناء متصاعد لعملية تشكل أي عمل أدبي لكنك في النهاية تعيش كل هذه العوالم التي لا تعرف منشأها، على أنها حياة حقيقية تمس جوهرك فتجلس مكان آدم على مقعد براغ جوار كاميليا، وتفر لاهثا مع آميديا من مذابح وحرائق تنتفض لهولها، وتسهر وتسرف أموالا مع والد كاميليا، وتعيش حياة الترف الوهمي أو بقايا آثار الترف الزائل مع دولت، وتعيش آلام خسارة كاميليا جنينها.. إلخ
أمواج عاتية وسلالات متنوعة من الشخصيات والأحداث في استدعاء تقني لركيزة السرد الأساسية في ألف ليلة وليلة والتي تتمثل في الحكاية التي تتولد من الحكاية ثم العودة للحكاية الأم والانتقال برشاقة بينهما، لنسأل هل نحن أمام ساردة شهرزادية بلغة عصرية، هل نحن أمام عصرنة لحكايات ألف ليلة وليلة؟ هل نحن أمام طموح جديد بخلق ألف ليلة وليلة خاصة؟
أتصور أن منصورة وعبر أدواتها المفضلة من المواد الخام للحياة مثل الحلم والخيالات والنور والظلال، تتسق تماما مع رؤيتها الخاصة للكتابة ذاتها في طرح سؤال تريد أن تختبره بنفسها وتشاركنا هذا الاختبار، هل تملك الكتابة القدرة على التأثير في واقع متأزم أو خلق عوالم جديدة بديلة لهذا الواقع إن لزم الأمر فالرواية بمثابة اختبار جرئ وحثيث في الوقت ذاته، لأنه لا إجابات مسبَقة أو مضمونة، فقط طرح للسؤال والإجابة ربما لدى كل قارئ بشكل يخصه دون غيره.
أسئلة ومزيد من الأسئلة، لكنّ الأكيد أننا أمام حكايات ممتعة بلغة رائقة ومعبرة تخلق عوالم حية من شخصيات من لحم ودم تندهش من تفاعلك معها وإن بدأت بحيلة فنية أنها شخصيات ورقية أو ذهنية، عوالم تنبني “حيث بدأ كل شيء” ثم تنهدم وتنهار على نفسها في نهاية الرواية قبل أن تبدأ “انتهى قبل أن يبدأ” على مقعد الفلتافا ذاته وبجملة عادية جدا تسأل عن الطقس لكنها هذه المرة لم تنجب شيئا كي ندخل في حيرة جديدة، هل حدث ما حدث؟ هل تكوّن ما تكوّن؟ لنخرج عبر أسئلة الرواية إلى أسئلة الحياة، هل نحن أمام عالم واقعي كفاية؟ هل نحن.. وهل نحن؟ لكنّ الأكيد والواضح أنّ كل ذلك الذي وإن بدا حقيقيا فمآله مثل منشئه في النهاية إلى الصمت/ الفراغ الذي تنصحك عز الدين بصحبة لاوتسو أن تثبت قلبك على جوهره.