أثر الفيلم الوثائقي على كتاب الرحلات  (الطريق إلى أبوكرشولا)

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 معتصم الشاعر

      في السودان، يرتبط السفر في أذهاننا بمشاعر ممزوجة بالحنين و لذة الاكتشاف وألم الفراق، وقد كتب الشعراء عن السفر وتغنى المغنون بأغنيات مثل” كل حاجة ولا السفر”، ” يا مسافر وناسي هواك”، ” أديني رضاك قدامي سفر”، وغيرها من الأغنيات، إلا أن الاهتمام بأدب الرحلات ليس واسعا، وليس في المكتبة السودانية غير كتابات قليلة في أدب الرحلات، ومن النادر أن يهتم كاتب شاب بهذا الجنس الأدبي المهم، خاصة في عصر الرواية ومجدها، ولذلك أعتبر كتاب الطريق إلى أبوكرشولا رحلة محفوفة بالخطر للدكتور مختار عبد الرحيم والصادر في العام 2021؛ من الإضافات المهمة إلى المكتبة السودانية، فهو يعطي القارئ السوداني والعربي أيضا معلومات مهمة عن أسفار السودان، في اقليم كردفان وبيئته الساحرة والقاسية أيضا وسكانه المميزين.

الكاميرا الوثائقية:

   يعتمد الكاتب على تقنيات أقرب إلى تلك التي تستخدمها الأفلام الوثائقية، حيث يدخلنا إلى رحلته بلقطة عامة لسوق الرهد أبودكنة لتبدأ الرحلة إلى أبوكرشولا، هذه اللقطة العامة تتجسد في جملته الأولى ” السوق مكتظ بالناس”، ثم تنقلنا الكاميرا إلى لقطات تفصيلية، ” الباعة المتجولون يملؤون الطرقات ذهابا وإيابا، عربات الكارو هنا وهناك، حركة اللواري والوابورات الزراعية تزيد الازدحام، تجار الفواكه يراقبون القاصي والداني، تجار الصحف الورقية يمرون هنا وهناك، تجار البصل والزيت والتوابل ترتفع أصواتهم يتنافسون في نداء الزبائن، رائحة الأقاشي المشوي تعطر المكان”، ثم نسمع صوت المعلق على الفيلم الوثائقي يقول:” السوق سوق مدينة الرهد أبودكنة”، وتنتهي الفقرة الأولى.

معلومات جغرافية:

       في الفقرة الثانية مباشرة، يخبرنا الراوي- أو المعلق الصوتي على الفيلم الوثائقي- عن المدينة فيقول:” الرهد مدينة تقع في شمال كردفان بالسودان على ارتفاع 490 متر، 1608 قدم فوق سطح البحر، وتبتعد عن العاصمة الخرطوم 379 كيلومتر،…….”.

عودة الكاميرا:    

     بعد تقديم معلومات كافية عن مدينة الرهد، تأخذنا عين الراوي- الكاميرا- إلى مكان داخل السوق وهو موقف السيارات، فنرى ” تجمع عدد من المسافرين في موقف الجبال الذي يقع في الجزء الجنوبي من السوق”، وتقترب الكاميرا أكثر إلى مكتب السفريات حيث يقطع الناس التذاكر، فنرى أنه ” مكتب كبير به تربيزة في مدخله يجلس عليها أحد موظفي المكتب لتسجيل المسافرين وقطع التذاكر، وكنبة صغيرة يستعملها بعض المسافرين للانتظار “، وأخيرا يظهر لنا الراوي بشحمه ولحمه، فيستخدم ضمير المتكلم لأول مرة، ” أخذت مكاني بتلك الكنبة بعد استلامي للتذكرة”، ثم نتابعه وهو يجلس لشرب الشاي، على مقعد محلي يسمى البنبر، وبائعة الشاي تسأله ويجاوبها، ثم يتحرك نحو عربة لوري بتفورد مكتوب على صندوقها الخلفي يا سارية الجبل، وهي عادة درج سائقو ناقلات السفر عليها، فيعرفها الناس بأسمائها وليس بأرقامها.

توقف السرد الذاتي:

يتوقف السرد الذاتي، ولا يستمر ضمير المتكلم طويلا، ويعود المعلق الموضوعي ليعطينا معلومات عن اللواري ومكانتها في الوجدان الشعبي ومتى ظهرت في السودان بحسب ما ورد في كتاب الشيخ بابكر بدري في كتابه تاريخ حياتي، وعن شركة فورد التي صنعتها، ثم يخبرنا عن عدد من اللواري التي يعرفها أهل المنطقة، مثل ” دقل الشاردات”، ” كيف يجهلوك”، ” الولف كتال”، ولا يتوقف الحديث عن اللواري إلى بعد أن ” أدار السائق سالم مفتاح عربته مشغلا محرك الماكينة معلنا بدء رحلتنا” ليتدافع الركاب نحو العربة، ونرى ملامحهم وسحناتهم بعيون السارد الموضوعي.

وصف الطريق:

     اللوري ينطلق في ربوع كردفان، من منطقة إلى أخرى، يعرفنا الراوي عليها، ويرينا وعورة الطريق، المدن التي لو كان لها لسان لتسولت من أجل التنمية، الخريف والمطر، ولا يجد الراوي فرصة أو مشهدا إلا علق عليه وعاد بنا إلى الوراء، ” عبرنا تلك الأراضي الزراعية الممتدة إلى أن وصلنا إلى حِلة فارينق والتي تقع شمال المدينة  وهي من المناطق التي كان يقطنها أهلنا الجنوبيين (سكان دولة جنوب السودان الآن) في الفترة قبل اتفاقية السلام الشامل وقبل انفصال دولة جنوب السودان، عندما كنا شعبا واحدا، وكان السودان وجنوبه دولة واحدة”، ثم يخبرنا عن الجنوبيين الذين كانوا يعملون في المشاريع الزراعية، واحتفالهم الأسبوعي لعرض التراث والرقصات الشعبية.

الذروة:

 تكون الذروة حين تجتمع الظروف غير المواتية لتأخر الرحلة، عندما يشتد المطر، ويعجز اللوري عن عبور الوديان الممتلئة والخيران، ويتأخر المسافرون، تمتد الرحلة لأيام، في هذه الحالات يعاني الناس من قلة الغذاء، ومن خطورة النوم في العراء والهوام، ويكثر لقط الركاب، قد يلقون اللوم على السائق وقد يقارنون بين سائق سيارتهم وآخر في مهارة قطع الوادي أو الخور، كالحوار الذي نسمعه:” وحياة ديني وأيماني لو ده ود منقة كان قطعنا قبييييييييييل”، رد عليه بائع الأقمشة:” ود منقة قالوا قبيل جاي من الخرطوم، كان وصل الرهد ما أظن يبيت، هسي يمكن يجي”.

الطريق لا يرحم، والتنمية لا تتوفر إلا في المدن الكبيرة التي يسافر الناس إليها لطلب العلاج والسلع الضرورية، وها هي امرأة تعسرت ولادتها، تتمنى وأهلها لو تستطيع سيارتهم الطيران، لإنقاذ روحها وجنينها. 

الاقتراب من السرد الروائي: 

   يستخدم الكاتب أساليب الفيلم الوثائقي في غالب الكتاب، لدرجة تشعرك بأنك تشاهد فيلما وثائقيا غنيا بالمشاهد البصرية وبالمعلومات أيضا، لكن يقترب الكاتب من السرد الروائي حين يجعلنا نقترب أكثر من الركاب، ونستكشف مشاعرهم من حواراتهم بلهجتهم السودانية، وحين يصل الراوي إلى مدينته أبوكرشولا، نحس بشعوره تجاه منطقته وذكرياته، ” أثناء عبوري لتلك المنطقة، بعد مبنى المستشفى مباشرة، رجعت بي الذاكرة إلى أيام براءتنا الطفولية في الماضي البعيد …”، الرحلة شارفت على النهاية، تصل بنا الكاميرا  إلى منزل الراوي بحي غرب المدارس، يخبرنا عن موقعه والأحياء المحيطة به، ونقابل أناسا من الحي، وفي لقطة أخيرة تجسد خطورة الرحلة والسفر في الخريف، وهي لقطة بارعة ورمزية، جاء أحدهم يقول:” ماشين لناس محمد نديهم الفاتحة، شقيقتهم اتوفت في الطريق”، إنها المرأة التي صادفها المسافرون في الطريق وهي تعاني من عسر الولادة، لقد ماتت قبل أن تصل المستشفى، وختم الراوي رحتله بحالة من الحزن، رغم أنه شحيح في وصف المشاعر في  صفحات كتابه، فالمشاعر هي التي تجعلنا نقرأ الأدب، قال:” احتواني حزن جارف عندما عرفت أن المتوفية هي تلك التي التقينا بها في منطقة صوصل وهي في حالة ولادة متعسرة، مسعفة على قاطرة أحد الوابورات الزراعية” نهاية الرحلة.

مقالات من نفس القسم