أحمد طه.. البناء على جسورٍ منهارة

أحمد طه.. البناء على جسورٍ منهارة
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

قبل خمسة عشر عاماً أو ربما قبل أو بعد ذلك، أذكر أنني زرت الشاعر أحمد طه في بيته، برفقة الشاعر أسامة الدناصوري رحمه الله، ولا أعرف أين كان البيت، ولدي الآن حالة شك، فيما إذا كانت هذه الزيارة قد حدثت أم لا، لنقل إنها (حدثت ولم تحدث).. كدلالة على حالٍ قلقلة لعلاقتي كقارئ بجيل السبعينات من شعراء مصر، ومنهم بالطبع الشاعر أحمد طه، ولا يعني ذلك أنني لا أعرفهم وإنما أراهم، كما قلت في تقديم ندوة عن بعضهم مرة في القاهرة عام 2010 بما معناه (أنهم مؤسسون على جسورٍ منهارة).

كانت تلك الجسور هي الفترة التي أعقبت انهيار المرحلة الناصرية وبدء انهيار مصر كلها مع تولى أنور السادات السلطة ومن بعده حسني مبارك، وفيما كانت دولة السادات تنسحب من ثقافة الستينات، ووزارة الثقافة تصدر مجلة (الثقافة ـ الأصالة والمعاصرة) مُروِّجَة بإدارة عبد العزيز الدسوقي لما اعتبره اليسار المصري ثقافةً رجعية، كان شعراء السبعينات في شبابهم حينذاك يؤسسون بكراسات الماستر (لكتابة شعرية مختلفة) تتقصد لغةً مختلفة وقصيدةَ نثر كذلك، وهو المصطلح الذي يرفضه أحمد طه كتجنيسٍ لكتابةٍ شعرية، مفضلاً ما يقول هو عن نصَّه إنه (كتابة)

كان شعراء السبعينات ومن بينهم أحمد طه مغامرين في حصارٍ مفروضٍ على الجميع، وكان كذلك من بين جماعة أصوات، وإن كان قد مد مغامرته إلى (الكتابة السوداء 1988 والجراد 1994)  وهي مجلات أراها بقدر معقول من اليقين رجع صدى بعيد لموديل السريالية في فرنسا في القرن العشرين المنصرم، ولا يعني كلامي هذا حكماً على نصوص المجلتين بالسريالية أو بغيرها، وإنما أقصد الأفق الذي يطل منه أحمد طه في مغامرة (أنَّ شيئاً ما قد يتغير) وهي حال يصفها صاحبها بالطفولية:

(سواء مجلة “الكتابة السوداء” التى صدرت فى عام 1988 أو مجلة “الجراد” التى صدرت عام 1994 لا أعتقد أنه كان من الممكن استمرارهما فقد كانا إجابة لحاجة تخص ذلك الزمان وأولئك الأشخاص، ولم أطمح إلى استمرارهما لمجرد الوجود كان من الأفضل أن يموتا وهما فى طور الطفولة بما فيها من براءة ونقاء)

يمكن لنا وصف هذه الإجابة على سؤال (لماذا توقفت مجلة الجراد؟) بالتواضع، لكنها ليست كذلك، إنها تسليم بما آلت إليه حال شعراء السبعينات، من (استقرار النص) ومن المواجهة بكراسات الاحتجاج الشعرية رغبةً في التغيير أو حتى عدم رغبة، إلى أن يصبحوا في معظمهم (أبناء المؤسسة) حتى وإن رفض ذلك أحمد طه مشدداً على أنَّ إدارةً للشعر والقصة لا تكون إلا في دولة شمولية نسختها مصر الستينات من دولة الاتحاد السوفيتي.

(هكذا

ينبغي الآن أن أستريح

ينبغي الآن أن أبتني حائطاً

خلف حائط

وأن أنحني

خلف مملكتي

كإمبراطورٍ أخير)

يقول أحمد طه في كتابه (امبراطورية الحوائط).. فهل يمكن مد الدلالة إلى شعراءِ جيله، في ادعائهم الامبراطوري بالتأسيس لكتابة مغايرة تورطت في التغني بها أجيالٌ لاحقة، حتى جاء الفيسبوك وألغى جميع الامبراطوريات، فاتحاً الأرض كلَّها لمَن يكتب ولديه صفحة على موقع التواصل الاجتماعي؟

على أنَّ ما يروعني في (مغامر) هو (توبته).. وكأن الزمن لا يفعل شيئاً في البشر، إلَّا اعادتهم إلى بيوتهم مطمنين، و(الجراد) الذي كان يعني (التهام الأخضرَ واليابس) تحول إلى إجابةٍ كهذه:

(لا أحب مصطلح قصيدة النثر فقد تم ابتذاله كثيراً، وما يكتب في مصر باعتباره قصيدة نثر هو شعر حر أي متحرر من العروض والقوافي، وقصيدة النثر مفهومها أعمق من مجرد التخلص من العروض والقوافي، إنها كتابة تمارس أقصى درجات الحرية ولا تخشى امتزاج الإبداعات التي ابتكرها البشر على مر تاريخ ثقافاتهم)

الإجابة المنضبطة، العلمية بما هي إحاطة تامة.. الابتذال، إصدار أحكام القيمة “ما يكتب في مصر باعتباره قصيدة نثر هو شعر حر أي متحرر من العروض والقوافي”، تمارس أقصى درجات الحرية.. إلخ.. فهل كان أحمد طه ورفاق جيله لا يؤمنون حقَّاً بما يفعلونه في سبعيناتهم، قبل أن يتبينوا أيةَ جسورٍ منهارة تحت أقدامهم، فيلوذ كلٌّ بقناعاته مكتفياً بها عن أن يكون (كتابةً سوداء) كانت تسعى إلى قلب جوهر المجاز في النص الشعري المصري على الأقل، لإخراج اللغة من جمودها البيَّن، حتى في نصوص شعراء كبار سابقين على جيل السبعينات.

وهنا أختلف مع السيدة/ عبلة الرويني التي قالت في حوار معها بجريدة العرب بتاريخ 3 أكتوبر 2013، إن جماعة أصوات لم تقدم جملة شعرية واحدة على ما قدمه أمل دنقل، وهو رأيٌ شاطبٌ لتجربة ويتطلب تمحيصاً نقدياً، وهو رأيٌ يسقط بمجمله في منظورٍ سياسي لما يعنيه أمل دنقل كشاعر رفض، مقارنة بجيل السبعينات كشعراء رفض كذلك، وإن كانوا قد غادروا مائدة أمل دنقل بهمومها العامة إلى موائد الهموم الخاصة، بمفردات (قائمة الصدمة) إن جاز التعبير:

(سوف أقودهم كالعميان بين الخرائب

التي تعرفها قدماي

مشيراً إلى ما تبقى

من الفولاذ

والبلاستيك

والأعضاء الجنسية المعلبة)

وفيما كان أمل رسولياً متنبئاً بعيون زرقاء اليمامة، كان أحمد طه على سبيل المثال من بين شعراء جيله، قد أخذ زمام الفعل والقيادة..  (سوف أقودهم كالعميان بين الخرائب التي تعرفها قدماي)

وهي مهمة فعل لا استطلاع، على جسورٍ منهارة ما تزال ممتدة حتى اليوم، وبهذا المعنى فإننا جميعاً مدينون لشعراء السبعينات بالنزول بالشعر إلى (المستنقع) بالمعنى الإنساني والحياتي، وبهذا المعنى كذلك فإن الشعر المصري في معظمه لا يزال (سبعينياً) ومدينٌ للذين تجرأوا على الكتابة بالكتابة السوداء.

…………………….

هامش:

استندتُ في هذه الشهادة على مواد منشورة في مواقع إلكترونية منها:

ـ الجمهورية أون لاين.

ـ جريدة العرب.

ـ الجزيرة الثقافية.

ـ ألف.

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم