أجمل فكرة فى العالم

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 1
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمد الفخراني

أَغلقَ “نقَّار الخشب” عينيه لحظات ثم فتحهما، تَطلَّعَ حوله، نظر إلى “تَخَيَّلْ”، قال: “والآن.. ماذا؟”.

قالت: “تَخَيَّلْ أنت”.

“إنه مكانُكِ، يُمكنكِ أن تعرفى ما سيحدث”.

“لا أعرف، الإله يعرف”.

نظر “نقَّار الخشب” بعيدًا.

قالت “تَخَيَّلْ”: “ما زِلْتَ تَشُك؟ أو ما زِلتَ لا تؤمن بوجوده، هو يرانا على أيَّة حال لو أنك تفكر فى شىء ما، لا أعرف”.

تلفَّتَ حوله، وقال: “حسنًا، لو أنكَ موجود، لو أنكَ هنا، هل يمكن أن تقول لى شيئًا، أو تعطِنى علامة على الأقل؟”.

لم يَحْصُل على شىء.

 هَزَّ كتفيه، وقال: “لو أنكَ هنا، أيًّا ما تكون، فأنا أتَفَهَّم أنك لا تريد أن تتحدث إلىّ، لكنى رأيت الناس يخرجون من ذلك المكان، الجحيم، لأسباب بسيطة، وبدون أسباب، رأيتهم فى النهر يستعيدون حياتهم، لا يمكننى أن أتجاهل ما رأيته، لا بد أن هناك قوة خلف هذا كله، وأنا.. أنا.. أنت.. لا أعرف”.

صمَتَ “نقَّار الخشب”، ولم يتوقَّع ردًا. 

 سَمعَ صوتًا عَرفَ أنه صوت الإله، يقول له: “لا تكن حزينًا، أنا أحبك”.

 ارتجف قلب “نقَّار الخشب”، شعرَ بروحه تبكى وتبتسم معًا، عرف أنها روحه وليست شيئًا آخر.

قال: “أنا.. أنت.. هل.. هل.. أنت..”.

صوت الإله: “أنا أُحبك”.

 “نقَّار الخشب”: “أنا.. أنت.. هل ما أشعر به الآن حقيقى؟”.

صوت الإله: “أنا أحبك ‘نقَّار ‘الخشب’، هل تستطيع أن تبتسم؟”.

حاول “نقَّار الخشب” أن يبتسم وهو يتلفَّتُ حوله.

قال: “أنا.. لا أعرف.. أنت.. أَبتسم؟ هذا كل شىء؟”.

صوت الإله: “ابتسامة، نقَّار الخشب”.

 نظرَ “نقَّار الخشب” إلى الأفق، وابتسم.

صمْتٌ لطيف.

صوت الإله: “الآن، أَنقلكما معًا إلى الجنة”.

 “نقَّار الخشب”: “لا، من فضلك، لدىَّ طلب، رجاء”، صمَتَ لحظة، وقال: “رأيتُ الكثيرين فى الجحيم، وأريد أن أعود إليهم كى أُخَفِّفَ عنهم، أَلمسهم، وأَحضنهم، سأبقى هناك لأجلهم”.

 قالت “تَخَيَّلْ”: “لن تأتى معى بعد أن انتظرْتُكَ كل هذه السنوات؟”.

 لم ينظر إليها.

 صوت الإله: “هذا اختيارُكَ النهائى؟”.

 “نقَّار الخشب”: “نعم”.

 صوت الإله: “يُمكنكَ أن تنساهم فى الحال لو اخترْتَ ذلك، كأنك لم تَرَهُم أبدًا”.

“نقَّار الخشب”: “لا أريد أن أنساهم، أرجوك، أريد أن أفعل أىّ شىء لأجلهم”.

 صوت الإله: “وهى؟ ‘تَخَيَّلْ’، انتظرَتْكَ إحدى وخمسين سنة”.

نظر “نقَّار الخشب” إلى “تَخَيَّلْ”: “أعتذر لكِ، أنا آسف”، نظر إلى الأفق، وقال: “من فضلك، هذا ما أريده، أعود إلى الجحيم لأُخَفِّف عنهم، أرجوك”.

 انتظرَ الردّ.

 نظرَتْ “تَخَيَّلْ” إلى الأفق، وقالت: “عفوًا إلهى، وأنا أريد أن أكون معه، يمكننى أيضًا أن أُخَفِّف عنهم، أرجوك، اسمح لى بذلك”.

انتظَرا الردَّ معًا.

رأيا ابتسامة الإله بقلبَيْهما، ثم سَمِعا صوته: “أنا الإله، أُدْخِلُ الناس الجنة، أنتما فى الجنة، وكل مَنْ فى الجحيم يخرجون منها الآن إلى الجنة”.

ابتسَمَتْ روحاهما.

رَأَيا كل مستويات الجحيم، وكل زاوية منها، انطفأتْ نيرانها، انتهى عذاب كل إنسان، واسترَدَّ حياته، وجماله.

الجحيم خالٍ.

 رَأَيا أبواب الجنة تنفتح للجميع، والجميع يدخلونها.

دخلها كل إنسان.

تطلَّعَ “نقَّار الخشب” إلى الأفق، وقال: “لكن، فى الحقيقة، ما زال لدىَّ عتاب”.

صوت الإله: “سأسمعك”.

“نَقَّار الخشب”: “وَلَدَىَّ أسئلة كثيرة”.

صوت الإله: “ستحصل على كل إجاباتك”.

لحظة صَمْت.

صوت الإله: “هل لديكَ شىء آخر؟”.

“نَقَّار الخشب”: “ألن.. تعاتبنى حتى على شتائمى؟”.

رأى “نقَّار الخشب” ابتسامة الإله بقلبه، فابتسمَ.

قالت “تَخيَّلْ”: “وأنا.. أنا أيضًا إلهى، لدَىَّ دفتر أسئلة، أنت تعرف”.

صوت الإله: “ستحصلين على دفتر إجاباتِك”.

رأت “تَخَيَّلْ” ابتسامة الإله بقلبها، فابتسَمَتْ، وهمَسَتْ: “أنا أحبك”.

لحظة صمْت حلوة.

صوت الإله: “والآن، ما رأيكما فى هدية صغيرة؟”.

رَأَيا لوحات تخرج من الأرض واقفةً حولهما، كل اللوحات التى كَسَرَها “نقَّار الخشب” وقامت “تَخَيَّلْ” بترميمها، أَدْرَكا فى داخلهما أنها نسخة عن اللوحات الموجودة الآن فى أحد متاحف العالم.

ظهرَتْ اللوحة رقم خمسين، وبجوارها لوحة “العينان السعيدتان”.

“شكرًا لك، شكرًا لك”، يُكررها “نقَّار الخشب” و”تَخَيَّلْ”، يبتسمان، يبكيان.

رَأَيا بقلبَيْهما ابتسامة الإله.

ظهرَتْ لهما لوحات بها كل الوجوه الإنسانية التى رسَمَها “نقَّار الخشب” فى مجموعة كراسات: “الإنسان أجمل فكرة فى العالم”.

تَذَكَّرَ أين رأى كل وجه، ومتى، وإحساسه عندما كان يرسمه، استعاد كل لحظة إنسانية عاشها وقتها.

شعرَ برغبة فى أن يحضن كل وجه.

احتضنهم جميعًا بقلبه.

ابتسمَ كثيرًا، وبكى كثيرًا، أمام وجوهه الإنسانية.

 

قالت “تَخَيَّلْ”: “الآن، ربما لديكَ حكاية كاملة”.

ردَّ “نقَّار الخشب”: “لا، لا أحد ستكون لديه حكاية كاملة”.

ابتسمَتْ له: “قُلْها نقَّار الخشب، أُحِب أن أسمعها”.

“أقول ماذا؟”.

“أنتَ تعرفها، جُمْلَتكَ المُفَضَّلَة لى”.

ابتسمَ “نقَّار الخشب”، نظرَ إلى وجه إنسانى، وقال: “الإنسان أجمل فكرة فى العالم”.

…………………

مقطع من رواية “أراك فى الجنة”

 

مقالات من نفس القسم