محمد عبد الحافظ ناصف
إهداء إلى شيرين أبو عاقلة ومحمد الدرة
تتحدى ممثلة المرأة الفلسطينية كاتبنا الكبير قائلة:
– نتنياهو لن يفعل شيئًا وإن حُذفت بنود الجهاد من الميثاق الوطني كله، ولن يؤدي ذلك إلا لمزيد من التنازل، ساعتها سنكون بلا دفاعات حقيقية تحمى الناس الذين يقتلهم كل شيء في الأرض المحتلة.
أحمرت معالم وجهها رغم أنني أمتلك تلفازًا أبيض وأسود وكثيرًا ما تسود عندي وجوه الذين استكانوا.. استراح على كرسيه وتنهد:
– أنتم لا تريدون خطوات ولا تأخذونها معهم، جماعة السلام الآن تدافع عنكم
– لن ترحمنا الأجيال القادمة إذا تهاونا.
– قطـــــــــــــــــــــــــــــــع-
من بعيد يأتي صوت ضعيف لكنه يدخلني في قوة..
– أجيال وراء أجيال عايشين على حلمنا.
– واللي نقوله اليوم مكتوب على عمرنا.
أجهز نفسي لأداء امتحان التويفل الذي يؤهل للذهاب إلى لندن أو واشنطن، كانت القطعة التي بين يدي من الأسئلة التي تتناول حقوق الإنسان التي تحميها الأمم المتحدة، ظل السؤال الخامس يعرقلني رغم أنني استطعت حل أسئلة قطعة “الأرق” بسهولة رغم المفردات الصعبة واحتراق ذهني من قلة النوم واحمرار المآقي وآلامها، تركت السؤال الذي يسأل عن المسئول عن إقرار الأمن في العالم، كانت الإجابات بعيدة عن المنطقية رغم أنني تعلمت في مادة Testing ضرورة منطقة الأسئلة مع الواقع المعيش، أكدت لمز ميلر أن ذلك غير ضروري فتغيرت معالم وجهها العذب رغم السنوات الخمسين، وأكدت ذلك لمندوب سفارتنا هناك، فقرر أنه على استعداد لترحيلي خلال ساعات وفي “جوال” إن أسأت لسمعة بلدي بعد ذلك.
– واللى نقوله اليوم مكتوب على عمرنا.
– قطـــــــــــــــــــــــــــــــع-
أخذتني شاشة التلفاز لما طلع علىّ المذيع بوجهه الصبوح مقرراً أن أغنية الحلم العربي ليست ممنوعة هنا، لكنها تثير المزيد من الكآبة و الانكسار، أحبه، لكني لم أصدقه لأول مرة، قال مؤكداً:
– سوف نقدمها لكم.
وقلت لنفسي:
– ونحن أحرار في إحساسنا.
رغم أن البنت مروة في 2/3 أدبي قد أعطتني إياها وسمعتها كثيراً تصارعنى لدى باعة الكاسيت قديما، لملت موسيقى المقدمة كل إحساسى، تكورت حول نغماتها الآخذة إلى العمق، انطلق الصوت..
– أجيال ورا أجيال عايشين على حلمنا.
– واللى نقوله اليوم مكتوب على عمرنا.
عمرنا ننفقه في انتظار الآتي الذي يتأخر كثيراً، تحلم زوجتي أن أذهب لأمريكا للمرة الثانية كي تتفاخر أنها استطاعت أن تستعيدني من هناك وإنها ذات مقدرة استطاعت من خلالها السيطرة على رغم ميوعة بنات الغرب، أكدت لها أنني جئت مدفوعاً لرؤية قبر أبي وأنني لا مقدرة لي لجذب أحد إلىّ..
أكدت لي للمرة المائة أني لم أرض غرور امرأة..
– إذن أنا في مأمن..
– نعم..
ابتسمت بخبث ولملمت شعرها للوراء.. أحلم أن أرى ” ليدجيا ” ثانية كي أكتب فيها قصيدة رغمًا عن محرر صفحة الأدب اليهودى في جريدة “الرتريفر” الذي وقف ضد قصيدتي “أرض الضياع” ونشرت رغمًا عنه وبمساعدة شامخ السوري الذي كان يصلى جماعة في الملتى ميديا بجامعة بلتيمور.. نشرت القصيدة رغم أنني أدعو ليدجيا أن تدندن “سلامو عليكو” .. وصارت تلقى تحيتي على صديقها اليهودي الذي أوغر صدرها ضدى، فجاءت إلىّ بأسئلة كثيرة، أكدت بعدها أنها سوف تفكر ثانية في معنى “سلامو عليكو” وقد تدندنها، أحلم أن أرفض بعض التغيرات التي جاءت تسبقنى إلى مصر رغم أنني رفضتها سلفاً، لم أحب الأفكار العشوائية والضحلة التي كانت تسيطر على الشباب هناك والتي تمحور ذات الفرد حول نفسه وتجعل الجنس وشذوذه قضية أساسية تهم المجتمع..
تعجبت من الهدايا التي كانت توزعها البنات في الحرم الجامعي، سألت جاهلاً مرة عن كيفية استخدام الواقي الذكري الذي لم أكن أعرفه والذي كنت أراه دائمًا بلونات يعلقها أبو هند في الغرفة التي يسكنها عندنا في الدور الثاني يوم الجمعة.. أحلم أن أذهب وأعود بخبرة أكثر من أناس لا تعرف إلا الكلام ، أريد أن أؤكد لصديقي الذي يفكر ثانية في الله ويرفض أن يكون مسلماً بالبطاقة الشخصية التي لا تختلف عن بطاقة التموين أنه على باطل في الشك وعلى حق للوصول لصيغة نهائية تحوله لمسلم حقيقي يمتلئ علمًا وإيمانًا ، يحلم أحمد أن أحضر له عجلة تساعده أن يسرع بأيامه كي يحقق ما يريد.. وكي أؤكد له أن الزمن أحيانًا يتلاشى ويضعف أمام القوة.. كان الكورس الموحد يدخلني بصوته القاهر..
– جايز ظلام الليل يبعدنا يوم إنما.
– يقدر شعاع النور يوصل لأبعد مدى.
– قطـــــــــــــــــــــــــــــــع-
نظرت ثانية في كتاب امتحانات التويفل لكني لم أستطع أن أكمل سطرًا واحدًا، فصورة الطائرة إف 16 الرابضة في قاعدة أندروز المتأهبة دائمًا تحكي تاريخ حياتها ساعة خرجت من قاعدتها بالبحر الأبيض وقتلت صغار طرابلس الغرب، تقتلني أنا الآخر، كانت متجبرة رغم أنها كسيحة ومرتخية الجناح الآن، مستسلمة للبرد الذي حولها إلى تحفة وأثر يحكي ظلمها للقادم لزيارة تلك القاعدة الجوية كل يوم أحد.
تغيرت معالم وجهي وطلبت من ريتشارد أن يأخذ لي صورة بجوارها وهي كسيحة هناك، هل كان يقصد ريتشارد الذي هو مصطفى الآن أن يؤلمني، حضنت أحمد ابنى، لم أستطع أن أحدد موقفي منه رغم أنه أحضر لي فيلم الرسالة كي أشاهده ومناظرة الدكتور جمال بدوي مع شروش غير الطيب، و رغم أن جمال بدوي أكد له أننا نحب السيدة العذراء أكثر منه فقتله بدوي في هدوء.. أكدت له أننا سوف نتحد يومًا ما وسوف نحكم أمريكا وأن البيت الأبيض سيجلس على كرسيه نهرى ، صحراوي ، جبلي ، نيلي ، افريقى يوماً ما.. أطل علىّ بوش و ريحان وكلينتون و أوباما الأفريقى و أشبعوني ضرباً، لم أتأوه رغم شدة الضرب والقذف فوق رأس ابني المدد جريحًا وقتيلاً في جنين وطرابلس والبصرة و دمشق و رفح، اتحد الكورس ثانية كي يأخذ بنفسى الممزقة في أماكن كثيرة..
– دا حلمنا، طول عمرنا، حضن يضمنا، كلنا.
تسرى الأغنية في دمي حتى تصل لكل أجزاء جسدي إلى أخر الأعضاء الداخلية التي رفضت الهامبورجر والبيتزا وتقيأت الكوكاكولا رغم أن سركيس حذرني من شربها وشرب أمامي العرقسوس الذي لم أكن أحبه رغم أنني أشتكي من آلام حادة في الكلى، شرب باستمتاع غريب ثم تقرع فعفت نفسى الشراب كله.
– جايز ظلام الليل يبعدنا يوم انما.
وضعت الكتاب جانباً بعد أن أمسكته محاولاً القراءة، رميت بالقلم الرصاص الذي يصرون على إحضاره في الأميدست بجاردن سيتي، هاجمني الدكتور فيل اندرسون الذي أعطاني مقبولاً لأنني أكدت له أن بلده تلبس حذاءً ثقيلاً تدوس به بلاد الناس الغلابة وهم يخربون بلادهم بالعنف والمخدرات والأطفال الذين بلا آباء، تذكرت الولد الأبيض ليس الأسود الذي هاجمنى بجوار ماكينة النقود فى بلتمور، رغم أنه أخذ ما معى والكارت والرقم السري إلا أنه ضربني في جنبي بسكين وهرب.. آه.. تذكرني آثار الضربة بذلك اليوم جيدًا…أخشى الاقتراب من ماكينة النقود بجوار مسجد آل طه فى المحلة، أكدت للمسئول عنا هناك ذلك فأكد أن الحادث تم ليلاً.. فركت عيني بعد أن خلعت نظارتي فلم أكن أشتكي من قبل من عمي الألوان.
– احتمال !!
ضحكت بهدوء حتى لا يصحو أحمد ابنى، تقلبت زوجتي، انطلق المغنى صاحب الصوت العذب القوى
– الحلم ما هو مستحيل.
– ما دام تحقيقه مباح.
– والليل لو صار طويل.
– أكيد من بعده صباح.
– قطـــــــــــــــــــــــــــــــع-
تذكرت خالي الذي تولى مشيخة القرية عنوة بدلاً من والده المسافر للعلاج، كان عاقًا خاصة عندما جعل والده لما عاد خفيراً نظامياً و ازداد في قسوته فجعله يخرج للخدمة ليلاً، انفجرت كلمات الإمام داخلي “لا يدخل الجنة عاق”، ورضاء الوالدين من رضاء الرب والأب رب ولو كان قاسياً كما تقول أختى أم البنات ، تُرى هل سيرضى الرب عنا حقاً؟ فعلاً، الحلم ما هو مستحيل ما دام تحقيقه مباح.. والليل لو صار طويلاً سيأتى بعده الصباح. رغم أنني في حاجة شديدة للصباح كي أنجز هذه المهمة – النجاح في امتحان slep والذي بنجاحي فيه سوف أواجه الكثير من أسئلة الشك والريبة التي تحيط بي وتحسب علىّ رغم أنني أقنعت كل زملائي بالعودة لمصر بعد أن قرروا الهرب، فلا مكان لنا هناك وأننا سوف نجد كل شيء معد لنا فى مصر بعد البعثة وسوف نساهم في تغيير المجتمع وتطوره للأحسن وسوف نرقى للدرجة الأعلى ونحصل على درجة مالية مختلفة – خمس جنيهات – إضافية لذلك، فهي تساوى ضعف العلاوة التي أخذتها لمولد أحمد الذي يرقد بجواري هامداً لما رأى أخوه البصرى بلا لبن ، و “اللى نقوله اليوم محسوب على عمرنا ” ، تغيرت ملامح شاشة التلفاز.. اكفهرت الصورة، أعلن المذيع بصوت حيادي كما تعلم أن يقرأ نشرة الأخبار أن أمريكا بدأت قصف بغداد.. آه بغداد، و اسرائيل اجتاحت جنين، الناس مستسلمون ، هل عاد التتر ثانية؟
– مشهد-
– تتري: انتظر يا بغدادي، سوف أحضر سكينا لذبحك.
– بغدادي: (متردداً) ترى هل أهرب أم أظل في مكاني؟
سوف يذبحني حتماً.. انتظره حتى يعود
– تترى: أما زلت تنتظرني؟
– بغدادي: نعم.
– تتري: لماذا لم تهرب؟
– بغدادي: إلى أين ؟
– تترى: أي مكان.. أرض الله واسعة.
– بغدادي: أنت مسلم؟
– تترى : نعم.. اهرب.. لا تستلم هكذا.. دافع عن نفسك
(يهربان في اتجاهين مختلفين)
– إظـــــــــلام –
أردت أن أحدد لنفسي من أنا ، هل أذهب وأخذ الدولارات وأتعلم في جامعاتهم أم أرفض وأقي نفسي شر الشبهات و أبعد ظنون الناس عني ولا أتعرض ثانية حتى ولو لحظة شك فيّ ؟ وقد استعيد وجودي القصصى في مجلة الشاهد العربية التي ربما رفضت نشر أعمالي بعد السفر إلى أمريكا رغم أن رئيسهم تخلى عن القومية العربية الآن، كان يؤكد بعض الأصدقاء عدم السفر الى أمريكا لمجرد الكلام رغم أن أكثرهم صرح لي على جنب أنها فرصة ولا يهم فأنت لن يلوثك شيء ولن تعود دهشا ومتحدثا دائمًا عما امتلأت به من هناك.
– لو مكانك سأذهب ولا أعود.
– يكفي احترام الإنسان هناك.
– لن يضربك مخبر على قفاك ولن يلعن أمك و أباك.
يملأ النفس حلم الأصدقاء المزيف وأظل أسأل نفسي بعنف.
– لماذا تركت زوجتي فى الثانية عشر مساءً ساعة القصف المجنون على بغداد ؟ فلم تحتويني شقتي ولا ابني و زوجتي، وكان جابر في ذاكرتي و عساكر يأخذني من يدي كي لا تسقط قدمي في حفر النفس الوعرة، حددت لنفسي من أكون ساعة وقفت مع أختي الصغيرة ضد أخي الرافض للحق والمتهم لي دائماً بالتواطؤ مع أعدائه ضده.
قلت له بكل ما فيّ إنه ظالم رغم أن جميع أخوتي وأعدائي كانوا علىّ يضربونني بقسوة ويحرمونني حتى لقمة العيش التي تصل لولدي الصغير.. قاومتهم جميعاً.. خرج صوت المطرب هادئًا داخلاً فيّ مؤكداً ما فعلته.
– قل أنت بكل ما فيك.
– إن كان الكل عليك.
– حاول جرب وبتوصل.
– شرف التجربة يكفيك.
قررت أن أخذ موقفًا محددًا لكني ما زلت مترددًا، قررت أن أجتهد في الثبات رغم الزوجة والولد، ارتديت نظارتي كي أبصر قراري جيدًا، كان مسخًا محايدًا يمتلئ بالكثير من لو ولو.. هل يستطيع ابني أن يبصر بنظارتي التي لم أعد أرى بها جيدًا.. لكن الصوت الهادر ما زال يلعن.
– عرف زمانك من تكون.
– ارض طموحك اجتهد.
– افتح لمرآتك عيون.
– يبصر بها من جاء بعد.
لم أعد قادراً على التفكير في شيء، هل كان المذيع محقاً عندما أعلن كآبة الموقف، تراخيت وأطلقت زفرة في الهواء، استندت بظهري للوراء فلم أجد مسندًا فوقعت، تقلب ابني، أمسكت بكتاب ” التويفل ” ورميت به من الدور الخامس فى شقتى فى المحلة.. أعطاني ولدي وجهه، بلع الصمت أنفاس الحجرة الدافئة في تلك الليلة الباردة من ديسمبر، أعلن المذيع المحايد الوجه استمرار الضربات، فازدادت ضربات قلبي أكثر وأكثر حتى توقف ضخ الدم بعيني التي ترى طائرة أف 16 تلوح فوق سطح بيتي، الطائرة نفسها التي رأيتها تختال في قاعدة اندروز والتي قتلت من قبل صغار طرابلس الغرب وبغداد والخرطوم، احتضنت أحمد، تكورت عليه.. شققت قلبي ووضعته داخله لكن الشظايا وصلت إليه
صرخت فلم يلتفت أحد إلىّ.
………………………….
* أغنية الحلم العربى لمدحت العدل