مالك رابح
في أحد مشاهد فيلم الناظر يظهر اللمبي مستاءً على المسرح لأن الناظر عاشور، في نظره، استكبر ولم يحضر مع ابنه صلاح وصاحبه إللي مش فاكره ياض إلى فرحه. لقد وُضِّحت له المسألة مرتين وفي المرة الثالثة لم يجد صلاح، الجالس على كرسي العروس، بدًا من إخراج شهادة وفاة أبيه من جيبه ورفعها أمامه وأمام المعازيم.
ينتمي فيلم الناظر إلى كوميديا الفارص ويبدو واضحًا أن السبب الرئيسي لوجود شهادة الوفاة في جيب الابن هو انتزاع الضحكات من المشاهدين، مع ذلك أجدني أفكر في شخص يسير في المدينة وشهادة وفاة الأب في جيبه، ما الأسباب التي تجعله يفعل ذلك؟ ربما صلاح يحمل شهادة وفاة أبيه إلى كل مكان لأنها مدخله إلى العالم الجديد، هي انتصاره الذي لم يكن له دخل فيه وتذكرته إلى حياة كاملة تتحقق فيها الأحلام، أو ربما هي كبسولة لتذكر صلاح، كلما خاف وكشَّ أو ارتعشت يده وهو يشرب سيجارة، إن إللي حابسه خلاص مات.
يعد انفصال الفرد البالغ عن سلطة الوالدين أحد الانجازات الضرورية، لكن المؤلمة أيضًا، فمن المهم أن يتم هذا الانفصال، يكتب فرويد في بداية مقاله رواية عائلة العصابيين. نعرف أن صلاح خائب، يجلس بجانب أمه يقرأ لها ترجمة المسلسل ويمضغ بلا صوت عدم رضاه، لم يستطع أن يخرج من بيت والديه ونخمن أنه لم يفكر، في صغره، في الهرب مرة من البيت (شيء لا يمكن تعويضه كما يقول ڨالتر بنيامين). ما قُدم لنا كان استحالة خروجه من البيت وما حدث معه كان على أساس ذلك؛ بعد أربعين والده قررت أمه، مدام جواهر، أن تترك له البيت. هكذا يُهيأ لصلاح انفصاله، في مكانه، عبر شهادة وفاة الأب ورغبة الأم في إعادة تقديم وجهها كمصلح في النظام الجديد.
من باب أن أمي مسافرة وهعمل حفلة، يمثل البيت الفارغ مدخلًا إلى عملية تصحيح لحياة صلاح (الشهوة الجنسية – الطموح) لكن البيت ممتلئ بالذكريات وبصور العائلة النووية على الجدران (الأب يده في جيبه/ الأبن يده على الأم). مقبض الحجرة يذكره بعجزه وكذلك كراسي السفرة، على هذا المكتب أصدر الأب عاشور قراره بإخراج البنات من المدرسة بعدما أنهى صلاح الإعدادية وعلى هذا الكرسي ظلّت أمه تقف حائلًا بينه وبين الفتيات في الإعلانات. لا يمر وقت طويل حتى نجد صلاح يرقص على السلّم: من ناحية يجلب إلى البيت عاطف (الحاجة الوحيدة اللي أنا اخترتها) واللمبي (المرشد في طريق الصياعة) ومن ناحية أخرى يزّقه أستاذ سيد وكيل المدرسة ليكون الناظر الجديد مكان الأب الراحل: يلبس ملابسه ويرتدي نظارته ويصرخ في الميكروفون أنا زي بابا بالظبط.
على الرغم من ذلك، يستمر صلاح في مقابلة الفشل المقرر من السلطات نهارًا وليلًا: يطبٌ عليه بوليس الآداب في بيت الدعارة وحين ينتهي به الحال هو ووفاء إلى سريره، لسبب درامي لا يعلمه إلا الله، تكبس الأم العائدة بالقوة الغاشمة، تخبره إن الكلام ده مش هنا برّه وتطرده خارج البيت.
لا نعرف الكثير عن ماضي صلاح (فشله في الثانوية وصورته مع وفاء في الحديقة) ولا نعرف ما هي رغباته أو أحلامه. إنه الشخصية الرئيسية الطيبة والغلبانة، أجوف، بلا كيان ولا أفكار، في الوقت الذي نجده يختار طريق الصياعة لأنه سيقلَّب الأب الميت في تربته نجده أيضًا لا يبدي اعتراضًا على الانتهاء كما أراد الأب في النظارة، يوقَع على أورقه المتأخرة ويتولى معاركه القديمة وحينما يستقيل مؤقتًا، لا يستقيل لأنه أراد شيئًا آخرًا، إنه يستقيل لأنه يؤمن بفشله في ملء ذلك الكرسي.
بدلًا من تصحيح حياته يمضي صلاح الوقت في تصحيح أخطاء أبيه وعوضًا عن تحقيق أحلامه يعرق صلاح لتحقيق أحلام الأم. ما يخبرنا به الفيلم هو أن خلاص صلاح من عجزه لا يكون بغير الحصول على مكان الأب، كأننا مهما فعلنا يجدر بنا أن ننتهي في أماكن آباءنا، قد نرتدي غير ما ارتدوا ونفكر بطريقة مختلفة، لكننا ننتهي هناك ومقدار نجاحنا يكمن في تصحيح الأمور من هناك. شهادة الوفاة هنا ليست أكثر من مجرد ورقة لاستلاب ضحكتين، لا تعني ولادتنا كنحن بل تحولنا إلى آخر مناسب، لا تعني البحث عن أدوار جديدة بل أداء دور مكتوب أصلًا ومن خلال أداء هذا الدور بطريقة مقبولة يكون تصحيح الحياة.
في النهاية، يكافأ صلاح بالزواج السريع جدًا والعجيب والغير مبرر من وفاء ويحصل صلاح على نسخته من الجنس كتصحيح للحياة لكنه هنا لا يبدو ثوريًا ولا تطهريًا بل مجرد فعل لاستمرار السلسلة ولإصدار شهادة ميلاد لعاشور آخر، الذي وعلى الرغم من چينات الأم يشبه الأب، كصلاح يشبه عاشور، كصلاح يشبه مدام جواهر، كعاشور يشبه مدام جواهر.