أثر الطائر في الهواء.. رسائل الصداقة والشعر والحياة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

انتصار بوراوى

عرف الأدب العربي عبر تاريخه فن المراسلات الأدبية، أو ما يُعرف بـ”أدب ‏الرسائل”، والذي ازدهر بشكل خاص بين الأدباء منذ بدايات القرن العشرين. وفي ‏كتاب “أثر الطائر في الهواء”، الصادر عن دار الفرجاني-2023 يخوض القارئ رحلة أدبية فريدة عبر مراسلات أدبية ‏جمعت الشاعرين الليبيين عاشور الطويبي وسالم العوكلي.‏

يُفتتح الكتاب بمقدمة بديعة للشاعر الليبي خالد مطاوع،الشاعر والأكاديمي الليبي وأستاذ الكتابة الإبداعية في جامعة ميشيغان الأمريكية يستعرض فيها تاريخ أدب ‏الرسائل منذ فجر اختراع الحروف، ويرى مطاوع أن الرغبة في المراسلة كانت ‏الدافع وراء ابتكار الأبجديات. ويستقصي في مقدمته أولى الرسائل التي كُتبت في ‏اليوميات، مثل رسائل كريستوفر كولومبوس التي أرسلها إلى ملك إسبانيا عام ‏‏1493، والتي يعتبرها مطاوع بداية الثقافة في أمريكا اللاتينية. كما يشير إلى ‏رسالة بيدرو ألفايز كابرال إلى ملك البرتغال عام 1500، باعتبارها “النص ‏التأسيسي” للأدب البرازيلي. ورغم الطبيعة الرسمية لهذه المراسلات، إلا أن ‏المؤرخين ينظرون إليها كأول النصوص الأوروبية التي تناولت القارة الأمريكية.‏

وبعد استعراض تاريخ الرسائل في أوروبا وأمريكا، يخصص مطاوع الجزء الأخير ‏من مقدمته للحديث عن رسائل الطويبي والعوكلي، محللًا عالمها وأسلوبها. ويسلط ‏الضوء على عمق الصداقة التي جمعت الشاعرين، والتي منحت كتاباتهما حرية ‏وصدقًا في التعبير عن يومياتهما وأفكارهما.‏

يستمد الكتاب عنوانه من قصيدة لجلال الدين الرومي، قام بترجمتها الشاعر ‏عاشور الطويبي

‏”أَشِحْ بَصَرَكَ عَنِ الْوَرْدَةِ،

اتَّبِعْ أَثَرَ الطَّائِرِ الَّذِي حَطَّ عَلَى الْوَرْدَةِ وَرَحَلَ.‏

هَلْ تَعْرِفُ كَيْفَ تَجِدُ أَثَرَ الطَّائِرِ فِي الْهَوَاءِ؟

لَنْ تَتَّبِعَهُ بِعَيْنَيْكَ

لَنْ تَتَّبِعَهُ بِسَمْعِكَ

لَنْ تَتَّبِعَهُ بِأَنْفِكَ.‏

إِنْ كَانَ قَلْبُكَ خَالِيًا مِنَ الْوُرُودِ،

سَتَتَّبِعُهُ بِقَلْبِكَ، فَهُوَ خَبِيرٌ بِأَثَرِ الطَّائِرِ.”‏

هذه الأبيات الشعرية هي مفتاح لفهم عنوان الكتاب “أثر الطائر في الهواء”. ‏فالطائر يرمز للحرية والتحليق، وربما يكون دلالة على الشعر نفسه. فكيف يمكن ‏لطائر أن يترك أثرًا في سماء لا تحتفظ بشيء؟ هنا تتجلى جمالية العنوان، الذي ‏يشير إلى الأثر الروحي والوجداني الذي يتركه الشعر في نفس المتلقي أثر لا ‏يُرى بالعين، بل يُبصَر بنور القلب الشفاف الذي يستشعر مواطن الجمال في الكون ‏والحياة.‏

تأخذنا رسائل الشاعرين في رحلة شعرية وفكرية، فنتتبع “أثر طائر الشعر” الذي ‏حلّق في عوالمهما، حيث يتشاركان أحاديث شيقة عن الوطن، والشعر، والحياة، ‏مستعيدين تفاصيل طفولتهما وحياتهما المتباينة جغرافيًا،فالشاعر بينهما سالم العوكلي ‏يعيش بقرية كرسة، على أطراف مدينة درنة،وبدأت الرسائل المتبادلة في عام ‏‏2017، في مرحلة الحرب ضد تنظيم داعش الذى كان متحصن داخل المدينة أما ‏الشاعر عاشور الطويبي فيعيش في مدينة ترودنهايم النرويجية بعد تركه لبلدته وبلاده عقب حرب ‏‏2014، التي تسببت في حرق بيته ونزوحه عن بلدته “الطويبية” إلى صقيع ‏النرويج.‏

بين هذين المكانين المتباعدين حضاريًا وجغرافيًا، يتبادل الشاعران الأفكار حول ‏الكتب التي يقرآنها، ورؤية كل منهما للعالم ولأحداث بلادهم والحرب وفي إحدى ‏رسائله، يسأل العوكلي صديقه الطويبي – كونه طبيبًا – عن مفهوم الألم، ويستعير ‏منه تشبيهًا لوضع مدينة درنة، متسائلًا عن ضرورة “بتر” داعش من المدينة كما ‏يُبتر جزء مصاب بالسرطان. فيرد الشاعر عاشور الطويبي برسالة بديعة عن ‏‏”الألم”، قائلًا: “الألم في كثير من الأحيان يحاول أن يتشبه بنا ونحن نمضي في ‏طريقنا، مكانًا وزمانًا لكننا، بطبيعة ورثناها منذ آلاف السنين صرنا أكثر احتمالًا ‏له، بل صرنا بارعين في منحه أسماء وصفات وألوانًا جميلة.”‏

ويجيب سالم العوكلي عن معنى الألم للشاعر: “ربما الشاعر كائن حزين أولًا، لأنه ‏بطبيعته غير راضٍ عن الوضع الإنساني في ذروة تقشفه أو مغالاته. لكن هذا ‏الحزن لا يخلو من نبالة.”‏

يستمتع القارئ وهو يتنقل بين صفحات الكتاب، بالمحاورات التي تدور بين ‏الشاعرين في نصوص أدبية ولغة شعرية رفيعة، يجمعها همّ الوطن وأحلام الحرية ‏والعدالة التي تحطمت على أرض الواقع، أو كما يقول العوكلي: “يا الله، كم تبدو ‏المسافة بيننا وبين السجن قصيرة، وكم تبدو بيننا وبين الوطن الذي حلمنا به ‏طويلة!”‏

وللخيال مكانة خاصة لدى الشاعر كما يقول الطويبي: “طوال حياتي أعطيتُ للخيال ‏المكانة البارزة في كل شيء، الخيال صانع، الخيال إله.” ويعبر في رسالة أخرى ‏عن عشقه للشعر بمفهومه الكوني، متمنيًا أن يمتلك “ألف رأس، ألف قلب، ألف ‏يد” ليفهم ويستمتع بالكون بكل ما فيه.‏

يحتوي الكتاب على باقة من أجمل قصائد الشاعرين، التي يبعثانها أحيانًا في لحظة ‏كتابتها، أو تستدعيها الموضوعات الفلسفية والوطنية التي يتناولانها، وفي حديث ‏لهما عن النقد، يلفت انتباهنا رأي العوكلي الذي يقول: “الكتابة النقدية انحياز في ‏جوهرها، ولا يمكن أن تكتب عن شاعر أو قصيدة إلا إذا كنت منحازًا له” وهو ‏رأي يمثل حجة أمام من يهاجمون الذين يكتبون قراءات عن الدواوين الشعرية ويستعرضون جمالياتها الشعرية واللغوية.‏

يزخر الكتاب بترجمات رائعة أنجزها الطويبي،لعدد من شعراء العالم، مثل جلال ‏الدين الرومي، ولوركا، وشعراء من إيرلندا وأمريكا والصين وكوريا الجنوبية ‏فالشاعر عاشور الطويبي كما عوَّد قارئه، لا يترجم إلا النصوص الشعرية التي ‏تحمل روحً شعرية كونية، بغض النظر عن جنسية الشاعر، في نظرة إنسانية ‏وكونية شاسعة للشعر.‏

في إحدى الرسائل، يرد سالم العوكلي على ترجمة الطويبي لقصائد لوركا بنص ‏جميل يستحضر فيه قصة الشاعر العظيم، الذي واجه الجلاد بالجمال والشعر، ‏فأطلق عليه الطاغية الجلاد رصاصة الموت. ‏

يتبادل الشاعران الأفكار والرؤى،حول ما تعرض له الكتاب الشباب من هجمة ‏شرسة بعد نشر كتاب “شمس على نوافذ معتمة”، ويتحدثان عن بزوغ أصوات ‏شعرية شبابية مميزة، والتي يرى الشاعر عاشور الطويبي أن أغلبها يتركز في ‏المنطقة الشرقية لأن سكانها حسب رأيه يتميزون بالانفتاح والغضب والتمرد، مع ‏إشارته إلى تأثر الشعراء الشباب بالشاعر تشارلز بوكوفسكي من حيث اللغة ‏الشعرية والرؤية للحياة.‏

كتاب “أثر الطائر في الهواء” هو واحة من الشعر والنثر والفكر، يأسر القارىء ‏بجماله الخلاب ويأخذه إلى عالم يفيض،بالجمال الشعري والفكري، بين شاعرين ‏مسكونين بالشعر، ولا يقتصر الكتاب على كونه مجموعة من الرسائل الأدبية بل ‏هو شهادة حية على أن الشعر، قادر على تجاوز المسافات الجغرافية والظروف ‏القاسية ودليل على أن الكلمة الصادقة، حينما تخرج من عقلين يتشاركان نفس ‏الشغف، تصبح جسرًا يربط بين الأرواح، مهما تباعدت المسافات.‏

الكتاب هو احتفاء بالصداقة، وبالخيال ‏الذي يحوّل الألم إلى إبداع، ويجعل من أثر الطائر المحلق في الهواء أثرًا باقيًا في ‏الروح.‏

……………………

*كاتبة وقاصة من ليبيا

مقالات من نفس القسم