محمد إبراهيم قنديل
“حسنًا..أنا مجنون
دعنا نصل إلى هذه النتيجة مبكرا من قبل أن نستهلك سطورًا وخلايا عصبية كثيرة في اكتشاف هذه الحقيقة البسيطة.“
بنفاد صبرٍ يوحي بصراعٍ متأجج حول صحةِ تلك العبارة الافتتاحية يستهلُّ الكاتب محمد عمرو الجمَّال روايتَه الثانية الصادرة في 2018 عن دار ابن رشد للنشر والتوزيع ونوستالجيا للإعلام والترجمة والنشر، مانحًا حكايتَهُ فرصةً لمراوغة القارئ والتفاعل معه عبر شكٍ يصفعه في أول جملة من الرواية ويتمادى ليمنحه سلطةً أكبر “فإن أثبتُّ لكم خلالَ الحكايةِ أنني حسين منصور فأنا لستُ مجنونًا ولا أبي كان كذابًا، وإن لم أفعل فاتركوني تائهًا في العدم، ولا توقظوني أبدًا أبدًا.”
مستلهمًا لتراثٍ راسخٍ من ألف ليلة وليلة والحكايات الشعبية والأسطورية النابعة من الريف المصريّ ومستعيرًا لطريقةٍ أراجوزيةٍ شديدةِ التميز يحكي الروائيُّ الشابُّ حكايةَ قريةٍ ترزحُ تحتَ ظلمٍ فادح بقدرِ ما يأكلُ خيراتِها يبدلُ تاريخَها ليصنعَ لنفسِه ماضيًا مزيفًا يغرسُ به جذورًا تحكمُ قبضتَه على مقاليد الأمور، لكنه يُوَاجَهُ برجلٍ لا يملكُ سوى حكاياتٍ يزلزلُ بها عرشَه ويستعيدُ بها حقوقَه، حكاياتٌ عن الماضي تجعلهُ واعيًا -كراوٍ وبطل- أنَّ الزمنَ تيارٌ واحدٌ متصلٌ تستطيعُ تغييرَ اتجاهِه وقوتِه بتغييرِ أيِّ موضعٍ شئتَ منه، وحكاياتٌ عن الحاضر تستجلبُ عداواتٍ وصداقاتٍ وحركةً سرديةً صاخبة تفضي إلى حكايةٍ حالمة عن المستقبل وعن يوتوبيا قد تصطفي سكانَها فتضيءَ عالمَهم وتؤنسَ وحشتَهم وقد تبقى قائمةً على الهامش كشبحٍ في الظلام يصلحُ مرتعًا للهواجس والجنون.
يبني الجمَّال روايته على المفارقات الخلاقة بين الماضي والحاضر، بين السلطة والعقل، بين القدرة والعجز، وبين الحب والكراهية، لتحكي كلُّ شخصيةٍ حكايةً متشعبة تلتقي مع غيرها من الحكايات في نقاطٍ تتسعُ لتشكلَ فضاءً رحبًا للأحداث التي تحدثُ لأنها الوجهةُ الوحيدةُ المناسبةُ لالتقاءِ كل الطرق، ونرى في ثنايا العملِ المحكَم ما يُشكِّلُ شبَكّةً قدَريةً منسوجةً ببراعة ليبقى الجميعُ في مكانه الذي يريده الراوي المتغير، ويبلغُ من سلاسةِ السرد أنَّهُ يسمحُ للجميع بحكايةِ القصة ويسمح للجميع بالتعقيب والنقض كما يسمحُ للقارئ ذاته بمشاركةِ الأبطال همومَهم والتورط معهم من صفحةٍ إلى أخرى، لكنه لا يعطيه فرصةً لإصدار حكمٍ قاطعٍ يهدمُ البناءَ الهندسيَّ الدقيق لفصول الرواية وتستمرُّ المفارقاتُ في ممارسةِ دورِها الأهم وهو التعميةُ المقصودة على مصائر الشخصيات واتجاه الأحداث بل وكشف كثيرٍ من الأمور التي تبدو غامضةً في مسار الرواية.
ويبقى السؤالُ الذي ينطرحُ من تلقاء نفسه بعد الفراغ من الرواية: هل اعتمدَتْ الروايةُ الرمزَ أم صنعَتْ رمزَها الخاصّ؟
ولأنَّ الروايةَ ثريةٌ وخطوطُها متشابكةٌ فإن الإجابةَ على هذا السؤال لا تحتاجُ تتبعَ كلِّ الخيوطِ بقدرِ ما تحتاجُ إلى انسجامٍ مع الحالةِ التي يُصَدِّرُها كلُّ عنصرٍ من عناصر الرواية، زمنٌ حاضرٌ يدورُ حولَ ثورة يناير لكنه يقفزُ عائدًا إلى النحاس باشا وجمال عبد الناصر ومَن بعدهما وأحيانًا مَن قبلهما ربما حتى العودةِ إلى ميلاد الزمن نفسه، ومكانٌ يطلُّ على العالم المعمور بتكويناته الريفية والمدنية والصحراوية أحيانًا، يرتدي جلبابًا ريفيًا فضفاضًا يتسع لاحتضان كل هذه التكوينات ويمارسُ مهمتَهُ كإطارٍ متكامل مع اللوحة المرسومة ليؤكدَ دائمًا أنَّ الفضاءَ الإنسانيَّ أرحبُ من التقسيمات الاجتماعية أو الإثنية القاصرة، وتأتي الشخصيات الروائية بالغة الدلالة بين الأديب سيد الحكايات والحالم المهزوم قتيل الحق وسيد القرية القوي الظالم والمثقف المتنقل بين المذاهب الفكرية والتاجر العملي والمحامي الشريف والغجرية الساحرة وعفريت الترعة الطيب وغيرهم من الذين تزخرُ بهم الرواية وتمنحهم فرصةً للتعبير برمزيةٍ شديدة الوعي عن الإنسانية بمنظورٍ واسع وعن مصر بمنظورٍ محدد وعن ثورتِها الغائبة الحاضرة في عملٍ يتطلبُ عمقًا في قراءتِه ودراستِه اللتين تضيفان للقائمِ بهما كثيرًا من المتعة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
روائي وناقد مصري