أبو حيان التوحيدي.. المثقف الشقي بثقافته

موقع الكتابة الثقافي art 52
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد سيد بركة

كان أبو حيان على محمد بن العباس التوحيدى (312-400 هـ) إنساناً موسوعى الثقافات، متعدد الاهتمامات، ولم يبعد أحمد أمين من الحقيقة حين وصفه قائلاً:

“إن أبا حيان كان واسع الأفق متعدد النواحى، إذ كان فيلسوفا مع الفلاسفة ومتكلماً مع المتكلمين ولغوياً مع اللغويين ومتصوفاً مع المتصوفين”.  بينما يراه الدكتور زكى نجيب محمود الفيلسوف الأديب المعبر عن ثقافة النصف الثانى من القرن الرابع الهجرى..

إن أسلوبه الجميل نصبّه رائداً في النثر الفني وأميراً من أمراء البيان العربي، كما يقول محمد كرد علي.

وإذا بحثنا عن جذورهذه الثقافة الموسوعية وجدناها فيما درسه أبو حيان من شتى ألوان المعارف فقد أكب على العلم منذ صغره وتتلمذ على أيدى أبرز علماء عصره مثل أبى حامد أحمد بن عامر المرورذى القاضى (توفى 362هـ) وهو إمام من أئمة الدين، واسع الإطلاع، عالم بالأدب، وقد درس التوحيدى على يديه الفقه الشافعى. كما درس النحو على يد أبى سعيد السيرافى (توفى 368هـ) وهو نحوي وأديب متكلم مشهور. وكتاب الإمتاع والمؤانسة وكتاب البصائر والذخائر لأبى حيان يعجان بالمسائل النحوية التى تدل على استيعاب الرجل لهذا العلم والخوض فى مسائله الدقيقة ولا نستغرب ذلك من تلميذ السيرافى الذى كان من ألمع نجوم عصره فى النحو وهو شارح كتاب سيبويه. وكما كان التوحيدي ملما بالنحو فقد كان ملما باللغة وكتاب البصائر والذخائر يشهد على ذلك فقد بحث في الاشتقاق والمصادر.

وقد صدق الباحث عبد الرزاق محيى الدين حين قال في كتابه عن أبي حيان التوحيدي:” وما كان تدفق أسلوبه واعتداد نفسه وتباعد ما بين آفاق مباحثه إلا مظهرا من مظاهر هذا الثراء اللغوي وإن المرء ليأخذه فضل عجب إذ يراه حاضرا لجواب عند كل سؤال يلقى عليه في مسائل اللغة ومع الجواب شاهده من مأثور القول في شعر أو نثر.”.

درس أبو حيان التوحيدي الفلسفة وعلم الكلام واستطاع أن يجادل متكلمي عصره وأن يدحض حججهم بالبرهان القاطع ومزج الفلسفة بالأدب ومن ثم أطلق عليه ياقوت:  فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة.

بحث أبوحيان التوحيدي في النفس وكمالها والإنسان وحده، والفرق بين النفس والروح والعالم وقدمه وحدوثه وصلة العالم السفلي بالعالم العلوي، وعن النفس وتجردها وأخلاقها وما يمكن إصلاحه من هذه الأخلاق. ودرس التصوف وهضم مسائله ومن ثم أطلق عليه ياقوت أيضا شيخ الصوفية.

إن مؤلفاته الكثيرة والمتنوعة (الإمتاع والمؤانسة، المقابسات، البصائر والذخائر، الإشارات الإلهية، الهوامل والشوامل، مثالب الوزيرين (أبي الفضل بن العميد والصاحب بن عباد)، الرد على ابن جني في شعر المتنبي، رسالة في أخبار الصديق والصداقة، تقريظ الجاحظ، في أخبار الصوفية،…) – هذه الكتابات – تشهد على سعة ثقافته فإذا أردت أن تختبر سعة إطلاعه في الفلسفة وعلم الاجتماع وتناول مسائل علم اللغة بمعايير فلسفية وأن تجمع آراء القرن الرابع الهجري في هذه المسائل  فإن كتاب المقابسات يغنيك عن الكثير.

قال عنه المستشرق مرجليوث: إنه ثبت للمجادلات الفلسفية التي يقول أبو حيان إنه استخدمها بنفسه. كما أشاد بفائدته العلامة محمد كرد علي والدكاترة زكي مبارك. أما الإشارات الإلهية فهو كتاب تصوف يدعو إلى تهذيب النفوس والتجرد عن مطامع الدنيا والدعوة إلى التعلق بالله والانقطاع والالتجاء إليه وحده في جميع الأحوال كما يرى الكتور عبد الرحمن بدوي..

إن أبا حيان مثقف موهوب بكل ما تحمل هاتان الكلمتان من معان، والموهوب دائما شديد الاعتزاز بنفسه لأنه يؤمن بأهميته وامتيازه. إن هذا الصراع بين ما يشعر به الرجل وما اضطرته الأيام إلى سلوكه كان يؤرق حياته وكان يؤلمه، ونحن لا نستطيع أن نفصل الرجل عن عصره ذلك العصر الذي اتسم بالتذلل والخضوع لأصحاب الشأن.

كان التوحيدي من أولئك العلماء الأدباء الذين أصيبوا في حياتهم بالبؤس والشقاء، يعاني من المسألة ويطلب من الله أن يغنيه عن الناس مما يدل على أنه كان متألما مزدريا لنفسه التي تمد يدها طالبة الرفد عند مالا يستحقون. وكان يؤلمه أن يستخدم أدبه وسيلة للثراء أو جمع المال وتسخير قلمه لمدح من لا يستحق المدح ومن هنا فقد توجه إلى الله تعالى بالدعاء قائلا:

 اللهم صن وجوهنا باليسار، ولا تبذلها بالإقتار فنسترزق أهل رزقك ونسأل شرار خلقك فنبتلى بحمد من أعطى وذم من منع وأنت من دونهم ولي الإعطاء وبيدك خزائن الأرض والسماء ياذا الجلال والإكرام.

إن اعتداده بنفسه وثقافته واضطراره للاسترزاق وإحساسه بوطأة ذلك ولد في نفسه نفورا من الناس لأنهم لم يقدروه حق قدره فزهد في كل شيء حتى كتبه ضن بها على مجتمع لا يقدر العلم، وما زال التوحيدي يقدم إلى نفسه وقود الغيظ والحفيظة حتى غلبه طبعه الجامح في أخريات عمره، فقدم كتبه طعمة للنار، حتى لا يكون بينه وبين العالم وشيجة من علم أو أدب أو دين، ثم كتب في ذلك رسالة مطولة تفيض بالألم اللاذع والحزن الوجيع.

وارتباط العلم بالمال مسألة أرقت أبا حيان فما فائدة العلم إذا لم يغن صاحبه؟!

لقد علل النفس وحاول تقبل الواقع وفلسفته لصالحه فقرر أن العلم والمال قلما يجتمعان ويصطلحان ويعلي من شأن العلم فيقول: فالعلم نفسي والمال جسدي والعلم أكثر خصوصية بالإنسان من المال وآفات المال كثيرة وسريعة لأنك لا ترى عالما سرق علمه وترك فقيرا منه وقد رأيت جماعة سرقت أموالهم ونهبت وأخذت وبقي أصحابها محتاجبن لاحيلة لهم والعلم يزكو على الانفاق ويصحب صاحبه على الإملاق ويهدي إلى القناعة ويسبل الستر على الفاقة وما هكذا المال.

ولما لم يحقق له العلم ما أراد أعلن هزيمته وانعزاله وصرخ شاكيا في مجتمع يقدر الناس بما يملكون لا بما يعلمون وكان المنطق يقتضي أن يتعاطف أبو حيان مع الفقراء الذين يشتركون معه في الشكوى من بطش الأغنياء ولكن ما أصابه من هؤلاء من ضرر جعله يلسعهم بسياط نقده كما فعل مع الأغنياء. فحين قام الفقراء بثورة على الأوضاع المتردية والتي أطلق عليها ثورة العيارين دخلوا بيت أبي حيان وسرقوا ما فيه ومن هنا أعلن ثورته عليهم ووسمهم بالبعد من الحق وتحدث عنهم باشمئزاز واستنكار فقال: وهذا الرهط ليس لأحد فيهم أسوة ولا هم لأحد قدوة لغلبة الباطل عليهم وبعد الحق عنهم..

وها نحن على مقربة من منتصف القرن الخامس عشر الهجري أي بعد ما يقرب من ألف ومئة عام من زمن التوحيدي. هل تغير الوضع وأصبح المثقف لا يشقى بثقافته؟!! 

 

مقالات من نفس القسم