أنا المنزلق حافيًا فوق أرض خشنةٍ، الهازئ بِمُعامِل الاحتكاك وشروط الحياة الجامدة.
أنا حامل التحيات للعناصر المشعّة بذاتها في الوجود، لا لمصابيح راضعةٍ من كهرباء.
أنا الذي حينما أَخُشُّ فراشة القز أحب أن أكون حرير روحها، وحينما أخرج من دودة القز لا أحب أن أكون حرير شرنقتها.
أنا غير المتعادل دائمًا، حتى إذا سكنتْ روحي المصابةُ بالحموضة جسدًا قلويًّا.
أنا الذي إن ذبتُ بسرعةٍ في البنّيّ المحروقِ، بديناميت معشوقتي المتعجّلة تصفيتي، لم أخش تحللي النبيل، بقدر ما أخاف على نضارة ناسفتي من فنجان قهوة سريعة التحضير.
أنا الذي أمنّي نفسي بسلامة الوصول، ليس عن ثقةٍ، لكن لأن جُرحي سبقني ووصل “سليمًا”، إلى الضفة الأخرى من المتاهة!
2– (الطاقة):
الشعر عندي ليس اهتمامًا، بمعنى الاحتشاد والانشغال والقصدية. الشعر عملية حيوية، عادية جدًّا، لكنها لازمة للوجود، شأن التنفس والهضم. الشعر هو “التمثيل الضوئي” الذي فُطرت عليه روحي، وتمارسه ليل نهار، بكلوروفيلها الخاص جدًّا، ولا تستلزم آلية عملها طاقة الشمس كأوراق النباتات.
الميكانيزم معقد بالتأكيد، هذا أمر مسلّم به، لكنني لا أقف كثيرًا عنده، طالما أن العملية تحدث من تلقاء ذاتها (عملية تحويل طاقة الحياة إلى طاقة شعرية)، وطالما أن المنتج غزير وافر بفضل الله، والأهم أنه منتج جديد، مرغوب فيه، لا يشبه غيره، قادر على أن يترجم بأمانة شفرتي الوراثية، ويعكس مكابدات صديقي الإنسان في كل مكان، ويرسم صورة بانورامية لهذا العصر الآلي الرقمي الأجوف، بتركيز شديد.
أنا لا أبسّط الأمور أكثر من اللازم، ولا ألغي التخطيط والذهنية ومقومات الاحتراف ولوازم الثقافة والمعرفة التي تنبني عليها أية تجربة شعرية طموح، لكنني أراهن في الأساس على نفاسة المعدن بصورته النقية، على “الشعرية الخام” إذا جاز التعبير. إن الذي وجدتُه في الشعر هو “الشعر نفسه”، كما تمنيتُ أنا أن يكون، أي بالصورة التي تستهويني، ومن ثم فإنني أشرك القراء معي ببساطة وحميمية في ملامسة هذا الجوهر، الذي أراه مختلفًا نادرًا، من وجهة نظري أنا على الأقل.
3– (هو):
“إلى أي مدىً يشغلكَ القارئ؟!”، مثل هذا السؤال يشي بأن القارئ من المحتمل أن يغيب كليًّا أو نسبيًّا عن الكتابة، وإن حضر ـ ولو كليًّا ـ فإنه يحضر بقوة “الانشغال” و”الاشتغال”! ما هذا الفصل التعسفي بين الشاعر وقارئه، بين كيانين منصهرين تمامًا، بل كيان واحد، يغذّي أنسجته دمٌ واحدٌ، وهواءٌ واحدٌ؟!
أتصور أن “حياة الشعر” مرهونة في الأساس بكونه “شعر حياة”، فبقدرة النص الحيوي على النبض الطبيعي والحركة الحرة ـ بدون أجهزة إعاشة وأسطوانات أوكسجين وأطراف صناعية ـ تُقاس عافيته وخصوبته، ويتحدد عمره الحقيقي، ويمتد عمره الافتراضي خارج المكان والزمان. حضور القارئ، بل حلوله، في الماهية الإبداعية الملغزة، هو وضع طبيعي يعكس انفتاح المبدع كإنسان على أخيه الإنسان، ويعكس انفتاح الكتابة الإبداعية على العالم الحسي المشترك، والوقائع والعلاقات المتبادلة، وأيضًا على الأحلام والهواجس والافتراضات والفضاء التخيّلي غير المقتصر على فئة نخبوية دون سواها!
لقد أفسد الوسطاء (الذين لا يمتنعون) كل شيء، حتى صفاء العلاقة بين الشاعر وقارئه، عفوًا بين الشاعر ونفسه، فصار الشاعر يخاطب نفسه عبر وسيط، ويرى الحياة من خلال مناظير وتليسكوبات، مع أنها أقرب إليه من حبل الوريد! لقد أفسد الوسطاء ليس فقط رؤية العالم، لكن أيضًا “تشكيله” أو “إعادة صياغته” كما يقول البعض، فحلّت الأغذية المعقدة، المليئة بمكسبات الطعم والألوان الإضافية والمواد الحافظة، محل الصحي المستساغ المؤثر البسيط، الأقرب إلى الفطرة والبدائية، وهو الذي يترفع عنه البلاغيون المقولبون وذوو المفاهيم المعلبة، مع أن خبزهم اليومي وحصادهم المعرفي في جوهره من طحين البشر في علاقاتهم وتفاعلاتهم الطبيعية، ومع أنهم ارتضوا بنشر أعمالهم في كتب ومجلات من لحم ودم، يتم عرضها فوق أرفف مكتبات، وعلى أرصفة شوارع مزدحمة تدوسها أقدام البشر!
لتحديد (إلى أي مدىً “يشغلني” القارئ؟!) أقول بمنتهى البساطة: ليست هناك مسافة أصلاً بين الشاعر والقارئ، بشرط ألا تكون هناك مسافة بين الشاعر ونفسه. إن الشاعر الذي يقول ما لا يطمح أحدٌ أن يقوله أو يسمعه، أو ما لا يصلح أن يردده أحدٌ غيره، هو في الحقيقة لم يقل شيئًا، لأن فعل القول هنا أحادي ناقص، على أن هذا الأمر لا يتنافى مع مسلّمة أن الشاعر الكبير يجب أن يكون مغايرًا متفردًا، وتلك هي المعادلة الصعبة.
إن الاستمتاع الذاتي بالكتابة الحرة، كغاية أولى وأخيرة للشاعر، ووضاءة الاستشفاف النقي، وفردانية التعبير، وخصوبة وعمق التكثيف الشعري لحركة الحياة، والقدرة على بلورتها بذكاء في قطرات مضيئة مدهشة، أو ما يمكن تسميته عمومًا بـ”شعرية الشاعر، وآلياتها”، ليست أبدًا عوازل حرارية ولا أبراجًا عاجية، تفصل روح الشاعر المتقدة عن أرواح أخرى أقل أو أكثر نشاطًا تدور في الفلك نفسه، لكنها كلها تشكل جوهر الشاعر الفذ المتّقد، وطاقته الكبرى التي تمكنه من الالتصاق الحميم أكثر بالأرواح التي هي ملتصقة به أصلاً، فيقول الشاعر بفعل هذه الطاقة المتوهجة ما يتمنى القارئ أن يقوله إذا توفرت له هذه الصلاحيات التعبيرية التفجيرية.
وتظل معجزة الشاعر الحقيقية مقترنة بأنه هو الذي تمكن بالفعل ـ دون سواه ـ من قول ما تمنى الكثيرون أن يقولوه، على هذا النحو الطازج المدهش، وأنهم قالوا مقولته، بعد أن قالها، ليعبروا بها عن أنفسهم، ويفهموا أعماقهم وأعماق العالم أكثر. وهذا الأمر لا يتنافى أيضًا مع كون القصيدة النثرية الحديثة نتاج معاناة فرد في الأساس، وتلك معادلة أخرى أكثر صعوبة.
انطلاقًا من هذا، وفي القرية الكونية التي نعيش فيها الآن، وفي فضاء النشر الإلكتروني، وفي ظل امتلاك أغلبية الشعراء ـ وأنا منهم ـ مواقع شخصية على شبكة الإنترنت، أطمح ـ كشاعر ـ إلى أن أكون صوت نفسي بالضرورة، وصوت صديقي القارئ، صديقي الإنسان، في كل مكان، خصوصًا أن هموم البشر الملحة صارت تتعلق أكثر بمصيرهم المشترك، بوجودهم ذاته، وليس بقضاياهم الإقليمية المتضائلة.
في ديواني الأخير “الأعمال الكاملة لإنسان آلي”: أنا الشاعر وأنا القارئ معًا، أنا قارئ ذاتي وقارئ قارئي، والقارئ قارئ ذاته وقارئي، والنص الشعري نصف زهرة تكتمل بالآخرين، والرهان معقود على قدرة النص على اختصار مكابدات إنسان القرن الحادي والعشرين في القارات الست، في المجتمعات المستضعفة، وفي بؤر القوة المهيمنة في الآن ذاته، لأن الإنسان ـ في الجانبين ـ مهزوم، وغائب، وبلا روح، يبحث عن ظل شعري يتنفسه.
4– (معًا):
“الغريبُ،
الذي يعبرُ الطريقَ
ليس بحاجةٍ إلى عصا بيضاءَ
ولا كلبٍ مدرّبٍ ..
هو بحاجةٍ إلى أن تصير للطريقِ عيونٌ،
تتسعُ لغرباء”
5- (مهرجان):
= في دمي مهرجانٌ شعريُّ دائمٌ، يسعُ الوجودَ.
= دقاتُ قلبي حفلاتُ توقيعٍ وإيقاعٍ، متصلةٌ.
= أحتفلُ باليوم العالمي للشعر، مع كل بلعةِ ريق.
——————————————————————————————————-
(*) شريف الشافعي، شاعر من مصر.
http://www.sharif.50megs.com/
خاص الكتابة