أحمد جاد الكريم: الكتابة تعويض عن الخسارات المتكررة

أحمد جاد الكريم
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

حاوره: محمود حسانين

بدأ الكاتب والباحث أحمد جاد الكريم مشواره مع الإبداع بكتابة الشعر ثم اتجه عام 2010م إلى كتابة القصة والرواية. صدرت له حتى الآن ثلاثة أعمال، وهي: رواية “ليالي السيد” الحاصلة على جائزة ساقية الصاوي للرواية القصيرة، والتي تسبر أغوار عالم الأولياء الصالحين ومريديهم من خلال وصف بصري ولغوي، ورواية “أحزان نوح” التي حصدت المركز الثالث في مسابقة المجلس الأعلى للثقافة عام 2014م، ورواية “تغريبة بني همام” القائمة على سيرة تخييلية لحفيد شيخ العرب همام، أشاد الكاتب والناقد إيهاب الملاح بالرواية وكاتبها، ووصفها بأنها: “عمل محكم؛ وقدرة عالية على الإمساك بخيوط سرده التي وزعها على مسارين يُنطق في أولهما الجبرتي، ويضع على لسانه الوقائع التي يريد والأحداث التي يختار ويمزج بين المتخيل والمرجعي مزجًا واعيًا، والمسار الثاني يكاد يكون كذلك لكن للراوي المعاصر الذى يناوشنا بحضوره ويقلقنا بوعيه ويثير إعجابنا بلغته وبقدرته المشهدية العالية فيما يتابع سرده بسلاسة وبساطة واقتدار”

كما جمع جاد الكريم بين الإبداع والدراسة الأكاديمية فحصل على درجة الماجستير عام2017م، ودرجة الدكتوراة في النقد والأدب الحديث في عام 2022م، وفي مجال القصة القصيرة، فاز بجائزة لجنة الشباب باتحاد الكتاب للقصة القصيرة عام 2014م عن قصته “رجل لا ينام”، كما فاز بجائزة “IRead”، عام 2019م للقصة القصيرة عن قصته “روح تائهة”.. إلى نص الحوار.

تغريبة بني همام استحضار البطل التاريخي واستنهاض مخلص جديد، أم معالجة لفكرة إحياء الموروث كما ألمحت في الروايتين السابقتين؟

لم يدرْ في خلدي لا هذا ولا ذاك، مسألة البطل التاريخي المُخلص الذي يحلم به البعض خارجًا من بطون كتب التاريخ القديمة، بسيفه وجيوشه الجرَّارة، تعلوه رايات النصر، وترفرف من فوقه الطيور الجارحة منتظرةً القتلى الذين يسقطون بين يديه فينقضون صوب وجبة شهية تكفيهم أيامًا عِدة، هذا ماضٍ ولَّى وانقضى، ولن يعود، بطولة الفرد أصبحت تراثًا قديمًا مُتحفيًا، يُدْرَس ولا يُحتذى به، أما الواهمون فهم كُثر، وأوجاع الحاضر، وظلمة المُستقبل تجعل الماضي زينة الدنيا، أما قضية إحياء التراث فلست معنيًا بها، هناك المؤرخون، وعُشَّاق المخطوطات، ومحققوها، هذه وظيفتهم، أم الفن فله أدوار مُختلفة، ما رُمته في الرواية هو معالجة فكرة الانتصار، الراية الخفَّاقة بحق، قد نجتمع على “فرد” لكن لا نؤلهه، ولا نرفعه إلى مقام الولاية، في “التغريبة” استدعاء للحظة متخيلة كان بإمكاننا نحن المصريين أن نواجه أعداء عدة، أن نحلم بالنصر، لا يهم أن ننتصر، النصر هو نتيجة الأحلام التي تختمر لسنوات وأجيالٍ عِدة، النصر الذي أقصده بوصفه معادلًا موضوعيًا لكسر همومنا، والتفكير في قضايانا ومشكلات مجتمعنا التي لا تنتهي. 

بين المدونات والظلال، هل ثمة معالجة موازية لاستلهام الفكرة، مما هو تاريخي وإسقاطه على الواقع؟

سِرت في الرواية على خَطين متوازيين، خطٍ يرسمه المؤرخ “عبد الرحمن الجبرتي” راويًا بضمير المتكلم أحوال مصر وقت دخول الحملة الفرنسية، ومنتظرًا قدوم “همام” الحفيد فاتحًا أسوار القاهرة، الخط الثاني قام به الراوي العليم الذي تتبع همامًا في تغريبته/رحلته من الجنوب صوب الشمال، قضية الإسقاط لم أقصدها، ربما تصل إلى المتلقي على نحوٍ ما، وهذا مقبول في الفن، كل نص قابل للتأويل، وربما يصل القارئ إلى أشياء لم تبرق في ذهن أثناء الكتابة، وفي النهاية النص ملك للمتلقي، وعلى الكاتب قَبول التأويل أو رفضه.

هل ثمة علاقة بين إبراز المواطنة، وفكرة مقاومة المحتل حتى وإن كان يصنع تغيرًا ثقافيًا لصناعة مجد زائف؟

سأجيب على هذا السؤال بسؤال آخر، لماذا يقوم المحتل بغزو بلد ما؟ لماذا يُنفق الملايين، ويُزهق مئات وربما آلاف الأرواح؟ هل من أجل إقامة الديموقراطية وإرساء قواعد العدل، ونشر العلم؟ بالطبع الإجابة لا، المحتل الفرنسي جاء ليجعل من مصر ولاية تابعة لفرنسا، تمسَّح “نابليون” بالدين، وأعلن احترامه للإسلام ثم لمَّا غضب داست أقدامُ جنودِه، وخيولُه اقتحمت باحة الجامع الأزهر، المواطنة بوصفها تقديسًا للمكان، وانتماء للبقعة من الأرض التي نبتنا من طينها، تظهر بكل تجلياتها وقت الأزمات فيعي كل مواطنٍ مصري سواء أكان مسلمًا أم مسيحيًا أن المحتل لا يهمه الدين، هو يكسب وُدَّ الجمهور كي يكسب أرَضًا جديدة، ويُطيل مُدة بقائه، يسلب خيرات البلاد، ثم يوهمهم بالمطبعة والمسرح، والمجمع العلمي!

ما هي القراءات المفضلة لديك، وهل ثقافة الإنسان تقف عند حاجز معين..؟

أحبُّ قراءة الروايات، والقصص القصيرة، ويأتي النقد في مرتبة تالية لهما، هناك مقولة “النقد الأكاديمي” التي دائمًا ما تُوصم بها الكتابات النقدية انطلاقًا من كونها جافة في الأسلوب، مليئة بالعبارات والمصطلحات الأجنبية الغريبة على القارئ العادي وحتى المثقف، اكتشفت أن كل ذلك من الأشياء التي نرددها دون أن نعي، ولا نختبر صحتها من كذبها، هناك نقاد يميلون إلى النقد الإبداعي، ويُمكن أن نتساهل فنطلق عليه الإبداع النقدي، أيا كان، هذه الكتابات لا تقل إبداعًا عن الإبداع الأصلي من شعر وقصة ورواية، وهناك كاتب عربي بحجم “عبد الفتاح كيليطو” يُحقق مقروئية عالية، وكتبه منتشرة حتى بين القراء العاديين، أجد متعة كبيرة في قراءة أعماله، وهو أكاديمي بارز، هناك تودوروف الناقد والمفكر البلغاري، نظرة إلى كتابه “الأدب في خطر” تجعلنا نعيد النظر في كثير من الأحكام الجائرة والتي نتناقلها دون وعي، ويرددها المبدعون دائمًا، وهناك الكاتب المصري سيد الوكيل، يمكن الاحتكام إلى كتابه “مقامات في حضرة المحترم” الصادر عن دار بتانة عام 2019م، وغيرهم من الكُتَّاب العرب وغير العرب. أميل أيضًا إلى قراءة كتب التاريخ، في المرتبة التالية له أجد متعة في قراءة بعض كتب الفلسفة لكن بشكل قليل، ولا أستطيع أن أتخلى عن قراءتي للشعر، ولي دومًا عودة كل حين للشعر القديم، في العام الماضي اكتشفت مناطق مجهولة في المدونة الجاهلية خاصة شعر امرئ القيس، وهناك قصائد غير مشهورة، لكنها دُرٌّ مخبوء تحتاج لمن يُحسن الغوص، والتقاط أجودها.

بالنسبة للجزء الثاني من السؤال، بالطبع ثقافة الإنسان لا يحدها حاجز، يمكن للكاتب أن يقرأ في أيِّ مجال، المهم أن يجد متعة فيما يقرأ، أتذكر أني قرأت مرة أن العقاد اشترى كتابًا عن الحشرات، فهو أديب وسياسي ما علاقته بالحشرات؟! بالتأكيد سيجد إما إفادة في هذا الكتاب أو متعة ما، قلت لك إنَّ لي قراءات في الفلسفة، وجدت فيها إمتاعًا ورياضةً ذهنية، وأحسست وقتها أني أُدرك أشياء موجودة من حولي ولكن لا أشعر بها، بعد حين كنت أنسى ما قاله كانط وبيرجسون، وديكارت، الفارابي وابن سينا، أنسى – حرفيًا- ربما أغلب ما قرأته، وكنت أعزِّي نفسي أني قضيت وقتًا ممتعًا مع تلك الأفكار، وأنها ربما تتسلل إلى نص سأكتبه في المستقبل، أو هي تتسلل خُفية فيما أكتبه دومًا دون أن أشعر.

ما طقوس الكتابة لديك؟

ليس لديَّ طقوس ثابتة، أحيانًا يساعدني طقس معين على الانطلاق في الكتابة، كسماع الموسيقى أو سماع القرآن، وأحيانًا أجد أن ذلك يُشتتني فلا أستطيع أن أتمَّ جملة واحدة، فألجأ لطقس الهدوء، في أوقات كنت أكتب وابنتي تشاهد أفلام الكارتون، لا أستطيع أن أتوقف، وفي أوقاتٍ أخرى يُضايقني صوت يأتي من الشارع، فيخدش السكون أثناء الكتابة، في النهاية أنا أميل للكتابة في جو هادئ، لا أكتب في المقاهي، وأتعجب من أولئك الكتَّاب الذين ينهون أعمالهم وهم جالسون على المقهى.

إلى أيِّ مدى يذهب الكُتَّاب لاستحضار الإلهام؟

مسألة الإلهام نسبية، تختلف من كاتبٍ لآخر، كنت واهمًا قبل ذلك وأظن أن الكتابة تحتاج إلى الإلهام، لأني كنت حديث عهدٍ بكتابة الشعر؛ ولذلك كتبت روايتي الأولى “ليالي السيد” صغير الحجم في عدة سنوات، لأني حينها وضعت يدي على خدي أنتظر أوقات تجلي الإلهام، وروقان البال، بعد ذلك تغيرت نظرتي، وأصبحت أنا أجلب الإلهام على طاولة الكتابة، في روايتي الثانية “أحزان نوح” خصصت وقتًا ثابتًا كل يوم، فأنهيتها في أقل من شهر، وتأكد لي كذب فكرة الإلهام، كتبت روايةً يتجاوز حجمها ضعف حجم رواية “ليالي السيد” بطريقة جلب الإلهام من “قفاه” كل يوم وأنهيتها في عدة أشهر، لكن لم يكتب لها أن تُنشر حتى الآن، على الكاتب أن يحذف من قاموسه كلمة “الإلهام” وأن يُدمن النظر في نصه الذي يشتغل عليه، وحتى ولو بتعديل بسيط كل يوم، وأن يُضيف – مع كل إطلالة- ولو سطرًا واحدًا فقط.

ما الفكرة التي حلمتَ أن تكون كاتبها؟

ليس لديَّ فكرة بعينها، الأفكار كثيرة، ولديَّ رصيد لكتابة عشر روايات، أنا لا تشغلني مسألة الفكرة بقدر ما تشغلني الطريقة التي سأقدم بها هذه الفكرة، ما الجِدة في التناول، وزاوية الرؤية المختلفة، وهذا ما يوقف مشاريع كثيرة ذات أفكار جاهزة.

ماذا قدم لك الإبداع  وماذا أضاف؟

سأبدل بكلمة الإبداع كلمة “الكتابة”؛ لأن الإبداع هو ثمرة ونتيجة يحصدها الكاتب جراء فعل الكتابة، ما قدمتْه لي الكتابة مزيدًا من الفهم، فهم الواقع، وفهم النفس، وأيضًا تأمل الأحوال، كنت أظن قبل ذلك أن القراءة وحدها قادرة على جعلي أكثر فهمًا لما يجري من حولي، والغوص داخل النفس، لكشف أسرارها، ومحاولة الإجابة عن كثير من الأسئلة المقلقة التي تتردد دومًا، لكن مع الكتابة امتدت مساحة التأمل، أعدُّها فُرصة للنظر بشكل مزدوج مرة إلى الخارج ومرة إلى الداخل، كتبت في شهر رمضان الماضي أكثر من عشر تدوينات على مدونتي، كلها عبارة عن محاولة للفهم والتأمل والإدراك، حتى الكتب التي كنت أقرأها، قلبت صفحاتها وأنا أكتب، تأملت في لحظات تمرُّ دون أن نعي بها، أدركت أن الزمن أكبر عدو للإنسان ليس لأنه ينهب عمره فقط، ويقضي عليه، لكن لأنه يسحق بمروره كثيرًا من اللحظات التي تحتاج للتوقف، والتأمل وإعادة النظر، هذه هي خسارة الإنسان الحقيقية أكبر حتى من خسارته لسنوات عمره، وجدت في الكتابة تعويضًا لتلك الخسارات المتكررة؛ لأنها تُمكِّنني من إعادة تلك اللحظات، من مساءلة الماضي، وتطويع أحداثه، وإدخالها “فرن” الإبداع لتصير نصوصًا قادرة على خلق المتعة في نفوس قارئيها، سأنهي كلامي بمشهدٍ مرَّ بي، منذ سنوات كنت أشرب كوبًا من الشاي المغلي -على غير العادة- رائحة الشاي وهي تصعد، أثارت فيَّ أحاسيس ومشاعر قديمة، تذكرت ذلك الطقس القديم، وقت العصاري، والتفاف الأهل منتظرين الأكواب الفارغة أمامهم لتُملأ، تطل الرائحة أولًا، وهي علامة على قدوم “البراد الصاج” ذي اللون الأبيض، وصوت انسكاب الشاي داخل الأكواب، تأمُّلُ هذه اللحظة أعادني إلى سنين تربو على الثلاثين، والأمر لا يقف عند تأمل ذلك المشهد في لحظته الآنية أو ارتداده نحو الماضي لكن بمدى الإدراك والوعي بكل هذه التفاصيل، ذلك الإدراك لا تخلقه سوى الكتابة التي تحول “العادي” إلى “جمالي”، وتبعث جذوة الماضي المطمورة في رماد الذكريات.

مقالات من نفس القسم