أحلام منسية… قصص عن عوالم ذوي الاحتياجات الخاصة

أحلام منسية
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

فرج مجاهد عبد الوهاب

-1-

عندما يملك ساردٌ ما خبرة عميقة مدعومة بمرجعية ثقافية وقاموسية لغوية، ومعرفة بأساليب السرد وفنياته ويبرمجها في منتجه الإبداعي، إنما يفعل ذلك إيماناً منه بآلية التطوير التي لابد أن تصاحب الإبداع كسائر الفنون الأخرى.

وبالمقابل، فإنّ مثل هذا التفاني في الشغل على المنتج الإبداعي خلال ممارسة فعل كتابته، يؤدي إلى صياغات أسلوبية متطورة على مساري الشكل والمضمون.

من هذه الرؤية الواعية لضرورة الإخلاص في فعل كتابة المنتج المبدع، يبرز الدكتور  “عمار علي حسن” واحداً من المجودين والمجتهدين الذين أخلصوا لمنتجهم الإبداعي في فضاء كل من السرد القصصي والروائي، حتى استطاع أن يترك بصمة واضحة  في خريطة الإبداع السردي المعاصر.

هذه البصمة بدت واضحة في فنياته السردية في الرواية العربية المعاصرة، كما عزّزت وجودها المتميز في فضاءات السرد القصصي، فقدّم مجموعات قصصية عدّة، أثارت انتباه القراء والنقاد على حد سواء، مما جذبتها وتجاذبتها المسابقات القصصية العربية المعاصرة، وكان آخرها جائزة – الطبيب صالح العالمية للإبداع الكتابي – لعام 2011 على مجموعته القصصية اللافتة “أحلام منسية” وصدرت عن دار مدارات للنشر والتوزيع عام 2012 مضيفاً إلى فن السرد القصصي المعاصر تجربة جديدة جديرة بالاهتمام لما تضمنْته من مضامين إنسانية وحياتية ومجتمعيّة في تناول سردي ماتع وجاذب وجذاب.

-2-

ضمت المجموعة أربع عشر قصة قصيرة توزعت مساحاتها السردية ما بين ستة أسطر وخمسة عشر سطراً، متداخلة في موضوعات شديدة الحساسية مثل أصحاب الإعاقة من الأطفال حتى كاد هذا الموضوع يشكل قاسماً مشتركاً في معظم قصص المجموعة.

 نراه في قصة “أحلام منتهية” (ص7-21) وهي تروي حكاية “زياد” وأمه التي تعاني من مشكلته التي ترعاه بالأدوية الطب البديل من خلال الأغذية التي تساعد على تنشيطها وظائف المخ، ولا شيء يربطه بالعالم الخارجي غير الجمل البسيطة المفككة ووالده يجد في عمله في الخليج من أجل تأمين مصاريف العمل الجراحي الذي يحتاجه ويقدر المشاركة في عمل ما “لا يعلم أنني أمارس كافة المهن حين أغمض عيني في النهار الأبيض أما في الليل فلا أمارس سوى حب عذري لفتاة قمرية دافئة تجالسني، وعيناها مملوءتان بتألق النشوة والافتات”.

لم تكن غير البنت التي صادفها على كورنيش الخليج وسألته عن الساعة واسمه وجنسيته وعمله  “جمعت حصيلة إجاباتي المبعثرة في قبضتها ونشرتها في النسيم المتدفق فوق مياه الخليج ومضتْ دون أن تنطق بكلمة، حاول أن يسرد قصتها مع أخيه فلم يسمعه ويحكي لصديقه عن البنت التي سألته عن الوقت ومياه الخليج المسافرة إلى العراق، ومع أنه تناول الدواء فقد فاجأته نوبة الصرع وكانت شديدة هذه المرة، وشعر بأعماقه أنه يُحبُّ الشعر، فكتب قصيدة وأرسلها إلى صحيفة الاتحاد وجلس ينتظر نشرها وينصحه صديقه بقراءة الشعر وأعطاه أسماء عشرة من أسماء كبار الشعراء.

في المكتبة العامة اختار ديواناً لمحمود درويش، ويلفت نظره لافتة مكتوب عليها “علم النفس” تفحَّص الكتب واختار كتاباً كبيراً عن الصَرَع، الذي فتح له ذاكرة طفولته وفشله الدراسي وتأخذه تداعيات الأحلام إلى صورة الحديقة وفتاته القمرية والصحيفة التي تترامى فيها أبيات الشعر يعلوها اسمه ببنط أسود عريض ومَبنى كبيراً أبيض، تتمدد على مدخله لافتة مكتوب عليها: بلدية “أبو ظبي” ومبني آخر عليه لافتة باللغة الإنجليزية: تدل على أنه مستشفي لجراحات المخ والأعصاب.

ونرى مثل هذا التناول الإنساني للطفل المعاق في قصة “مات مفتوح العين” (ص57-66) وهي تحكي أيضاً معاناة الأم والأب وهما يواجهان مرض ابنهما الذي يحتاج إلى مدرسة خاصة، مدرسة تربية فكرية وهي في البندر ويروي حكاية الطفل الذي رغم إعاقته كان قوياً ونشيطاً يرعى الأرض والجاموسة العجفاء. وكان كلما اقترب من فتاة تقول له بقلب مرتجف، ولسان يكاد أن تموت الكلمات على طرفه من الهلع، تعال لتخطبني في المساء، يسأل أباه: أريد مهر العروس فيرد: سأزوجك بعد أن أبيع القطن، إلا أن الأب مات قبل ذلك فاحتضنه حنان الأم وهي تعلن بدموع حارقه “أحبّه أكثر منكن لأنه قضاء الله الذي لا اعتراض عليه، ولديّ يقين بأن الله يرزقنا لأنني وأبوكم نحبه لكن عقله لا يحمل تعقيدات الحياة إنه يعيش في دنيا بسيطة، صريحة لا تعرف الغش والخداع، وتموت أمه ويبكي عليها، فتقول له أخته الكبرى: الآن تبكي وأنت الذي تسببت في موتها ويسأل الجاموسة عن المعنى الذي تقصده أخته، وتراه بنت عائدة من الحقل نظرت إليه وقالت: ثور يكلم جاموسة فلم يعبأ بها واستمر في طرح الأسئلة وعندما سمعها ولد صغير وضع يديه على رأسه وقال له: تقول إنك ثور فاشتعل الغضب في أعماقه وهجم على البنت وطرحها أرضاً واعتلى جسدها ركلاً وعضاً وصفعاً وكادت تسلم الروح لولا عشرة رجال من أقاربها، استجابوا لاستغاثتها فانقضوا عليه واشتبكوا معه في معركة كان الخاسر الوحيد فيها حملوه إلى البيْت وهم يعضون أصابعهم من الندم: هذا رجل يرعاه الله ونحن اعتدينا عليه، رد آخر: سنداويه على حسابنا، وقال آخر: لو أبلغ أحد الشرطة سنتعرض للمساءلة فرد رابع: لا يجرؤ أحد في بلدتنا أن يفعلها، واكتفت أخواته القاسية بمبلغ ضئيل أخذته كتعويض ويشتد المرض عليه وراحت مشاعر أخواته القاسية تتحول إلى شفقة وحب أخوي حقيقي، ويسأل عن الجاموسة فقالت أخته: لم تخرج إلى الحقل منذ رقدتك وانقطع الحليب في ضرعها، قال متألماً: ستموت وتقول له أخته الكبرى التي جرّبت رعشة الهوى.

-ابنه البقال.. سندفع لك مهرها معنا نقود كثيرة.

ويطلب إطفاء مصباح الكيروسين ويقول لهن: نوركن كفاية

وكان يستسلم لشيء لا مفر منه، راح يزحف من أطراف أصابع قدمية متوغلاً في جسده المنهك حتى وصل إلى رأسه الضخم فأسكته لكنه لم ينل من عينيه الوسيعتين اللتين تحتضن البنات والصغير الواقف عند كتفه الأيمن يحدق في الفراغ.

وفي قصة “خارج العالم” الموزعة على أربع لوحات قصصية في اللوحة الأولى “مقلتان من حجر” الذاهبتان إلى البعيد دون أن تستقرا على شيء، حيث الأحلام المزعجة التي يملأها وجه الطبيب المسترخي خلف مكتبه، وهو يقول بعينين واثقين

-إنه متوحد.

فينطلق كلامه في عيني شلالات الدمع الحبيس، وتغور بي الدنيا إلى قيعان الألم، فأخرج من عنده والحسرة تأكل روحي.

لتندفع إلى ابنتها، تضع وجهه بين راحتيها، ثم تكلمه عن اليمامة التي مصَّ الثعبان دمها وتركض إلى غرفة نومه، كانت شفتاه منفرجتين في ابتسامة مشرقة لم ترها من قبل.. ومددت أصابعي في حذر حتى حطت على جفنيه، رفعتهما وصوت غطيطه في أذني، فبهرني ضوء يسطع من مقلتيه، لمعان مملوء بالفرح، سينطفئ حين يستيقظ عند الظهيرة.

وفي اللوحة الثانية “متفرجون” يتابع الراوي حكاية الطفل الذي لا يبالي بالذين تركوا خيام معرض البضائع وراحوا يتفرجون عليه، ولم يبال الناس بأمه العجوز السمراء التي تجلس جانبه هادئة البال ومن الزحام يهل شاب يمسك طفلة صغيرة تقدم نحوهما وهما جالسان أمام فتاتين تقرآن الكف عن طريق الكمبيوتر، تقدم والناس توقعوا أنه بمجرد أن يلمسه سيتوقف عن التصفيق، ونادى رجل من الزحام: تعال هنا يا زول. فجأة رأوه قادماً يصفق ويطوح رأسه في الهواء، راحوا يتقهقرون بسرعة، كاد بعضهم أن يدوس بعضاً، انتفضت المرأة العجوز وأخذت تجري وراءه، وهي تقول في انكسار:

-لا تخافوا منه، إنه لا يؤذي، إنه ليس عبيطاً.

وسأل رجل:

-ما هو إذن؟

-إنه متوحد.

في اللوحة الثالثة وعنوانها “لوحة”  كان الطفل يرقد على لوحة بيضاء، أحضرتها أخته لتستعين بها في الصحافة المدرسية وراح يمد الخطوط في عرض اللوحة وطولها ليرسم شارع الوحدة وبدا الشارع أمامي نفسه ينام تحت إبطيه كأن آلة تصوير عبقرية قد التقطته بأكمله.

وكدت أسقط من هول ما رأيت، فقد كان سن القلم يرسم اليد اليسرى التي تشير إلى البعيد، واليد اليمني التي تجذب طرف الغطاء على رأسها لتقيها شمس الظهيرة الحامية.

وفي اللوحة الرابعة  “رفرفة” تقول له وضحكتها تجلجل:

-يرفرف في بطني.

-طفل هذا أم هدهد؟

وولد طفلاً لكنه حين بلغ الثالثة صار طفلاً وهدهدا معاً أتركه حتى يهدأ ويمشي، إلا أنه يهز جسده بعنف ويمد ذراعه في الهواء وتيقنت من هذا حين رأيته يطارد يمامة حطت على الرصيف وكأنها اشتقاقت لصوت الهداهد، اقتربت منه ورفرفت على كتفيه ونامت على صدره أخذها إلى البيت فصارت لدينا يمامة وهدهداً وينخرطان في حوار لا أسمعه، وقالت أمه:

-يفهم لغة الطير، وقالو أبوه بأس.

-ولا يفهم حتى كلماتنا البسيطة.

وذات عصر طارت اليمامة باتجاه الشمس وتثبت الطفل بالنافذة يأبى أن يغادرها.

قبل الشروق بدقائق استيقظنا على صوت هادر، فتحنا عيوننا فإذا بمئات اليمام تحلق في اتجاه الشقة، ترفرف دون أن تبعد أعيننا عن يمامة تشير بمنقارها إلى صديقها الهدهد الجالس منذ الأمس ينتظر اليمامات الفرحات.

لوحات فنية رائعة، تشكلت قصصاً إنسانية موجعة لأطفال أصحاب الاحتياجات الخاصة، رسمها المبدع بريشة فنان مشغول جداً بأمر هؤلاء الأطفال الذين لا ذنب لهم ومغسول بطيف الحس الإنساني النبيل الذي دفعه لأن يصور معاناة هؤلاء الأطفال على وجه الخصوص، ومعاناة أمهاتهم وآبائهم وهم يرون فلذات أكبادهم على هذا الوضع المؤلم إنها قمة النزوع الفني والإنساني وغاية الخلق الإبداعي المتميز بهذه الرهافة الإنسانية والشعورية.

على أن هذا البعد الإنساني لم تخل منه قصة من قصص المجموعة وإن كان لكل منها مناخها الوضعي الخاص بها.

في “غرفة تهزها الريح” إحالة إلى الرجل الذي يعيش حالات من الهوس التخييلي وهو يلعن في المقهى الستات ويرشف الشاي والسحب البطيء من المعسّل وفجأة “انفجر وخلع حذاءه وانفجر يعنف امرأة غير موجودة: لازم أربيك أنت وعيالك يا بنت الكلب، ورأى النادل الحيرة في عينيه فهمس في أذني  امرأته جننتْه، خلعته وخطفت العيال وسرقت أمواله وهاجرت، ويطلب الرجل منه أن يوصله إلى بيته، يقول له النادل: لا تخف إنه مسالم، حين يتعب يطلب منا أن نذهب معه، هنا رافقوه وأحسن ضيافتهم، يتأبط ذراعه ويمشيان وهو صامت في الطريق أخرج من جيبه ورقة وقال له: اقرأ.. كانت قصيدة بعنوان “الخائنة بنت الخائن” تشير إلى امرأة متجبرة وعيال ضعاف وأب مغلوب على أسرة وصلا إلى بيت قديم متهالك وقف وقال: كان بيتي وسرقته الخائنة وباعته صوريا للسمسار ولم تترك لي سوى حجرة فوق السطوح ويدعوه إلى الصعود فماءت قطته ومرق فأر مذعور من بيْن أرجلنا وعوى كلب سحب يده من ذراعه

– دقيقة واحدة، هاشتري علبة سجائر وانطلق إلى كشك السجائر وكان صاحبه قد رآني منذ قليل فقال مبتسماً:

-يسكن سطح بيت مهجور آيل للسقوط، ويتخيل أنه متزوج ولديه أولاد يحبسهم وأمهم الخائنة، ولا ينوي أبداً أن يفرج عنهم أو يترك غرفته التي تهزها الريح.

وفي قصة “على ما يرام” تجسيد لموضوع في غاية الأهمية وربما لم يتناوله أحد من قبل وهو موضوع مضار التدخين والتدخين السلبي الذي بدأ بألم في صدره فيوضع في غرفة في المستشفى الأول ينام من أجل رسم قلب للتعيين والثاني سد التدخين والدهن شرايينه فاحتاج إلى عملية قلب مفتوح والثالث كان ابن خالته يعاني من ارتجاع الدم لارتخاء صمام  المايترالي  الذي ينغلق عند ضخ الدم والأخير كان جاره الطيب الذي مات فجأة وهو في ضحك مجلجل طويل.

 ويسأل نفسه : أين تضع نفسك بين كل هؤلاء؟

وصارحت الطبيب: الآن عرفت السبب، ولأنني تعودت ألا أكون سلبياً في حياتي أبداً، فكان من الصعب أن أتقبل سلبية التدخين، وبدلاً من الإقلاع عن أماكن السموم السوداء الطائرة وضعت للمرة الأولى فم النرجيلة في فمي وفتحت الطريق أمام الدخان ليجري في عروقي وللنيكوتين ليحل برأسي.

وتنعي قريبه له زوجها، مات فجأة.. طالما حذرته من التدخين ويرى الطبيب أن رسم القلب سليم ويجري لأول مرة نوعاً من الأشعة، كان قلب وردياً كأحلامي التي لا تنضب، وفي جنباته لون أزرق شفيف، كان يدق ويلفظ والدم يرتج في دخوله وخروجه، ويكتشف الطبيب أن مستوى الكوليسترول لديه مرتفع يعطيه دواءً وجدولاً غذائياً والابتعاد عن السمن البلدي مما فرض عليه الإقلاع عن عادته الغذائية  “فقدْنا في مسيرة العمر ما هو أعز دون أن تتقطع الزيارات الثقيلة لعيادات الأطباء، ومنها إلى معامل التحاليل والأشعة وإلى الشوارع المفتوحة على الغربة والأنين”.

وفي “لوعة الغياب” الحكاية التي تتكرر كل يوم، حكاية خرج ولم يعد.

يخرج الأب إلى الشوارع ويصيح: هل رأى أحدكم عبير؟ يبلغ أقسام الشرطة، ويبحث عنها في دفاتر المستشفيات وطبع ورقة بأوصافها ووزعها في كل مكان “خرجت ولم تعد، الاسم: عبير محمود سلامة، الحالة: معاقة ذهنياً، السن: 16 سنة، الملامح: طويلة، قمحية اللون، ناعمة الشعر ذات أنف صغير وعيون واسعة، حافية القدمين، ترتدي جلباباً أزرق به وردة صفراء في أذنها قرط بلاستيكي أحمر، من يجدها يتصل بالهاتف (….) أو يسلمها إلى العنوان (….. ) ولكم جزيل الشكر.

ويمر أسبوع دون أن يرن الهاتف في بيته، ويرن الهاتف ويذهب مسرعاً إلى المنيل، ويسأل العابرين عنها تلميذ أخبره بأنه رآها خارجة من هذا المطعم، سأل صاحبه وتذكر أنها جاءته وأعطاها قطعة من الكباب في رغيف، ثم انصرفت، وتمر الأيام ويحل العيد ويتذكر أنه كان يصطحبها إلى حديقة الحيوان وكيف كانت تسأله عن الله الذي أخذ أمها ومتى سنذهب إليها، وتذكر كلمات صديق: زواج الأقارب غير صحي وكيف حملت بها وهي في الأربعين من عمرها وولدت عبير والفجر يدق أبواب المدينة بقوة، وراعه أن ابنته بعد ستة أشهر لا تبسم لأهازيجه وعرف أنها معاقة ذهنياً قرأ في إحدي الصحف خبراً عن العثور على جثة فتاة مجهولة جرفتها مياه النيل إلى شاطئ مدينة المنصورة سافر ملهوفاً إلا أن الجثة التي رآها لم تكن جثة عبير، فعاد كسيف البال يقتله اليأس ينصحه أحدهم بتبني طفلة فيرفض لأن عمره لا يساعده، يطلب من أخته أن تعطيه إحدى بناتها لتعيش معه متكفلاً بكل مصروفاتها وترفض بإصرار وينتهي به المسير يوماً إلى سور ممتد تفوح منه رائحة الريحان وسمع صوت ضحكة ابنته عبير اقترب من ثلاثة حراس مدججين بالسلاح وقال: أريد أن أدخل إلى عبير.

-عبير من؟

-ابنتي وضاعت منذ شهور.

-هل أنت واع لما تتفوه به؟ هل تعلم قصر من هذا؟

-كل ما أعرفه أن الضحك الذي سمعته هو ضحك ابنتي.

-ليس في القصر سوى سعادة البيه وأسرته وخدمه.

-ربما تكون من الخدم.

-ما اسمها؟

-عبير.

– ليس لدينا خادمة بهذا الاسم.

-تعاونوا عليه وطردوه إلا أنه لم ييأس وصل إلى الناحية الأخرى من السور تسلقه ولما رأته الكلاب وراحت تثب عليه قفز إلى الرصيف ليجد الحراس محيطين به قال أحدهم:

-ربما كان يقصد سعادة البيه بسوء، قال آخر:

-ملامحه لا تنبئ بهذا إنه مجرد رجل مجنون ودفعوه إلى الطريق بركلة قوية فراح يجرّ قدميه وسار يتطلع في وجوه العابرين، يستوقف بعضهم متسائلاً: هل رأى أحد منكم عبير؟

وفي قصة “عصافير هنا وهناك” إحالة إلى الزوجة الريفية الأصيلة وزوجها في بلاد الغربة وهي حامل ووصيته الأخيرة.

-احتمي بالأرض، ومنذ أن بشرته بقدوم ولي العهد قال لها في خطاباته: اهتمي بالولد وحافظت على الوصيتين إلا أن الولد كان شقياً يتعب شيخ الكتاب الذي أصرت على أن يستمر في ذهابه إليه ويخبرها زوجها بأن كفيله قال له سأزيد معاشك 200 درهم لو سميت الولد على اسمي كما وعده بـ3000 درهم مكافأة وإن كانت بنتاً ليكن اسمها عائشة اسم البنت الكبرى للكفيل.

ويأتي الولد وتسميه على اسم الكفيل ناصر ويقول أبو ناصر لعائشة

-ابني هناك يطارد العصافير، فتقول البنت:

-سنأتي إلى بلدكم وسألعب مع ناصر، ويقول والدها:

-أحضره معك في الإجازة المقبلة.

-ابني مغرم بمطاردة العصافير ولا يسمع إلا تغريدها إنه ولد شقي

زوجتي في خطابها الأخير تقول: إن ناصر لا يحب اللعب كثيراً مع عيال الجيران

-لابد أنه يجب شيئاً آخر.

هز رأسه وهو يتابع عائشة تجري بين النخيل، وقال بلسان ثقيل ومرارة قد تطول: نعم يجب مطاردة العصافير التي تحط على أشجار الصفصاف والنخيل.

وفي القصة التي حملت عنوان “همس خفي” لوحتان قصصيتان الأولى وعنوانها  “أرق” تقوم على مفارقة في منتهي الذكاء

-وأنا صغير أراقب الناس وهم يمرقون جماعات وفرادي، فتبتلعهم الشوارع الجانبية، واستأثر بعيني شارع منها، فذهبتا إليه واستقرتا هناك على لافتة كان مكتوب عليها في زمن مضي  “مكتبة الحرية” قلت لنفسي بصوت مسموع في أسى:

-لم تعد مكتبة ولا توجد لدينا حرية.

أما اللوحة الثانية “زجاج” لا تخلو أيضاً من مفارقة بطلها الذي صار يشاهد الدنيا بعين واحدة، ونصف أمل في الشفاء.

قلت للجراح:

-مجرد حجر صغير.

-ومجرد جراحة صغيرة واهتدى إلى نظارة شمسية أخفت العين العوراء مما تسبب في تعليق زملاء العمل  يرتدي نظارة شمس في مكتب لا تدخله الشمس أبداً وتتأزم مأساته حين سمع البنت التي ظلت مدار أحلامه تقول: لا أتزوج أعوراً.

ويلجأ إلى العدسات اللاصقة وذهب إلى الجراح الذي خرج من عنده بعين واحدة ترى الناس وأخرى يراها الناس من بعيد فيحسبونها سليمة ويستجيب لنداء قلبه الذي أبهرته الفتاة التي مرت مسرعة من أمام المقهى فذهب إلى بيتها خاطباً وواعدها لترتيب الأيام القادمة جلسا في مقهي على النيل وسقط شعاع الشمس في عينه تماما لا أعرف كم من الوقت مرّ، وأنا أحلق بأنفي في موجات النسائم الطرية، لكنني أعرف الآن جيداً اللحظة التي عدْت أنظر فيها إليها، فوجدت دهشة تساؤلات عميقة في عينيها أو وجلاً يكسو وجهها وهي تري لمعاناً غريباً على عيني اليسرى تضعه الشمس الراحلة إلى البلاد البعيدة. تاركاً النهاية المفتوحة على الاحتمالات المتعددة التي يمكن أن يتخيلها القارئ حائراً بين رفضها أو قبولها لهذا الرجل الذي يجلس أمامها بعين زجاجية، وفي مثل هذه النهايات يرتقي القص محفزاً غريزة التساؤل التي تعزز وجهة نظره الخاصة.

وفي “لذة القنص” لوحتان قصصيتان الأولى بعنوان “غزالة” التي استقر السهم في نحرها فهوت صريعة وقناصها فرح بصيده الذي أسال لعابه للحم المشوي.

وينتقل الراوي لينقل صورة الغراب الذي قتل أخاه وراح يرفرف فوق جثته فرحاً وصورة الثعبان الذي ينزلق على إحدى الأشجار بصمت ليمسك عصفورة مريضة ويبتلعها متلذذاً وصورة الضباع التي كانت تطارد الغزالة واقترب أكثر فرأي رأس أدمي متهدل الشعر، يعض على شفتين غليظتين له أنف أفطس يتوسط وجهاً شاحباً تكسوه رغبة ولهفه، لا يلبث أن يغوص إلى العميق فيكاد يلتصق ببياض السحاب، الذي راح يزخ قطراته على الدم المسفوح على مساحة ضيقة تكفي قبراً واحداً لآدمي يموت وحيوان أبلق يتثبت بالحياة.

وفي لوحة  “زرقاء الحمامة” إحالة إلى الرجل الريفي وهو يضرب ابنه الذي رفض أن يأتي معه لينصب فخاخ الذبح، ابنته الكبرى ترمي الحطب تحت قطعتين من الحجر، والريش ملقى على باب داره تبول عليه الكلاب الجائعة يتجه إلى حماره ويمضي خمس ساعات حتى يصل إلى المكان المحدد، ينادي على ابنه فيجرى إلى العيال يشاركهم اللعب في الشارع، يلقي الكرة فترتطم بالسطح ويرعب يمامة صغيرة فتهم بالطيران فتنقلب على جنبها وتخاطب حمامة خواتها: لا يزال بعيداً يا صاحباتي فلننزل ونجمع حبات القمح وحين يأتي سندخل أعشاشنا.. ومرة بعد مرة لن يجد ما يبيعه لصاحب المطعم الذي يقدم للجائعين اليمام وأحيانا الغربان على أنها حمام بلدي، ويوما بعد يوم لن يجد ما يسد حاجات زوجته ستتشاجر معه وهو لن يتحمل شجارها الذي يقض مضاجع الجيران وعندما سيضطر إلى البحث عن مهنة جديدة.

وفي قصة “عين صفراء” إحالة إلى مفارقة بطلها صاحب العين الصفراء الذي يتشاءم الناس منه ويموت الرجل عوض أبو سليم وترتاح القرية من عينيه الصفراوين ويتحاور المشيعون حول ذنوبه الكثيرة وما فعله بأبناء القرية، وذات يوم هاجت الرياح ونفقت نعجته وكسرت الساق اليسرى لدسوقي وسقطت الأشجار الصغيرة، قال رجل يلملم أشياءه : عين وأصابتنا.

وقبيل الغروب خمد الريح وتحلق الناس حول الرجل الغريب الذي اشترى أرضاً وسكن قريتهم “أخذوا يحملقون بارتياب عينيه السوداوين  يبحثون عن تفسير لما حدث لهم في اللون الأصفر الذي راح يتمدد في بياض مقلتيه بفعل مرض المرارة الذي أصابه منذ شهور قليلة.

وفي “نداء الفجر” قصة شعرية قائمة على تداعيات الوجد بلغة شعرية عذبة وساحرة- ويظل الواجد كلما سأله سائل عنها يذكر صفاتها وعيونها ولونها وما ترتدي واسم أبيها، فيرد السائل: هذا هذيان العاشق يا فتى.. اذهب إلى حارة أخرى.

وفي مساء اليوم السابع بعد المائة الثانية وعلى حافة الموت جنوناً

-انتشلتني يد الحياة، كانت يدها، مستني أصابعها وأنا ملقى بجانب جدار يطل على مفترق الطرق التي تاهت مني عنده، قمت ثملاً فطالبتني بعيني صافيتين سبحت فيهما ما أمكنني وقلت لها:

-إليَّ بقارب النجاة، قالت:

سمعت عنك أيها العاشق الغريب فجئت إليك.

-تأخرت طويلاً.

-لأنك لم تر مني إلا سحر عيوني.

-هي موطن سحرك، ومرآتك التي تقول ما لا تنطقين به.

-لكنني أخبئ كل ما هو جميل واليوم سأكشف لك المستور.

تأخذه من حارة إلى حارة ومن بيت إلى بيت وغرفة في غرفة، أجلسته على طرف مخدعها وقالت: اغمض عينيك.. ثم افتح عينيك. وفتحت.. نهران من لبن، أخدود من عسل مصفى، عصافير تغرد وفراشات تطير على لهب ونور جذبتني من يدي، وقالت:

-من ذاق طلب المزيد.

والتقي الماء بالماء، فاشتعل الحريق مرات ومرات حتى غاصت الدنيا في بحار الرغبة واللهفة والأماني قلت لها..

-اضربي لي موعداً آخر، جلجلت ضاحكة وقالت: مرة لن تتكرر

وخرج من عندها ولا شيء يملأ فراغه سوى الرغبة في العودة إليها.

وراح يجوب الحارات والشوارع يسأل عنها ويسأله السائل: هل تعرف شكلها. فيقول: عيونها كصباح الربيع، رموشها سنابل ترفرف فوق جداول من نبيذ، حاجباها خطان يمتدان من مخدعها إلى نهاية أحلامي وغربتي مصمص شفتيه في أسى وقال: هذا هذيان العشق يا عماه، ابحث عنها في حارة مجاورة.

وفي “صوت الفجيعة” إحالة إلى أملٍ بالوصول إلى الجنود في الصحراء الرملية الواسعة: وتتوغل حبة رمل في مقلته ويرى بعينه اليمني ما لم رآه من قبل: رأيت دماءً تبرقش الأفرول وتنسكب على الذراع  وتلطخ العين اليسرى للسائق وتسيل في أرضية السيارة، تفلت من بين جوانب باب العربة وتكون الرمل، قلت للسائق: ضع راحتيك على عيني اليمني لتغلق نافورة الدماء، وضع كفيه والدم ينهمر في أصابعه ويسيل ليجري في فجاج الرمل رفعني وانزلقنا خارج السيارة.

-ليست ذرة رمل، إنها صورة الموت في قعر العين البعيد.

-أنت تهذي.

والدم.. والألم.

-دم إخواتنا الذين قتلوا وهم ينتظرون المدد.. ما أجمل أن نلقي بجسدينا بعد أن يملأها الرصاص.

-لن أدع الموت ينتظر كثيراً، سأخلع ملابسي استعداداً للرصاص وراح يخلع ملابسه حتى تجرد منها، ثم أخذ يحفر في الرمل بهمة غريبة، حتى صنع أخدوداً غائراً، وألقى بجسده داخله، وأخذ يسحب الرمل على ساقيه الممددتين ويقول: بيدي لا بيد الأعداء.

وفي قصة “خيوط الحزن” ثلاثة خيوط على مساحة ثلاث لوحات قصصية كان الحزن قاسماً مشتركاً بينهم. في الخيط الأول صورة الباشا الذي يؤنب الجد لأنه لم يذهب إلى عمله يستجمع الجد بعض شجاعته ويقول:

-طردني وخصم أجر كل الأسبوع.

-من؟

-فهمي افندي.

-لماذا؟

-الفأس قطع إصبعي، جلست لأربطه، رآني فصرخ: هنا لا مكان للعاجزين.. ثم ألهب ظهري بالسياط.

ضرب جنبي الحصان وانطلق تاركاً وجه جدي يلعق الغبار

الخيط الثاني وصية الأب لابنه الذي تعلم القراءة وحفظ القرآن…

-إياك أن تنكسر ويصرخ في وجه الضابط الذي جاء ليأخذ أبيه

-اترك أبي، فطبع قساوته على خدي صفعة كادت أن تزهق روحي وحين كبر الطفل، سأل عن أبيه قالت له: مات في السجن.

-هل كان مجرماً؟

-لم يدخل الحرام جوفه، ولم يقتل أحداً، كان رجلاً شريفاً.

-وكيف يسجنون الشريف.

-لعن الله السياسة.

وفي الخيط الثالث: حزن أخر على الرغم من أن صوت أبيه الذي كان يأتيه في الأحلام يقول له لا تجعل الحزن يقتلك

خمس سنوات مضت منذ تخرجه في كلية الهندسة ولم يجد عملاً ويأتيه الصوت: إذا امتلكت اليقين لن يهمك الناس، وإذا امتلكت الإرادة ستحقق الحلم.. ولن تراني حتى تغلب آلامك وإياك أن تنكسر.

 وفي “شبح الظهيرة” (ص112) قصة الرجل الذي جلس القرفصاء وجلس الكلب قبالته اقترب منهما مندهشاً وسأله:

-كلبك؟

-لم أقابله سوى اليوم.

ومد ناظريه إلى حزمة القصب الكبيرة كأنه يطمئن على وجودها سليمة

ـ شغلانة تهد الحيل.. الأسعار نار وما أكسبه لا يؤكلني وزوجتي إلا عيش حاف، مر قطار فقال: من زمان نفسي أسافر حتى ولو إلى آخر الدنيا، أنا لم أفارق قريتي منذ طلبوني، أيام الملك طلبوني للجهادية فهربت وقال: جاء موعد الرزق مد يده إلى حزمة القصب وقال: ساعدني يا ابني رفعت الحزمة حتى استقرت على رأسه وتتابعت خطواته البطيئة ويمينه يسير الكلب ولسانه يرقص على نابيه ويهتز في نسيم راح يهب ناعماً مع قدوم أول الليل.

-3-

حالات إنسانية متوثبة بوهج الإبداع، متقدّمة بصياغات اللغة المميزة تشير إلى قص متميز دفع المجموعة بقصصها المتميزة بحسها الإنساني لأن تمثل إضافة نوعية لمكتبة السرد القصصي المعاصر، مولياً اهتماماً خاصاً بالأطفال المعوقين بشكل غير مسبوق. وبنزوع إنساني شفيف، لا يهمه الوصف والتوصيف للحالة، بقدر ما كان يهمه تصوير معاناة الأم والأب في إحالة إلى ذلك السرد الذي يبكت المواجع ويذرف الدمع على أطفال أبرياء لا ذنب لهم إن ولدوا بإعاقة ما.

ومبدعنا في مثل هذا الشغل يعتبر على الرغم من إطالة الحكي في بعض قصصه أستاذاً في براعة قص الأحداث الذي تكون فيه للراوي سلطة القول وهو أرقي شكل من أشكال السرد الذي تتمثل فيه المحاكاة وتتجسد بما هي تمثيل لكلام الشخصيات بحيث نراها تتكلم وتروي وتتداخل وتشير دون وساطة الراوي وبذلك تتجسد تقانة السرد عند مبدعنا  “عمار علي حسن” وهو يكتب ويقص يتلبسه إحساس غامر بأنه يحلق في إبداعات ربما لا تكون موضوعاتها قديمة ولكن طرق التناول واختيار الصياغات هي التي لامست الجديد وعانقته في وحدة إبداع مندمجة مع الحياة والإنسان برهافة إنسانية عذبة تواقة دائماً إلى التمايز الذي يفتح ذراعيه لنمط قص إبداعي يعانق الحياة ويندمج مع الواقع في إحالة واضحة إلى ذلك القص الرفيع الذي أسهم بشكل قريب ومقارب في نقل مبدعها إلى فضاءات القص الحكائي الذي سيبقى وإلى زمن طويل مرتبطً بمبدعها الحاذق الفنان عمار علي حسن ولا سواه.

 

مقالات من نفس القسم