حاورته: عناية جابر
يعتبر الشاعر أحمد يماني المولود في القاهرة العام 1970، من الجيل التسعيني الشعري المتميز في العالم العربي. صدرت له أربع مجموعات شعرية: شوارع الأبيض والأسود 1995، تحت شجرة العائلة 1998، وردات في الرأس 2001، أماكن خاطئة 2008. وله كمترجم من الإسبانية إلى العربية: «خيمة اللبد» للشاعر الإسباني «ميغيل كاسادو». له بعض الترجمات إلى الإسبانية بالتعاون مع آخرين.
عن مجموعته الأخيرة كان هذا الحوار:
قصيدتك فلسفية متأملّة، وتهتّم بالتركيب الثقافي. الى أيّ مدى تعمل على القصيدة وما هي محفزاتك الى الشعر؟
في الحقيقة لا أعرف إذا كانت قصيدتي متأملة أم لا، لكنني أعمل على القصيدة في حدود، لا أقوم بالتصحيح كثيرا متتبعا نصيحة «بالنته»، حتى قبل أن أقرأه، ففي رأيه أن القصيدة زائدة التصحيح هي «حمل خارج الرحم» وبكلمات أخرى مصطنعة، يعني هذا أيضا أن القصيدة المتأملة ليست بالضرورة نتاجا لعملية استبطان داخلي طويلة أو أن مسألة «العفوية» تغيب عنها إذا شئنا الحديث عن تضادات أحسب أنها غير ذي بال، يتعلق الأمر في النهاية بالمزاج الشعري، بما يظنه الواحد شعرا. المحفزات إلى الكتابة عملية بالغة التعقيد، قد ندرك بعضها ولا ندرك البعض الآخر، هناك وقائع وخيالات ومواقف وصور وجمل تترد في الرأس وذكريات إلخ. تحضرني هنا كلمات «بيسوا» وهو يتحدث عن وجود الشعر في كل مكان وفي كل شيء، في المدينة والطبيعة وأنه يجد كنزا من الشعر في أشياء تافهة كشوارب قط مثلا أو في مفتاح وأن هناك فتنة روحية كاملة في منظر دجاجة تعبر الشارع مع أفراخها وهي منتفشة.
في مجموعتك «أماكن خاطئة» عن «ميريت» ثمة طموح جمالي الى قصيدة من دون عثرات، يمتزج فيها الحلم بالواقع في سرد داخلهُ عبثي لكنه ممسوك بإتقان. ما رأيك؟
أظن أن العثرات موجودة دائما، ربما أحب أحيانا أن أنساق وراء القصيدة، أن أتركها تعمل بحرية، تروقني كثيرا مقولة «بورخيس» التي ترى إلى الكتابة بوصفها استقبالا لشيء ما، بوصف الكاتب لاقطا، قد يكون هذا غريبا على كاتب كبورخيس نعرف جميعا عمل القراءة في أدبه، لدينا وادي عبقر في التراث العربي مثلا. ليس لهذه الفكرة علاقة بالميتافيزيقا ولا باللاهوت حتى وإن بدت قريبة من طرحهما، بل بفكرة أخرى تخص آلية الكتابة؛ إن الشاعر ناسخ يستقبل شيئا ويحاول أن يقوم بتوصيله. هل ثمة شيء سحري في الأمر؟ ربما، مما يعني أن عملية الاختيار الواعي ليست حاضرة تماما، يأتي الوعي بعد ذلك ليرتب وينظم وهنا يبدأ عمل الكاتب. لهذا تذهلني تماما رؤية شاعر متطاوس، أدرك على الفور أن في الأمر خديعة ما.
التواضع ليس اختيارا أخلاقيا، إنه فعل لا بد أن يكون متجذرا في بنية الشاعر نفسه.
تستعمل ضمير الغائب في أكثر مونولوغاتك الشعرية، لماذا؟ هل لأنه أقلّ التباساً من ضمير المتكلم وأكثر شاعرية؟
لا أظن أن ضمير الغائب أكثر شاعرية ولا أقل التباسا، بل لا أظن أن ثمة شيئا شاعريا في ذاته أكثر من غيره. يتعلق الأمر فقط بمنطق كل قصيدة على حدة في استدعائها لضمير أو لآخر، ربما تكون قصائد الديوان الأخير تحديدا، في جزء منها، منفتحة على آخر كبير وهو بالمناسبة ليس قناعا للأنا تتخفى وراءه بل هو آخر فعلي.
الى أيّ مدى يعني لك الشعر؟ وبنظام حسابي أين موقعه في حياتك؟ وكيف ترى الى المشهد الشعري العربي حالياً، ومن هم «رفاقك» في الشعر؟
لا أود أن أفكر في الشعر باعتباره مفصولا عن الحياة، باعتبار أن هناك كيانين كبيرين، الشعر من جهة والحياة من جهة أخرى. في تقديري أن ثمة أوهاما كثيرة تخص هذه المسألة، أن البعض مثلا «يهدر» حياته من أجل الشعر، كأن في الأمر تعارضا أو تضحية أو استدرارا لعطف ما يرغب أن يجنيه بكلماته هذه. أعرف مثلا أن بعض الشعراء لا يحبون قراءة الشعر كثيرا ويفضلون عليه أنواعا أدبية أخرى كالرواية مثلا، لكنني شخصيا أحب قراءة الشعر وأتلقاه دائما كهدية متواصلة.
أما عن المشهد العربي عموما فيبدو لي في حالة نادرة من الازدهار، إذا أردنا الحديث عنه إبداعيا وليس عن تلقيه، هناك تجارب هائلة لشعراء من أعمار مختلفة واشتغال دائم على لغة خاصة، خبرات تكاد تكون بحجم الشعراء أنفسهم، لا أظن أن هناك ما يسمى بأزمة الشعر، على العكس تماما، ربما نكون في لحظة تاريخية يتقدم فيها الشعر وحيدا بلا هالات من حوله، بلا سند خارجي، كما أنها بالتأكيد ليست لحظة معزولة عن محيطها، مفهوم الشعر تغير كثيرا وأعتقد أن الشاعر أصبح مستقلا بشكل كبير. ربما لا يتقدم النقد بالدرجة نفسها، لا يزال هناك من يناقش أمورا تجاوزتها الكتابة الشعرية تماما كغياب القضايا الكبرى وسيادة التفاصيل الصغيرة وما إلى ذلك، أعتقد أن القصيدة الحالية تجاوزت هذا النوع من التفكير الثنائي الضدية، لكن هناك إصرارا عليه من قبل بعض من يتناولون الشعر نقديا وهو دون شك عائق كبير أمام تلقي النصوص والتعامل معها بجدية. كذلك تعليب الشعر ووضعه تحت لافتات كبيرة دون التعامل، إلا في ما ندر، مع نتاج شاعر بعينه. ربما تمكنت الشعرية العربية الآنية من أن تضع يدها على وعي لحظتها وأن تفتح لنفسها طرائق تعبيرية تخصها، تبقى بعد ذلك مسألة التلقي وهذه مسألة أخرى لا أظن أن للشاعر دورا كبيرا فيها. ولأن الشعر أوسع بكثير مما يمكننا تخيله فإن رفاقي في الشعر كثيرون جدا، بالتأكيد لن يتسع المجال لذكرهم هنا.
كيف أثرت إقامتك الإسبانية على قصيدتك؟
انتقلت إلى إسبانيا وقد تجاورت الثلاثين من عمري بأكثر من عام، في الحقيقة لا أعرف إلى أي حد أثرت حياتي في إسبانيا على قصائدي، من المؤكد أن هناك تأثيرا ما قد لا يمكنني رصده حاليا، لكن هنا أصبحت لي حياة ثانية، احتكاك دائم بلغتين: القطالونية والإسبانية، حيث كنت أعيش في شرق إسبانيا، وكما هو معروف هناك أربع لغات رسمية في إسبانيا تتوزع حسب المناطق الجغرافية، على أن القشتالية أو الإسبانية هي اللغة الرسمية في كل البلاد، للأسف توقفت علاقتي بالقطالونية بعد انتقالي إلى العاصمة مدريد وإن كنت أحاول بين الحين والآخر قراءة شيء فيها.
كتبت كل قصائد «أماكن خاطئة» في إسبانيا، بعيدا تماما عن تلك الأجواء التي تعودت عليها في القاهرة بين الأصدقاء، توقفت تماما عن النشر وعن إطلاع الأصدقاء على قصائدي، ربما أردت أن أختبر نفسي في مكان جديد بشكل حر، المكان الجديد سمح لي بمساحة من التأمل البطيء، بمراجعة أفكار والانفتاح على أخرى وهكذا. ربما تعلمت هنا أن أكون أكثر تقبلا للآخر بالمعنى الواسع للكلمة.
ما يمكنني قوله إنني مدين لإسبانيا بالكثير من الحب والصداقة التي أعطتني إياهما بسخاء، قد تبدو الجملة عاطفية زيادة عن اللزوم، لكن هذا ما حدث فعلا. في المقابل فإن الحياة في الغرب ليست بالسهولة التي يتصورها البعض، مررت كثيرا بلحظات عصيبة، لكن وجود الأصدقاء، خصوصا، وعلى رأسهم «كاظم جهاد» بصداقته الاستثنائية ووقوفه الدائم بجانبي ماديا ومعنويا وتشجعيه الذي لم يفتر يوما جعل الحياة محتملة وكذلك صديقي المقيم في برلين «هيثم الورداني» وصديقي «عبد الهادي سعدون» في مدريد.
أيّ القراءات تستهويك ولمن، في الشعر كما في الرواية؟ عرباً وأجانب. ثم ما علاقتك بسائر الفنون: سينما، مسرح، فن تشكيلي، موسيقى؟
لا أريد التبجح بالقول بأن لدي قراءات متنوعة، ففي النهاية القراءة مسألة شخصية، لكن يمكنني القول إنني لا أقرأ فقط أدبا، يستهويني العمل الفكري عموما ودون الدخول في تفاصيل وأسماء. أقرأ لأنني ببساطة أحب القراءة منذ طفولتي المبكرة وحتى الآن.
يمكن للواحد أن يدخل عالم القراءة صغيرا وأن يتقدم فيه تدريجيا ودون عون كبير من الخارج، بينما بعض الفنون يحتاج إلى نوع من التربية لا تتوافر كثيرا في عالمنا. علاقتي إذاً بالفنون الأخرى بدأت متأخرة بعض الشيء، تجذبني السينما والفنون التشكيلية بشكل خاص، كل ما كنا نلهث وراءه من سينما جادة في القاهرة وفي حلقات ضيقة وجدته هنا في إسبانيا متاحا بسهولة، في التلفزيون وفي المكتبات العامة وفي أندية الفيديو، هذا ما أقصدة بالتربية الفنية، هناك قاعدة معلومات ضخمة تسهل التعاطي مع أي فن، الأمر نفسه ينطبق على الفنون التشكيلية من معارض ومتاحف وسهولة في الوصول إلى المواد. عملت مع الفنان «عادل السيوي» أوائل التسعينيات في مجلة «عين» وسرعان ما نشأت بيننا صداقة حميمة، تعلمت من عادل الكثير على مستويات عدة من بينها بالطبع الفنون البصرية، الأمر نفسه ينطبق على صداقتي الحميمة مع الفنان «محمد عبلة».
ــــــــــــــــــــــ
السفير 17 مايو 2010