ربما كان من اللائق أن أسجل أن السطور السابقة من قبيل التاريخ المضاد، باعتبار أن التسعينات تمردت على كل المعلوم من تاريخ الأدب بالضرورة. لكن من سخرية هذا التاريخ وملاحته أن قراء الشعر الذين تفتحوا على الحياة في التسعينات لا يعرفون قصائد أحمد طه بقدر ما يذكرونه بوصفه الشاعر الذي أطلق على هدى حسين وياسر عبد اللطيف وأحمد يماني وزملائهم اسم “الجراد”. ظهر الاسم من باب المزاح أولاً، لأن هؤلاء الشباب كانوا يلتهمون الأكل والمشروبات التهاماً، عندما كانوا يزورون الشاعر السبعيني. ثم إنه وجد في صورة الجراد تعبيراً عن هجمتهم على جماليات القصيدة التي كان سائدة قبل ظهورهم. لكن الإنصاف يقتضي أن نزور نصوص أحمد طه نفسها لنتلمس مدى قوة الوشائج الجمالية بين شعره وشعر التسعينات، لا سيما ما اصطلح على تسميته “قصيدة النثر”.
عام 1993 نشر أحمد طه لدى مدبولي ديوان “إمبراطورية الحوائط”. ومن الصفحات الأولى، يطالع قاريء اليوم سطوراً لا تكاد تختلف عن قصيدة النثر التسعينية من حيث ندرة المجاز والتركيز على التفاصيل اليومية وعلى أجواء وجودية بلا تفلسف وجودي، مثلما في قصيدة “31 ديسمبر” (ص 6) :
“فلماذا تحمل في الغربة خرجاً من أطلال/ تتصعلك في العالم منفرداً/ تبحث عن شارع يشبه شبرا/ ومقاه تشبه مقهى البستان/ تدخل باراً تدعوه المخزن/ وتحادث أجساداً من خزف”
قد تبدو الإشارة للأطلال في بدايات النص راسباً من رواسب القصيدة الجاهلية حيث يقف الشاعر على الأطلال. لكن الجو العام ينقلنا من تصعلك أقران امرىء القيس في صحارى الجزيرة العربية إلى صعلكة أبناء المدينة في نهايات القرن الحادي والعشرين إذ يرتادون مقهى أو باراً. وتعيين بار “المخزن/ ستلا” ومقهى “البستان” يحمل ملامح تفاصيل وواقعية وتقريرية صارت من المحددات الجمالية لقصيدة التسعينات، لا سيما في تعاملها مع حالات الجسد في مواقف “قصوى” مثل موقفي السكر والجنس. وبالقصيدة سطر استشرافي عن جماليات النثر. إذ تقر الذات المتكلمة بالآتي: ” ها أنت تحدثهم نثراً”، إذ سرعان ما يثبت شعراء الجراد والآخرون من جيل التسعينات جماليات الإيجاز والمحايدة والتفاصيل ويسمونها “قصيدة النثر”.
اللافت للنظر أن ديوان أحمد طه “إمبراطورية الحوائط” يحوي نصوصاً نثرية تقع تحت بند قصيدة النثر، مثل نص/ قصيدة “حكاية” (ص 8) أو المقطع بعنوان “حكاية” ايضاً في إطار متتالية شعرية طويلة بعنوان “بورتريه نهائي لأنور كامل” (ص 33-34). قصيدة النثر هنا تحمل معناها الأصلي عندما ظهرت عند بعض الشعراء الأوروبيين في القرن التاسع عشر، مثل بودلير. فهي نص نثري –مصفوف كالنثر لا مقطع إلى أسطر- به حس سردي عالٍ تعتمد إنشائيته الشعرية على بعض الصور الصادمة أو المفاجئة، وعلى الجو النفسي العام للنص ككل. في الحكاية الأولى مثلاً تتبع الذات المتكلمة رحلة إلى سور الأزبكية وتلفت النظر إلى تهتك الحدود الأيديولوجية في هذا الفضاء، حيث تتجاور في ألفة نصوص تنتمي إلى معسكرات أيديولوجية يعادي بعضها بعضاً. ويشير النص إلى تواز بين عالم الخمر وعالم الكتب، إذ يفصل بينهما شارع، مع تناقض بين تجربة الغربة في البار وتجربة الألفة بين الكتب المتناقضة، التي تتجاور فيها قصائد الحلاج مع قصائد نيرودا (ص9). هذه المفارقة تؤسس لملامح الشعر في النص، لكنها – مرة أخرى- تستشرف ملمحاً هاماً من ملامح قصيدة التسعينات، الا وهو البعد عن، بل والنفورمن الأيديولوجيات الكبرى.
ديوان أحمد طه يحمل إذن قصيدة نثر تسعينية قبل أن أن يظهر المصطلح، ويذكرنا بالعلاقة “التاريخية” بين قصيدة النثر “الأصلية” وقصيدة النثر في التسعينات. لكن يظل الديوان مدموغاً بهموم سياسية وجمالية قادمة من السبعينات في كثير من النصوص التي تتأمل في استقلال المثقف عن الخطاب القومي وحكم العسكر (مثلما في القصائد عن أنور كامل وجورج حنين) وفي حضور المجاز المعقد والإشارات الثقافية التي تتطلب قارئاً مطلعاً.
أما استشرافية الديوان – التي تدهشك كهدية مفاجئة – فتتجلى في لمحة كتبت حوالي عشرين عاماً قبل 25 يناير 2011 في قصيدة “حائط الحلم” (ص 13):
“واذكر/ قبل أن تبدأ معراجك اليومي/ أن الجنس ليس الطريق الوحيد/ إلى الثورة/ وإن كان أقصرها”.