سامح قاسم
ليس من السهل أن يلتفت المرء إلى الغلاف ككائن مستقل، لا كسترة تخفي لحم الورق، ولكن ككائن يحيا على الحافة بين الفن والكلمة. في العالم العربي، حيث غالبًا ما يُختزل التصميم في زخرفة أو ترف بصري، خرج أحمد اللباد ليمنح الغلاف حياةً ثانية، بل أولى أحيانًا، ويصوغ منه قصيدة لا تُلقى، لكنها تُرى.
ابن الرسام الذي كان يُمسك العالم بين أصابعه — محيي الدين اللباد — لم يرث عن أبيه الحرفة فقط، لكنه ورث أيضًا الحذر من السطح، والإيمان بأن كل صورة، مهما صغرت، تختزن سردية، وتشير إلى شجرة أنساب مخفية، ودمٍ وأفكار تسري في العروق.
ولد أحمد اللباد في القاهرة، المدينة التي تعجّ بالألوان، لكنها تخاف منها. تخرّج في كلية الفنون الجميلة، لكنه لم يكتف بأن يكون “مصمم أغلفة”، وإنما أصبح قارئًا خفيًا، ينهش الكتب بعينيه ليعيد صياغتها في رموز مرئية، كأنما هو ناسخ من نوعٍ نادر، يكتب بالظل لا بالنور.
حين تُمسك كتابًا غلافه من تصميم اللباد، فإنك تمسك ما يشبه اللمسة الأولى قبل الُقبلة. شيءٌ هش، لكنّه يحرّك داخلك احتمالًا غامضًا. ليس الجمال وحده ما يشدك، وإنما المعنى الذي يتوارى خلفه، والشعور بأن ثمة يدًا خفية اختارت هذه الزاوية، هذا اللون، هذا الخط، لا لأنهم “يُجمّلون”، بل لأنهم “يفكرون”.
في أغلفته، لا يكاد الخط العربي يكون مجرد كتابة، لكنه يمتدّ ليغدو جسدًا، له قامة وله خجل، وله حركة تشبه شهقة أو انتظارًا. عناصره البصرية لا تملأ الفراغ، بل تنحته. كأن الأبيض لديه ليس غيابًا للون، بل وجودًا مقصودًا للصمت. هكذا فقط يمكن للفراغ أن يفسح المجال للحروف أن تتنفس، وللمعنى أن يطفو.
أحمد اللباد ليس فنانًا بصريًا فقط، هو أشبه بعازف منفرد في أوركسترا الحرف. يعيد ضبط الإيقاع بين النص والصورة، بين الهمس والصرخة. في الوقت الذي تتكاثر فيه النماذج الجاهزة، ويُنتج الغلاف في لحظة فتور ذهني، يُصرّ اللباد على أن كل غلاف هو حوار، لا إعلان. لا يحاول أن يجذب القارئ كما تُغريه واجهة محلّ، إنه يُحدّثه كما تُناجيه لوحة منسية.
ولأن الجمال لديه ليس صدفة، إنه مسؤولية، فهو يعامل كل غلاف ككائن له هويته، لا كوحدة إنتاجية. يعمل بصبر ناسك، ويمنح للنص احترامًا يكاد لا يلقاه حتى من كاتبه. لذا، لا غرابة أن نشعر ونحن نطالع أغلفة كتبه بأن شيئًا ما فينا يتباطأ. نقرأ الغلاف قبل الكتاب، ونحاول أن نفتح الباب دون أن نكسر حاجز الصمت.
هناك مصممون بارعون، وهناك شعراء بصريون، وهناك أحمد اللباد. الفارق أن هذا الأخير لا يُسلّع الجمال، بل يحرّره. لا يجرّ النص نحو الضوء، بل يُبقي عليه في عتمة تشبه رحمًا، حيث المعنى لا يزال يتخلّق.
يقولون إن الغلاف لا يصنع الكتاب، وربما هم على حق. لكن أحمد اللباد يهمس في آذاننا بأن الغلاف قد يصنع لحظةً، وتلك اللحظة قد تكون سببًا في حبّ كتاب، أو كرهه، أو ارتباكنا أمامه.
إنه يُعيدنا إلى زمنٍ كان فيه الرسم جزءًا من الخيال، والخط جزءًا من الشعر، واللون مرآةً للغيب. زمنٍ لم يكن الفن فيه خدمةً للسلعة، وإنما حوارًا مع الروح.
أحمد اللباد لا يستعرض. لا يتصدّر. لا يدّعي الريادة. لكنه، بتواضع العارف، وهدوء من يعرف أن الهشاشة قوة، ظل يصنع ما يشبه الجمال الذي يتنكّر في أبسط الأشياء: ظلّ حبر، انحناءة خط، زرقة غير مكتملة، حرف وحيد في بياض شاسع.
ولعل أجمل ما في مسيرته، أنه ظلّ يُخبرنا، دون أن يتكلم، أن الصورة ليست سطحًا، بل بابًا. وأن الغلاف ليس نهاية المطاف، بل بدايته.